خضنا جدلاً صديقي بابكر الوسيلة وشخصي، حول توصيف المشهد الثقافي المحلي، هل هو وسط ثقافي ام حركة ثقافية؟ وقطعاً سوف يستمر الجدل جدلاً كلما طرحنا قضايا الثقافة والمثقفين، لكونها متشابكة وغزيرة ووحلة في معظم مواقعها ومساحاتها، ولا يكون الخوض فيها سهلاً ولا الخروج منها ممكنا. تجدد السؤال حول هوية ثقافتنا ومثقفينا ملتبساً هذه المرة، بما حدث في منبر شركة دال للمواد الغذائية، في امسية الشاعر عاطف خيري وما طرحته الامسية من اسئلة ملحة وصعبة، كان اقلها صعوبة هو هل نتحدث عن وسط ثقافي ام عن حركة ثقافية؟ لو ان الشاعر عاطف خيري، عاد الينا في وقت سابق، لاستقبلته خرطوم ثقافية (وهذا ما قضي عليها لاحقاً كونها ظلت متمركزه حول ذاتها) شاهرة منابرها في وجوه مثقفيها، ولتواصل مع جمهور الشعر عبر منبر اتحاد الكتاب السودانيين، ومنبر معهد الموسيقي والمسرح، او ربما في مكان ما من جامعة الخرطوم، ربما دار النشر او دار الاساتذة او الميدان الشرقي،ولاستضافته اذاعة البرنامج الثاني، ومجلة الثقافة السودانية مثالاً. ولكنه عاد الينا وخرطومنا مجردة من كل منا برها، والفضاء المدني محاصر عسكرياً، باستصدار اذونات النشاط الثقافي اليومي من الجهات الامنية، وتسجيل المؤسسات الثقافية والمراكز والمنتديات والجمعيات والفرق والجماعات الفنية لدي الجهات الامنية ايضا. واغلقت هذه الجهات عدداً مقدراً من المراكز الثقافية، وسحبت تراخيصها، مركز الدراسات السودانية ومركز الخاتم عدلان وبيت الفنون و مراكز اخر، بحجج امنية وساسية من الطراز العالي. وظلت المراكز العاملة في ظل هذه الظروف، مراكز ومنابر مملوكة لافراد (راشد دياب- علي مهدي) مثلاً ، او مؤسسات وشركات (زين، دال، بنك فيصل الاسلامي) او مراكز اجنبية (البريطاني، الالماني، الفرنسي)، وهذه المراكز تتمتع بكافة الحقوق التي حرمت منها مثيلاتها وتمارس نشاطها وفاعليتها برضا الجهات الامنية والسياسية التي اثبت جديتها في الحد من حركة الثقافة والمثقفين، ورسم حدودها بتفصيل القوانين والباسها اياها بالقوة منذ مكافحة احياء ذكري الاستاذ مصطفي سيد احمد بقوات النظام العام، حتي مقاتلة احياء ذكري الاستاذ محمود محمد طه بكافة القوانين المقيدة للحريات. هذا النهج يجعل من حياتنا الثقافية (مجرد وسط) يتحرك فيه حفنه من المثقفين بلا روابط حقيقة تنظيمياً واجتماعياً وفكرياً،قابل للتفكك والسيولة فاقد للبوصلة، بطئ الحركة وردود الافعال، لذا لا تتقدم المبادرات فيه قيد انمله، هذا الوسط يمكن تعريفه بانه عبارة عن (شلة كبيرة) تنقسم داخلياً لعدد من الشلل ذات الميول الاجتماعية المشتركة. ولكن هذا الوسط محاصر بحركة ثقافية تتوفر لها كل مقومات الحركات ، بدء من قاعدة انطلاق مروراً بانجاز الاهداف انتهاء بالوجهة المنشودة، ولها كل عنف الحركات ، وهو وسيلة ضرورية لاي حركة، فما من حركة تذهب من بيتها الي بيت جارتها، مر السحابة لاريث ولا عجل، بل هي تعدو عدو وحوش افريقية تزلزل الارض وتخلع الافئدة. وهذه الحركة يمكن تعريفها بانها حركة استقطاب لتاريخ الثقافة السودانية ثم نفيه نفيا كاملاً، تمهيداً لاشاعة ثقافة اللاجدوي واللامعني، باسم الاتجاه الاسلامي او المشروع الحضاري ، او الوثبة، وما شابها من مجردات وعموميات تستخدم لطمس هوية الثقافة السودانية، ولذا كان سؤال الطيب صالح حول هوية هؤلاء، وعلاقتهم بالكابلي والمجذوب واولاد حاج الماحي (بالامكان استبدال الرموز، كما يمكن الاضافة والحذف)، سؤال مقاوم للطمس والعبث الذين يشكلان قاعدة انطلاق حركة الثقافة السودانية منذ اواخر ثمانينيات القرن الماضي، بدء من الاثار انتهاء بالمباني واسماء الشوارع والمدن. عليه المتاح الان للمثقفين هو وسط مخطط كاي مخطط سكني تابع لشركات عقارية وهندسية او جهاز الامن والمخابرات ، انه وسط يستوعب نشاط ثقافي محدود ومسموحاً به، تحيط به حركة ثقافية تحركها مجردات وعموميات فاعلة في طمس تفاصيل الثقافية السودانية ، فجردتها من كل ما يجعل منها حركة ثقافية فاعلة، فقضت علي نشاط المسرح والسينما باكراً، وحاصرت الغناء بحظره في الاذاعة المسموعة والمشاهدة، وضيقت علي التشكيل بدء من كلية الفنون الجميلة انتهاءً بصالات العرض، وتوقفت الاصدارات الثقافية والمهرجانات، فلم يتبقي للمثقفين غير ان يلجاءوا الي رعاية الشركات. فلذا ما كان لجمهور الشعر ان يلتقي عاطف خيري، الا في مباني شركة دال النائية جداً، والمحدودة بقوانين المؤسسة بكافة اقسامها من ادارة وجودة وتسويق وخطوط انتاج وحسابات، وحتي عودة اخري لعاطف خيري او غيره من الاحباء بالخارج سوف تنام الخرطوم بعد الوردية الاولي مباشرة.