خربشات الأطفال على الجدران المتهدمة، ضوء خافت يتسلل ويأخذ ظلال الحوائط المتأكلة، بعض آثار تشير الى تاريخ من نفاق وجرائم: انتخبوا مرشحكم. الخرابات بعيدة عن المدينة التي فاحت بروائح غريبة، روائح نتنة تحمل رائحة البيض الفاسد، الخرابات هي المكان الوحيد الصالح في نظري للحب، فالشوارع ظلت لا تحتمل الحب، والمنازل اقفلت ابوابها في وجه المحبين، الدكاكين الصغيرة والبقالات الكبيرة قتلت الحب، الناس طاردوا الحب فقتلوه. أنا انتظرها وسط كوم من الأوساخ، وسط خرابات قديمة تحمل في داخلها ماضي ساكنيها، أنوار المدينة بعيدة وأنا انتظرها، كنت ممشوقا وكانت هي بداخلي تنتظر نفسها التي تأتي من الخارج، فيلتحم الخارج بالداخل عندي، الزمن لا يحتمل شكل الأرقام، المكان يصبح مكانا لأننا نريده هكذا، الهروب يأخذ معنى الانتماء، أنا انتظرها تأتي هاربة من تلك المدينة، لم تكن في شفتي غير أغنية وبعض أقوال أخذتها من مجنون يحلم بالخبز والملابس والعافية، يدي تبحث عما تتمسك به، قدماي تتحركان حركة عشوائية بحثاً عن التوازن، هل يكفيني أن اتوازن؟، انقب في ستار الظلمة عن خطوتها، احدق ملياً حتى احس بعيني كشرارتين، إنها لا تخاف الخرابات، لكنها تخاف مني احيانا: اخاف منك احيانا؟! أنا.. لماذا؟ لأنك تحب الخرابات..! تعني انك تخافين الخرابات؟ لا.. اخاف من الذي يحب الخرابات وأنت. الا تحبينها؟ انا.. أحبك وأخاف منها أحس بخطوتها تقترب. انا الآن في طريقي الى التوازن. تقترب اللحظة الحاسمة. اقتربت هي.. لا بد ان احدد مكاني في هذه الظلمة حتى لا تضل طريقا اليّ، قلت بصوت مشحون بالظلمة والترقب: انا هنا، تعالي بسم الله الرحمن الرحيم تعالي... انا هنا. اعوذ بالله من الشيطان. ركضت.. لماذا ركضت؟ ركضت وراءها، لا بد ان الحق بها، يبدو انها لم تتعرف عليّ، أركض وراءها. اقتربت منها صائحا: هذا انا، لا تخافي. لكنها لا زالت تركض نحو المدينة، اقتربت منها الى درجة الملامسة الشيطان.... الشيطان.... الشيطان.... لم تكن هي، وقفت وأنا الهث، كان رجلاً، كان احدهم، مجرد احدهم، العرق يتصبب مني، كان احدهم، هرب وترك وراءه إبريقا، حملت معي الإبريق، عدت وخطواتي متعثرة. سأحكي لها قصة الإبريق. لكن، لماذا اخذت شكل الرجل؟، لا، ليست هي، كان رجلا، احدهم فقط، لكنني رأيتها تركض فركضت وراءها بحثا عن التوازن، لا بد من انتظارها، إنها ستأتي، رجعت الى مكاني وسط الخرابات، بالقرب من كومة الأوساخ، تفقدت الجدران المتهدمة، خربشات الأطفال، الضوء المتسلل بين الحوائط المتأكلة، الآثار التي تشير الى تاريخ النفاق والجرائم، وانتظرتها وكأني انتظر لأول مرة وآخر مرة. كنت واثقاً من مجيئها لذلك فعلت كل شيء وأنا انتظر، وبين كل فعل وآخر كانت هي إشارة بعيدة لمعنى يقاوم صمت الزمان والمكان، لا استطيع ان اقول إنها تأخرت، فالزمن يرفض شكل الأرقام، كما لا استطيع ان اقول إنني انتظرت طويلاً لأن المكان يصبح مكانا لأننا نريده هكذا، هي كانت تأخذ ملامح كل شيء وآخر، لا بد انها ستأتي كما جاءت سابقا. ربما.. آه. ها هي ذي قادمة، انا احس خطوتها.. انها تقترب، خفت من ان اقول شيئا كما فعلت سابقا، خفت من صوتي عليها، إنها تقترب اكثر، تأتي ثاقبة الظلمة، تحركت نحوها. التقينا في منتصف الطريق، لا، ليست هي.. كان كلبا يبحث عن طعام، مجرد كلب، لماذا اخذت هي شكل الكلب؟، لماذا اخذت قبلها شكل الرجل؟، لا بد انها لا تأتي الا في اشكال مختلفة عن شكلها، ستأتي دوما آخذة شكل الأشياء الغامضة، لكنني اريدها بشكلها هي، لا بد من الذهاب اليها، الذهاب الى منزلها قبل ان تأخذ شكلا آخر، لا بد ان اذهب. خطواتي سريعة، مليئة بالشوق اليها، وصلت طرف المدينة، صفعتني أنوارها، انا الآن في الطريق اليها والإبريق في يدي، نباح كلاب متواصل، الليل يبدو من خلال نافذة مفتوحة، الأزقة شاحبة يسيطر عليها نور خافت، بعض الأغنام تجتر ما في جوفها، حفل عرس في طريقي، كان مذيع الحفل يطالب بالنظام، جلسة بعض السكارى، عربة مرت، تنبعث منها موسيقى غربية. انا في الطريق اليها، الليل لا يمنعني، لا احد يمنعني، وصلت الى بابها، وقفت برهة، طرقت الباب، الإبريق في يدي، طرقت مرة اخرى، لم يأتِ احد، ماذا لو جاء أخوها او أبوها؟، لا يهم، طرقت، طرقت، طرقت بعنف، فتح الباب اخيرا، كانت هي نفسها، تثاءبت وضفيرتها على صدرها، مسحت عينيها وقالت: أنت؟ نعم أنا لماذا أتيت؟ أتيت إليك لكن... في هذا الوقت؟ الوقت يرفض شكل الأرقام ماذا تريد؟ أريد ان ادخل أدخل؟ ،كيف؟! - كما يكون الدخول أنت مجنون ما العلاقة بين الدخول والجنون؟ العلاقة هي أنت. اريد ان ادخل... ادخل... ادخل... ادخل اصمت، ادخل قبل ان تصرخ تحركت خطواتي كي ادخل. ما هذا؟، لا استطيع الدخول، أنا انمو، اصابعي تنمو، يداي تنموان، قدماي تنموان، جسدي ينمو، كل شيء فيّ ينمو، حتى الإبريق ينمو، صرت عملاقا، عنقي ارتفع عاليا، نظرت الى الباب رغبة في الدخول، كان الباب صغيرا وكانت هي لا تساوي قدماي في الحجم والطول، كانت لا تساوي الإبريق. لا استطيع الدخول؟ لماذا؟، انت قلت إنك تريد الدخول قلت، لكني لا استطيع الدخول وماذا افعل أنا؟ اخرجي نعم؟ اخرجي اخرج؟، كيف؟ كما يكون الخروج. أنت مجنون؟ ما العلاقة بين الخروج والجنون؟. العلاقة هي أنت. اخرجي .......... اخرجي.. اخرجي لا استطيع، لا استطيع لماذا؟ .......... اخرجي... اخرجي أنا... أنا.... أنا؟ أنت ماذا؟ أنا.. أنا... أنا أنثى ركضت هاربا منها أنا أنثى.. عملاقا كنت اركض، اركض حتى الصباح، رجعت الى المنزل، خرجت الى العمل والإبريق في يدي، انتظرت الحافلات، الإبريق في يدي، ركبت الحافلة، الإبريق في يدي، دخلت المكتب، الإبريق في يدي، تهامس الزملاء، الإبريق في يدي، دهش المارة في الشوارع حين عودتي، الإبريق في يدي، قابلت امي وإخواني وأخوتي، كل العائلة حتى صورة والدي المتوفى والإبريق في يدي، قالت امي وهي تنظر الى الإبريق: من أين هذا الإبريق؟ الإبريق؟... ها هل سمعت عن الشيطان؟ شيطان؟ شيطان الخرابات، ذهب احدهم يتبول هناك فطارده شيطان. بحثت عن عصا، وجدتها، خرجت من المنزل، العصا في يميني والإبريق في يساري، توسطت شارعا، رفعت العصا بعد ان وضعت الإبريق وانهلت على الإبريق ضربا وصرخت: إنها لا تساوي الإبريق تجمع الناس حولي وأنا اضرب الإبريق وأصرخ: إنها لا تساوي الإبريق... إنها لا تساوي الإبريق... إنها لا تساوي الإبريق.