قد شاع أن قدر الإنسان الحرية، فكذلك قدر الإنسان المعرفة. فكانت وصية الإنسانيين أن تكون جسور من أجل أن تعرف وكذلك أن تكون جسور من أجل أن تعلم وهذا هو التحدي الذي يحمله التنوير. ففي رصيد الأنوار وحدة الإنسانية وحب الإنسان. وفي حب الإنسان لا تشغلنا خطابات الهوية بقدر ما تشغلنا المسؤلية وقيمة الحرية. فالحرية تجعلك تؤمن بالآخر، فوجود الآخر المختلف يعطي معنى للحياة. ففي ميثاق حقوق الإنسان لم يك خلق لقيم جديدة ولكن إعادة لضبط قيم كامنة في آداب العالم منذ فجر الحياة. فالجهد الإنساني مسؤل من خلق عوالم الإنسان ونجد ذلك في أفكار حنا أرندت التي توصف فيها الجهد الإنساني في خلق قيم الحرية والمساواة التي لم تكن منحة طبيعة بقدر ما إنها جهد إنساني. وكذلك يتوافق معها جون راولز في نظريه العدالة التي تؤكد على التفاوت في القدرات بين البشر، ولكن يحل لغزها في البعد الإنساني في ضلع الأخاء الذي جسدته الثورة الفرنسية في شعارها الخالد الحرية والمساواة والأخاء. ألم تكن الثورة الفرنسية البنت الشرعية لأفكار الإنسانيين الكبار أي كل من فولتير وجان جاك روسو والموسوعي ديدرو؟ ألم يبتهج الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت بإنتصار الثورة الفرنسية؟ نعم كان إيمانويل كانت يفتخر كما كلود ليفي إشتراوس بأن أستاذهما هو سيد القرن السادس عشر الذي يعتبر قرن الإنسانيين بإمتياز وهو ميشيل دي مونتين. أيام ميشيل دي مونتين في القرن السادس عشر يصادف أيام قيام دولة الفونج التي لم يخطر على بالها إلا سؤال الهوية الذي مازال صداه يتردد في أشعار حركة الغابة والصحراء. والعودة الى سنار لمحمد عبد الحي سؤال الهوية الذي يعمي عن وحدة الإنسانية التي قد أصبحت مهمومة بالحرية وليست الهوية. أدب الغابة والصحراء والعودة الى سنار قد أوقعنا في قبضة إسلاميي السودان وخطابهم الديني المنغلق الذي لا يؤمن بوحدة الإنسانية بل يبحثون دوما عن التمايز عن الآخر الذي يعطي معنى للحياة في نظر الإنسانيين. في الأدب السوداني سؤال الهوية وحركة الغابة والصحراء قد أدخلنا في ورطة الإسلاميين في الفكر الأصولي وإستحالة التأصيل كما يشرح صاحب مشروع الأنسنة محمد أركون. مازال الإسلاميون يطرحون أسئلة ماقبل إيمانويل كانت في مسألة الكون والله. أما إيمانويل كانت فقد عكس السؤال ما هو الإنسان وأي أمل له في الله. لذلك مهما زعم الإسلاميون من مقاربات في شأن الحرية فالحرية حتى عند أكثرالأسلاميين إعتدال تنحصر في مجال الاسئلة التي تسبق عصر إيمانويل كانت و محاولاته في مسألة جعل الدين مقبول في حدود العقل. إيمانويل كانت كان متأثر بفلسفة ديكارت وكما تأثر أيضا بفلسفة اسينوزا الذي يختلف قليلا مع فلسفة ديكارت. فنجد تأثر إيمانويل كانت واضحا في الأخلاق كما تحدث عنها اسبينوزا. ونلاحظ أيضا تشابه فلسفة اسبينوزا مع فلسفة نكولا دي كوسا الذي يسبق اسبينوزا بقرنين من الزمان حيث تتقارب أفكار كل من اسبينوزا اليهودي الذي حاولت طائفته قتله بسبب أفكاره مع نيكولا دي كوسا المسيحي في فكرة تقترب من فكرة الفيض الالاهي لمحي الدين بن عربي وكذلك فكرة التلازم والقسور. لذلك عند الإسلاميين لايستطيع الإنسان أن يخلق عوالمه التي تجسدها أسطورة برومثيوس الذي جسدها الشاعر أبو القاسم الشابي في هكذا غنى برمثيوس اي الجبار. فعند ابو القاسم الشابي يستجيب القدر لإرادة الشعوب عكس أدب الغابة والصحراء الذي يبحث عن هويته في سؤال لا يعرف معنى الكينونة كما في أدب مارتن هيدغر الذي لم يشغله سؤال من أنا وماذا أعمل. لاحظ سؤال من أنا في قصيدة العودة الي سنار لمحمد عبد الحي. فالعقل الذي يجعل الدين مقبول في حدود العقل يجعلك تؤمن بالأخر الذي يؤمن بأن العقل اليوناني قد خرج من الأساطير اليونانية التي تؤمن بأن خلق الإنسان من أجل محاربة الخواء الذي يريد الإسلاميون جر العالم بأكمله إليه بخطاب ديني منغلق. والعقل الذي يجعلك تجعل الدين الذي يؤمن بمقولة في البداء كانت الكلمة مقبول في حدود العقل يجعلك تؤمن بمقولة الفلاسفة في البداء كانت الأسطورة. أيها الشعب السوداني أقرب اليكم أبو القاسم الشابي في هكذا غنى برومثيوس من محمد عبد الحي في العودة الى سنار. وكذلك أقرب إليكم برمثيوس من إسلاميي السودان. وأقرب إليكم فاوست في تحمله للمسؤلية من حسن الترابي الذي لا يتحمل مسؤليته. لأن أسئلته أي الدكتور حسن الترابي تسبق عصر إيمانويل كانت في بدائيتها. فلا يمكن أن تقدم أجوبة الدكتور حسن الترابي فهما للدين لكي يكون مقبول في حدود العقل. بل يحاول الدكتور حسن الترابي في أجوبته على أسئلته التي تقف في تخوم فهم ما قبل أفكار التنوير أن يجعل التمايز الذي يعتبر القلب النابض بإثارة محكاة الغريم التي لا يتأتى منها إلا العنف كما في أفكار رينيه جيرارد الذي قد منحت أفكاره محمد أركون براح في منهجه في تفكيك الخطاب الديني. لهذا السبب أي في أجوبة الترابي على أسئلة بدائية مقارنة بأسئلة إيمانويل كانت أنظر ويمكنك أن ترى العنف الكامن في أجوبة الترابي وفكرة عرس الشهيد. فالتمايز عن الأديان الأخري والتمايز عن الأمم الأخرى فكرة يكمن في أحشائها عنف الإسلاميين وعدم إيمانهم بوحدة الإنسانية كما تؤكدها فلسفة الإنسانيين. وما يؤكد بدائية أجوبة الترابي على أسئلة ما قبل التنوير النقد الذي وجهه محمد أركون لكتاب الترابي في حوار دار بينه والغنوشي يصف محمد أركون كتاب الدكتور حسن الترابي بأنه كتاب تقليدي فيه خلط كبير في المصطلح ومسألة التحقق التاريخي وملئ بالفوضي المفهومية. في أسئلة الإنسانيين يصبح الإنسان غاية عكس مفهوم الترابي في أن الإنسان وسيلة لتحقيق ملكوت الله وعند الإنسانيين ملكوت الله هو الإنسان نفسه. وتأكيدا لذلك في فكر الإنسانيين أي كل من هوبز وجون لوك وجان جاك روسو يستطيع الإنسان أن يعطي نفسه التعريف الذي يناسبه. فرجال الدين في كل الأديان غليظي القلب مع الآخر المخالف كما وصفهم الفنان العالمي نصف القسيس فنسنت فان غوغ. والدليل على غلظة قلوبهم عند إكتشاف أمريكا كان رجال الدين يتناقشون فيما إذا كان الهنود الحمر يعتبروا نفوس أي بشر؟ ألم يتعامل خطاب الإسلاميين اليوم مع الأقليات غير المسلمة كما تعاملت الكنيسة مع الهنود الحمر والدليل على ذلك أعراس الشهداء؟ أيام الحروب الدينية في فرنسا كان ميشيل دي مونتين يحمي أصحاب المذهب المخالف لمذهبه من بطش أبناء مذهبه لأنه قد كان مؤمن بالمذهب الإنساني. ميشيل دي مونتين في نقده للمركزية الأوروبية وتعاملها مع الثقافات الأخري بأحكامها المسبقة وصفها للشعوب الأخرى بالبربرية والتوحش يعكس الصورة ويرى أن شعوب الهنود الحمر أقرب الي الطبيعة التي تتفوق على كل ما هو ثقافي. ويعكس الصورة ويرى أن الشعوب الأوروبية هي التي تتحكم فيها البربرية مقارنة بشعوب الهنود الحمر الأقرب الى الطبيعة. بل يبحر في الماضي متخيل الحوار مع إفلاطون في مثاليته ويقول لإفلاطون أن البربرية هي المثالية نفسها أي الجنة التي يبحث عنها إفلاطون في مثاليته. حوار ميشيل دي مونتين المتخيل مع إفلاطون لأن الإغريق يعتبرون الشعوب الأخرى شعوب بربرية. لماذا يرى ميشيل دي مونتين أن البربرية في نظر إفلاطون هي مثاليته نفسها. لأن في نظر ميشيل دي مونتين أن كل ثقافة تحكم على الأخري عبر قيمها هي فحينما يرى الأوروبين بربرية الشعوب الأخرى لأنهم حكموا على ثقافات الشعوب الأخرى وفقا لقيمهم الأوروبية. نفس المستوى من إحترام الثقافات الأخرى نجده عند كلود ليفي إشتراوس حينما دافع ورفض فكرة أن توصف ثقافات الشعوب الأخرى بأنها بدائية. لذلك كان كلود ليفي إشتراوس يفتخر أن إستاذه سيد القرن السادس عشر أي ميشيل دي مونتين. ونفس حوار مييشيل دي مونتين المتخيل ونقده لمثالية إفلاطون نجده عند عالم الإجتماع العراقي علي الوردي في رفضه لمثالية إفلاطون. فعلي الوردي من المحبين لابن خلدون ومنطقه الإستقرائي الذي يقطع أسباب السماء عن الأرض كمسرح إنساني. لذلك لم يجد علي الوردي التقدير من الشيوعيين والقوميين ورجال الدين. اليوم خطاب الإسلام السياسي المنغلق مثل خطاب أثيناء حينما كانت ترى في الشعوب الأخرى البربرية والتوحش. فلا يمكن إصلاح خطاب الإسلاميين لأن أزمة الفكر الأصولي تكمن في إستحالة التأصيل كما يقول المفكر محمد أركون. ما يحفظ للكنيسة رغم بطشها في عصور الظلام أنها قد إحتفظت بالنصوص اليونانية القديمة وكذلك بنصوص تعكس عبقرية الرومان في ما يتعلق في جانب التشريعت والقوانيين وهذا ما سهل الطريق أمام الإنسانيين في إنجاز مشاريعهم الى أن وصلوا الى مرحلة قد إكتشفت فيها الإنسانية أن مقولة في البداء كانت الكلمة أخت شقيقة لمقولة في البداء كانت الأسطورة. وهذا ما يجعل الشعوب الغربية تفتخر أنها وريثة العقل الإغريقي و الروماني. وهذا ما يحاول المفكر محمد أركون إنجازه في فكرة الأنسنة وقد تسلح محمد أركون بمنهج هائل جمع أركولوجيتة ميشيل فوكو وحتى جنيالوجية فردريك نيتشة وكذلك فكرة التمايز الذي تجسده فكرة محاكاة الغريم لرينيه جيرارد التي تفسر محاولة المسلمون في التمايز عن الشعوب الأخري ومنها يتولد العنف الكامن في قاع المجتمع البشري منذ ليل الحياة. محمد أركون يحاول في سبيل الأنسنه التي يفتخر الأوروبيون بأنهم خير من جسدها أن يجد لها أثر في الفكر الإسلامي ولسوء الحظ لم يجدها إلا في أدبيات الشخصيات القلقة أي في الأدب الإسلامي المرفوض. لذلك جاء مجهود محمد أركون من أجل الأنسنة عبر دروب وعرة وقد حورب وكفر. ففي ظل عالم إسلامي تشغله مشكلة المعاصرة والأصالة وجعلت العالم العربي والإسلامي في حالة صراع ما بين من يدعون الى فكرة الإصالة ومن يدعون الى المعاصرة من يستطيع أن يقبل أفكار الإنسانيين في الأدب الإسلامي. فكما رفض إبي حيان التوحيدي وحورب كذلك شقيقة في الروح كما يقول محمد أركون قد رفض اليوم في ظل خطاب إسلامي لا يمكن أن يقبل أفكار محمد أركون المتجسدة في فكرة الإسلاميات التطبيقية والفكر الأصولي وإستحالة التأصيل. اليوم قد أصبح الخطاب الديني الإسلامي المنغلق في مأذق ولا يمكن الخروج من من فشل الإسلاميين إلا بخطاب الإنسانيين. [email protected]