السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقد الانتلجنسيا السودانية .... بقلم : هشام آدم
نشر في سودانيل يوم 28 - 02 - 2009

إن أولى مناطات البحث حول الانتلجنسيا السودانية هي محاولة الإجابة عن الأسباب التي أدت إلى عدم انتشار الأدب السوداني كما هو الحال في بقية الآداب الأخرى. ولعل هذا الأمر هو واحد من المعوقات الأساسية في سبيل لقاء الأدب السوداني حظه من الانتشار والنقد والتداول إقليمياً وعالمياً، وإن استثنينا الأديب والروائي العالمي الطيب صالح وشاعر القطرين محمد الفيتوري اللذان هربا من حصار القوقعة المحلية إلى عوالم أرحب، نجد أن بقية الأدباء السودانيين مازالوا محاصرين إن لم نقل مدفونين إما ذاتياً أو لأسباب أخرى يصعب حصرها نظراً للتغيرات المطردة في مناحي الحياة السودانية المختلفة: اجتماعياً وسياسية واقتصادياً وحتى تقنياً إذ أن دُور النشر والتوزيع السودانية تفتقر إلى أهم المقومات التي تجعلها لا تعي دورها الرسالي في حمل الثقافة والأدب على النحو الذي يجب، فتكتفي بدور الناشر والموزع السلبي على أساس ربحي ليس إلا. وتطوير مؤسسات ودور النشر لتقنياتها المهنية والحرفية وكوادرها وأدواتها في التعامل مع النصوص الأدبية هي واحدة من الركائز التي يعتمد عليها الأدب السوداني في عملية اختراق سوق الأدب العالمي. وأنا هنا حين أقول عالمي، لا أحصر العالمية أبداً في القراءات والكتابات غير العربية وإنما أقصد بها ما وراء السودانية عموماً.
إن غياب النقد هو أحد العوامل التي ساعدت على دفن التراث الثقافي السوداني، وما لم يجد الأدباء السودانيون طريقة لوصول أعمالها للنقاد فلن تجدي جميع المحاولات الفردية التي يقومون بها من جلسات استماع وقراءة ونشر في الشبكة العنكبوتية في محاولات متواضعة جداً منهم للوصول إلى المتلقين. فمعظم الأدباء السودانيون يكتفون بنقد المتلقي غير الأكاديمي والمتمثل في ردود أفعالهم سواء عبر وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة أو حتى موجة التصفيقات التي يتلقها في ندوة أو أمسية أدبية. ليصبح التصفيق أو مجرد الإشادات الفردية هو تيرمومتر النقد الأدبي السوداني. وهذا التواضع في الحقيقة ليس تواضعاً حميداً، بل هو تواضع المغلوب على أمره. وبدون محاولات شخصية أو مؤسسية جادة للوصول إلى حدود أبعد من المتاح فسوف لن يصل الأدب السوداني إلى مرحلة التداول التي تتيح بدورها لفت أنظار النقاد وبالتالي نيلهم الانتشار الذي يستحقونه. وعليه سيظل النقد مجرد أخوانيات تتداول في أروقة الأدب السوداني الضيقة من نقاد سودانيين إلى مبدعين تربط بينهم علاقات.
وبعيداً عن الحركات النقدية الجادة، نجد حركة يُمكن أن أسميها بالاكتشافات الفردية كتلك التي قام بها الروائي الفرنسي دو سان بول والأديب الفرنسي خافيير لوفان. وما قام به الشاعر يحيى العبدلي والدكتور سليمان يحيى محمد من تناول نقدي وتشريحي للأدب السوداني بجميع أنواعه، على مر العصور القديمة والمعاصرة. ورغم ما في هذه التجارب من غنى وجدية، إلا أنها تظل قاصرة عن تقديم الأدب السوداني بجميع خصوصيته كما يجب.
واحدة من معوقات انتشار الأدب السوداني، هو إيغال الأدباء أنفسهم في السودنة. ولا أعني بذلك أن الحل في سبيل ذلك هو التخلي عن التنميط المطلوب لكل أدب. ولكن أعني بذلك تلك الرؤية التغزلية التي يتعامل بها الأدباء السودانيون تجاه ثقافة سودانية جغرافية بعينها وهي ثقافة أهل البطانة والجزيرة على وجه التحديد، في محاولة منهم لإيهام القارئ السوداني والعربي أن الثقافة السودانية لم تنتج أنضج من هذه التجربة الثقافية المتفردة في لغتها ومفرداتها. فالمتتبع لنصوص الأدب السوداني وحتى على مستوى المسرح والدراما يجد التشدق والالتصاق الواضحين بهذه الثقافة والتي لا تعدو أن تكون واحدة من روافد الثقافة السودانية واسعة التعددية، وبالتالي لا يصح القول بتمثيلها لها.
والمطلع على الآداب غير السودانية يكاد يلحظ عدم اهتمام من قبل الأدباء بإعطاء قائمة تفصيلية بمحتويات تراث البيئة التي يكتب عنها إلا ما ينفذ منها من خلال وصوفات فنية صرفة، لا سيما في الآداب الأجنبية التي تهتم بالجانب الإنساني السردي على وجه الخصوص دون الدخول إلى تفاصيل تراثية أكثر خصوصية. مع التشديد على خصوصية الأدب المكتوب باللغة العربية المغاير لهذه الآداب حول كون اللغة تراثاً قي حد ذاته، وخصوصية هذه المتنقلة جغرافياً من بيئة إلى أخرى. علينا للخروج من هذا المحك أن ننتقل من حالة الاهتمام بأدوات الثقافة والتراث إلى الاهتمام الكامل بالثقافة والتراث نفسيهما، لأن هذه الأدوات – بما فيها من لغة - متغيرة بشكل دائم ومستمر. وإن كنا سنعول كثيراً على ميكانيكية التغيّر لتنتقل من أدوات التراث إلى التراث نفسه، فإن الحركة التأريخانية هي المقصودة في تعريفنا الأزلي للأدب وهو مناط اهتمامه الأوحد.
إن الأدب هو تاريخ الشعب المُصاغ بطريقة فنية – حتى لا أقول أكاديمية – والأدب الحقيقي هو الذي يستطيع أن يتعرف القارئ من خلاله على تلميحات واضحة وسريعة لمجمل الواقع للبيئة التي يتناولها النص الأدبي: سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتاريخياً وعسكرياً وأمنياً وكافة المرجعيات التي قد توضح جوانب البيئة بكل دقة. وعندها يصبح التشبث بأداة متغيرة هو نوع من الدوغمائية التي تعمل على قتل النص الأدبي وبالتالي على قتل المبدع أدبياً فيحول بينه وبين التطور من ناحية وبين الانتشار من ناحية أخرى.
ودون أن نلجأ للخوض عن مركزية الثقافة السودانية وهامشها، فإن ثقافة المركز الفعلية هي إنما خليط متميزة من جميع الثقافات السودانية المتعددة والمتشابكة، بغض النظر عن أسباب تشكل هذه الثقافة الوسطية من أسباب سياسية واقتصادية مختلفة على مر التاريخ السوداني المعاصر والقديم على حد سواء. ويمكن اعتبار هذه اللغة الهجين صالحة للتصدير دون اللجوء إلى التعريفات الجغرافية والإحالات المعرفية لها على أي حال. متخطين ورطة التشبث بعنصرية اللهجة الجغرافية ومتجاوزين لحدود جذورها التاريخية إلى أفق سوداني أرحب، يكون في العنصر السوداني أشد تعميماً وأكثر وضوحاً. وليس المجال هنا لسرد نماذج من ذلك فالواقع الأدبي السوداني مليء بهذه النماذج المقروءة والمشاهدة والمسموعة.
القائمة السودانية المدفونة تطول لتشمل أسماء تجعلنا نصاب بصدمة حقيقية عندما نعلم أن هذه الأسماء الكبيرة ما زالت تجهل طريقها إلى المتلقي العربي والعالمي، ولنا أن نتخيل وضع الثقافة والأدب السوداني إن كان أُتيحت له فرصة الوصول إلى خارج حدود القطر السوداني، لحصول المنافسة التي يستحقها مع نظيراتها من الثقافات والآداب الأخرى: علي المك، بشرى الفاضل، إبراهيم إسحاق إبراهيم، فضيلي جماع، عمر الدوش، مختار عجوبة، عبد العزيز بركة ساكن، محسن خالد، عيسى الحلو، محمود مدني، طارق الطيب، بثينة خضر، أمير تاج السر، محمد أحمد عبد الحي، يوسف عيدابي، محي الدين فارس، مصطفى سند، أبكر آدم إسماعيل، رانيا مأمون، ملكة الفاضل عمر، عاطف خيري، الصادق الرضي، عصام رجب، أنس مصطفى وغيرهم الكثير من الأسماء التي يجهلها حتى السودانيون أنفسهم ناهيك عن النقاد والمتلقين العرب وغيرهم.
وإذا أردنا الخوض في واحدة من هذه المناحي الأدبية في محاولة لتشكيل أنموذج نقدي لها، نجد أن لا أجدى من تناول الرواية السودانية كمثال أكثر خصوصية لحياة التراث والثقافة السودانية، وللوقوف على حركة الوعي والثقافة الكائنة في مجمل الأدب السوداني، لأن بقية الآداب لا تحتمل هذا العبء التاريخي أبداً إلا إذا استثنينا بصفة خاصة: المسرح والدراما والنصوص الملحمية. وعندما نتكلم عن الرواية فلا بد لنا عندها – دون نتعرض لمحاولة تقييم – أن نقف على عدد من أهم الروايات السودانية التي ساعدت كثيراً في التعريف بالبيئة والانتلجنسيا السودانية بشكل أكثر ملائمة لمتطلبات المرحلة الحالية من حالة "الانزواء" الأدبي أو المرحلة الجنينية إن جاز لي التعبير.
وإذا تناولنا رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" أو "عرس الزين" للأديب العالمي الراحل الطيب صالح، ورواية "الطريق إلى المدن المستحيلة" للروائي أبكر آدم إسماعيل أو رواية "أخبار البنت مياكايا" للروائي إبراهيم إسحاق سنجد أنه قد تكونت لدينا حصيلة مهمة جداً تساعدنا على فهم الشخصية السودانية من خلال فهم المعطى البيئي الواضح في كل رواية من هذه الروايات. وإذا رجعنا لروايات الطيب صالح التي نالت حظها الوافر من النقد والدراسات النقدية، بحكم عالميته، فإننا نجد أن بقية المنتوجات الأدبية للروائيين السودانيين لم تلق ذات الحظ، رغم أن معظمها لا يقل – من حيث الحبكة الدرامية واللغة ومقومات الرواية المعرفة – عن بقية روايات الطيب صالح. وإذا عرفنا أن المتلقي العربي أو غير السوداني بصفة أدق مستعد تماماً لمعرفة المزيد عن الأدب السوداني نجد أنفسنا أمام إشكالية أخرى تكمن في المبدع السوداني نفسه. الذي آثر الانزواء إلى عوالم الأسفير والأخوانيات، مكتفياً بذلك عن اقتحام حائط العزلة المضروب حوله إلى آفاق أوسع وأرحب.
إن الفهم المغلوط للأدب ولدوره، يُعد واحداً من أهم أسباب تأخرنا في مواكبة الآداب الأخرى ومجاراتها إن لم يكن سبقها، فليس الأدب وسيلة إمتاع ذاتية أو حتى جماهيرية بقدر ما هو حِرفة دبلوماسية في أسمى مقاماتها، وعمل تأريخي في واحدة من أهم خصائصها الداخلية. وربما كان ذلك هو السبب المباشر في نيل الطيب صالح جائزته العالمية، إذ أنه وعى تماماً هذا الدور الريادي للأدب، ونقل بحرفية لغوية تفاصيل الحياة والبيئة السودانية متمثلة في شخوص روايته. وبهذا المفهوم الحيوي للأدب نجد أن رواية كرواية إبراهيم إسحاق "أخبار البنت مياكايا" لا تقل أهمية وروعة عن رواية الأديب العالمي الراحل الطيب صالح. إذ يعتمد فيها الراوي على ديناميكية الصراع بين اللغة والأسطورة والتاريخ بجميع متناقضات هذه العناصر الحيّة والفاعلة. وكذلك قصة "عندما يهتز جبل البركل" أو رواية "صالح الجبل" للدكتور مختار ود عجوبة الذي يحتفي فيه بالخرافات متمثلة في شخوص روايته الذين لهم علاقات "سفلية" بعالم الجن والشعوذة كما هي في شخصية "فتح الرحمن" و "ود حبوبة" ولا يختلف اثنان على أن الروايتين لهما طابع استكشافي خطير جداً وهو أقرب إلى مزايا التنقيب في خبايا التراث والتاريخ، وما يجعل رواية الدكتور ود عجوبة رواية قيّمة بالفعل.
إن المهمة التاريخية الجسمية التي تقع على عاتق المبدع السوداني والناقد السوداني هي نقل هذا التراث الأدبي الثر إلى الآخرين، والانتقال من مرحلة إلغاء الآخر إلى اكتشافه، ومن مرحلة انتظار الآخر إلى الذهاب إليه لا سيما وأن الجو ملائم لمثل ذلك ، متى ما توفرت عوامل التفعيل الإيجابية. لأن المزاج الأدبي ليس مزاجاً ذاتياً صرفاً.
إن العلاقة بين المبدع والناقد أو فلنقل بين الكاتب والناقد على اعتبار أن الاثنين مبدعين هي علاقة لصيقة جداً، ولكن ميكانيكية هذه العلاقة ليست واضحة بالنسبة إلينا نحن كسودانيين، على وجه التحديد، وكعرب بشكل عام. الوضع الافتراضي لهذه العلاقة هي أبجدية كون الكاتب كاتباً في المقام الأول، والناقد قارئاً في المقام الأول. وعلى هذا فإن "وظيفة" الكاتب تنتهي بمجرد انتهائه فعل الكتابة والنشر للمتلقين، ويأتي هنا دور الناقد الذي يمارس "وظيفته" كقارئ، وعندما يستفزه نصٌ ما، فإنه يعكف على قراءته بعين احترافية هذه المرة. ومن هنا يتبين لنا أن الكتابة المستفزة "المبدعة" هي التي تجلب النقد، وبالتالي فهي المحرك أو الباعث الأساسي للحركة النقد. تماماً كالرسام الذي يستفزه منظر طبيعي ما، أو حالة شعورية معينة تجعله يشرع بتحليل هذه المشعورات والمرئيات ويترجمها إلى لوحة، ويبقى التحليل محصوراً في نطاق المدرسة التي يتعامل بها الرسام سواءً كانت إنطباعية أو تجريدية أو سريالية أو تكعيبية أو رمزية أو غيرها من مدارس الفن التشكيلي المختلفة. ومن مجمل هذه الدائرة الإبداعية نستطيع أن نوجد حدود الدائرة بالتركيز على تماساتها الكثيرة لنخرج في النهاية إلى حصيلة محددة هي: الفعل وردة الفعل.
مما سبق، نجد أن دور الحركة النقدية في حقيقته لا يقتصر على النقاد فقط، بل يقتصر على الكُتاب كذلك، فهي مسؤولية مشتركة، ومن الصعب أن نحدد هذه المسؤولية في نطاق جغرافي محدد، طالما أننا نتكلم عن "فن" أو "أدب" على اعتباره أحد روافد الفن الأكثر عبقرية. لا أزعم عنصرية أدبية، أو انحيازاً لهذا الجانب من الفن، ولكنه في نظري أكثر الفنون عمقاً ونضوجاً من الناحية الإنسانية. وعليه فلا نستطيع أن نقول أن النقاد المصريين "مثلاً" لا تقع عليهم مسئولية تتبع الحركات الأدبية في السودان "مثلاً" والعكس صحيح تماماً، فأنا لا أتكلم عن جغرافيا بل أتكلم عن قضية إنسانية في المقام الأول. الإبداع بغض النظر عن بيئة هذا الإبداع.
والنقد المقيد بجغرافية محددة، أعتبره في حقيقته نقداً مقنناً لا يُساعد على التطوير. وعندما أقول "تطوير"، فإنني أعني التطوير الذي يشمل حركة النقد، وحركة الأدب على حدٍ سواء. فالملكات النقدية تحتاج إلى نصوص تشعر الناقد بالتحدي أول الأمر، في محاولة لتفصيص النص الأدبي، لغور أسباره وكشف خباياه، ويظل ذلك مستحيلاً في ظل تكرار النماذج البيئة الموحّدة. وعليه فإنني أرى أن المسؤولية مشتركة بين الكُتاب والنقاد السودانيين من جهة وبينهم وبين النقاد العرب من جهة أخرى.
فيما يختص بتشبث الأنتلجنسيا السودانية بثقافة محددة، فإن الحديث عنها يطول ليأخذنا إلى جدلية المركز والهامش والتي تناولها الدكتور أبكر آدم إسماعيل بإسهاب وعمق شديدين، وتكلم فيها عن إشكالية الهوية كحجر زاوية في هذه القضية. وهذه الإشكالية تتمحور في كوننا عرباً أم أفارقة في المقام الأول. وهذه الإشكالية الموغلة في الإغراق قد تقودنا إلى معرفة عامة عن وضع الانتلجنسيا السودانية بشكل أكثر منهجية ودقة. وكما يرى الدكتور أبكر آدم إسماعيل – وأنا أتفق معه في ذلك – أن السودان بلد متعدد الثقافات، وأن مفهوم الدولة السودانية، ما هو إلا جزء أصيل من تراثها الإثني والديني والثقافي والتراثي ...إلخ. وهذه التعددية التي خلقت لنا تبايناً واضحاً في العادات والتقاليد والطقوس واللهجات أو حتى اللغات في بعض الأحايين كانت هي سر تغزل الأنتلجنسيا السودانية في فترة ما، غير أنها كانت هاجساً اكثر تأريقاً لهم فيما بعد. وحتى اليوم فإن المتحدثين باسم الثقافة السودانية مازالوا يتغزلون بهذه التعددية دون أن يكونوا قادرين على حل إشكالية الهوية بشكل قاطع وجذري.
وربما لم تكن مشكلة الهوية، مشكلةً بالبُعد الأدبي لها عندما نتحدث عن تاريخ السوداني القديم، وتحديداً في العهد المسيحي، ولكن دخول الإسلام إلى السودان هو ما أوجد هذه المشكلة "مشكلة الهوية" ومنذ تلك الحقبة التاريخية وهذا الدخيل يمتد في العمق مشكلاً مداً حضارياً يهدف إلى إعادة إنتاج الآخر داخل هوية هجينة "إسلاموعربية" كما يوضح دكتور أبكر. وحتى تلك الحقبة التاريخية لم يخلق هذا المد الحضاري أي إشكالية تذكر، إلا بعد أن انهيار الحضارة العربية والإسلامية بدأت الإشكالية بالظهور. واختصاراً يمكنني أن أقول أن طفح ثقافات محددة، ومحاولات تشبث الانتلجنسيا السودانية بها، ما هي إلا امتداد طبيعي لهذا المد الحضاري غير المبرر، واستعلائية غير معلنة، أو معلنة في مواطن أخرى. وهذا ما يُفسر التصاق الانتلجنسيا السودانية بها، فالمسألة ليست إشكالية هامش ووسط، بقدر ما هي إشكالية عروبة من عدمها. وارتباط مفهوم العروبة بالإسلام من ناحية، وانتقال اللغة العربية إلى السودان والبدء في تداولها منذ بدايات الفتح الإسلامي لأفريقيا من ناحية أخرى يجعل من هذه الإشكالية إشكالية شديدة الخصوصية والعمق. وفي ظل سيطرة جغرافية لثقافات كان لها دورها التاريخي البارز في تهديد الكتلة السودانية بشكلها التعددي الواسع. أو يمكننا أن نقول أنه استعمار الداخل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.