الربيع العربى يضخ دماءا جديدة فى العلاقات بين واشنطنوالخرطوم افضت ظاهرة الربيع العربى الى تغيير قواعد اللعبة السياسية والأمنية والاقتصادية فى منطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط وأحدثت ارتباكا فى موازين القوى الدولية وانعكست بشكل لا تخطئه العين على الاوضاع الداخلية لدول الإقليم مع تنامى ظاهرة التطرّف والعنف باسم الاسلام والتخوفات من انزلاق دول اخرى الى حزام انهيار الدول وغياب السلطة المركزية كما هو حادث فى ليبيا واليمن وسوريا والعراق وتمدد تنظيم الدولة الاسلامية الذى يوظف العنف والترويع لتحقيق اهدافه . السودان بالطبع ليس جزيرة معزولة عما يدور حوله بل هو مرشح رغم هشاشة الوضع فيه وحدوث حالات من النزاعات المسلحة لان يلعب دورا محوريا فى حفظ الامن الاقليمى . ومن هذه الزاوية يمكن قراءة المشهد السياسى السودانى وتسارع وتيرة فتح قنوات الاتصال بين الخرطوموواشنطن وكل طرف يمتلك وسائل وأدوات ضغط ومطامع يريد تحقيقها . أمريكا والغرب تغيرت رؤيتها بشكل جزئي تجاه السودان ليس بسبب تحولات داخل البيت السودانى او لتحقيق الحكومة لشروط واشنطن المتصلة بوقف الحرب فى دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان وصيانة اوضاع حقوق الانسان والديمقراطية حتى يتم تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع اليانكي ورفع السودان من القائمة الامريكية للدول الراعية للارهاب ونزع العقوبات الامريكية التى دشنت عام 1997 من عنق الخرطوم المختنقة بمالات العقوبات الاقتصادية الامريكية . الولاياتالمتحدةالامريكية تدفعها شواغلها الأمنية لأحداث تغيير نسبى فى سياساتها نحو الخرطوم وتخفيف حدة العقوبات الاقتصادية بصورة متدرجة لإعطاء السودان حوافز للمضى فى الاتجاه الجديد، وفى ذات الوقت تحتفظ واشنطن بالثقل الرئيسى من العقوبات كورقة ضغط على الخرطوم وبذا تتحول تكنيك السياسية الامريكية تجاه الخرطوم من سياسية العزلة الى الارتباط والاحتواء ولكن هذا مجرد تغيير فى التكتيك لإنفاذ الاستراتيجية ألأمريكية فى السودان . وكما هو معلوم فان أمريكا بعد احداث تفجيرات برجى التجارة فى نيويورك فى سبتمبر 2011 أضحت تركز على منطقة القرن الافريقى وشمال افريقيا من منظور الخطر الأمنى باعتبارها محيط حيوى للامن القومى الأمريكى نسبة لتواجد تنظيم القاعدة وحلفائه فى هذه المنطقة لا سيما فى الصومال والجزائر . الى جانب اتخاذ التنظيم من الصومال قاعدة انطلاق مع انهيار الدولة هناك . وأصبحت الاوضاع اكثر خطورة لواشنطن بعد سيطرة الجماعات المتطرفة على الاوضاعا ميدانيا فى معظم دول الربيع العربى ، فأصبح للسودان الدولة المغضوب عليها دورا جديدا يجب ان تلعبه للحفاظ على الامن الاقليمى فليبيا المنتجة للنفط والمشاطئة لأوربا على البحر الأبيض تتمزق وتبرز فيها جماعات متحالفة مع القاعدة وداعش مع غياب للدول المركزية .. ومصر تعيش على صفيح ساخن مع تمدد التوتر والعنف بين الدولة والجماعات الاسلامية . على الجوار الغربى تعانى تشاد من صراعات متقطعة بين الحكومة والتمرد المسلح فى دولة هشة وفقيرة وعلى ذات الشريط الحدود الغربى ضاعت ملامح الدولة فى افريقيا الوسطى وتشتد وتيرة الحرب الأهلية بين مليشيات الاسلامية والمسيحية . اما الجار الجديد جنوب السودان فهو غارق حتى أذنيه فى أتون الحرب والنزاع المسلح ويشكل توسع العنف فيه خطرا على منطقة شرق افريقيا ومنطقة البحيرات احدى مستودعات الموارد الطبيعية للدول الغربية . اما على نطاق الجوار الشرقى فنجد ان اثيوبيا هى الدولة الوحيدة الأكثر استقرارا ولكنها لا تخلو من حركات متمردة . وخلف اقليم دارفور المثقل بجراح النزاع المسلح يتمدد خطر الحركات الاسلامية المتطرفة فنجد تزايد أنشطة مجموعة بوكو حرام وتمددها من نيجيريا نحو النيجروتشاد وعلى مرمى حجر هناك الجماعات المتطرفة التى تحارب الحكومة المركزية فى دولة مالى .وفيما يخص الاوضاع فى تشاد وإفريقيا الوسطى ومالى فهى معاقل نفوذ تاريخا لفرنسا وتبرز حوجة باريس لإسناد سودانى فى هذا الإقليم وتبادل للمعلومات الأمنية والتنسيق المخابراتي . وعلى شواطئ باب المندب والبحر الأحمر يقف تنظيم القاعدة وحركة الحوثيين الموالي لإيران واليمن هى دولة محورية لأمن الخليج والبحر الأحمر وهى البوابة لقناة السويس اكبر معبر لنفط الخليج المتجه لمصانع الغرب وأمريكا المتعطشة للطاقة علما بان 12% من التجارة الدولية تعبر من خلال قناة السويس حسب تقرير حديث صادر عن صحيفة الديلى نيوز الامريكية . وقد بدأت لعبة كسر العظم فى هذا المحور بين السعودية وإيران بتخفيض السعودية لاسعار النفط العالمى للضغط على ايران اقتصاديا لتغيير سياساتها فى سوريا والعراق والبحرين وكان رد ايران بسيطرة الحوثيين على اليمن واشعال مزيد من التوتر فى البحرين ومحاولة نقل الخطر الايرانى الى جوار المملكة مباشرة . وهنا ايضا يبرز رغبة كل طرف فى جذب السودان لمحوره نسبة لإطلالة السودان على البحر الأحمر وموقعه الجغرافي فى جوار مصر ولبيبا وعلاقاته مع حركة حماس وبعض الجماعات الاسلامية فى المنطقة وقد أشار تقرير الأكاديمى ريك ريفز المثير للجدل الذى نشر فى العام المنصرم للأوراق التى يحتفظ بها السودان فى الإقليم للمساومة والتى يمكن ان تكسبه نقاطا فى الصراع الدولى والاقليمى على منطقة الشرق الأوسط وشمال وغرب افريقا ومنطقة القرن الافريقى . هذه المتغيرات فى الخارطة الإقليمية دفعت واشنطن وبعض الدول العربية لتصويب نظرها تجاه الخرطوم لتقوم بدور محورى لحفظ الامن خشية من تمدد خطر التطرف الإسلامى والتمدد الايرانى . والسياسة بالتأكيد ليست ميدانا لاجترار مرارات الماضى ولكنها تحكمها قواعد المصالح المشتركة وهذا يفسر التحرك فى منظومة الدول الحليفة مع أمريكا للتهدئة مع الخرطوم والانتقال من سياسة العصا الى مربع الجزرة ولكن بحذر فائق حتى لا تاكل الخرطوم كل الثمر ثم تنقلب على الساحر . وفى هذا السياق يمكن قراءة زيارات مساعد رئيس الجمورية ووزير الخارجية لواشنطن ورفع الحظر جزئيا على اجهزة الاتصال ومن قبل على المعدات والاليات الزراعية وكذلك الرسائل الناعمة من الرئيس اليوغندي بالتلويح بطرد المعارضة المسلحة السودانية المتواجدة فى كمبالا وزيارات الرئيس عمر البشير لبعض دول الخليج والقاهرة بعد طول فتور . وتخشى دول الغرب ان يفضى اى تغيير جذرى او عنيف فى السودان الى انهيار الدولة السودانية فيكون السودان أرضا خصبة حاضنة للحركات المتطرفة وانزلاق السودان للهاوية سيدفع كل الإقليم الهش الى القاع وسقوطه فى ايادى داعش والجماعات الاسلامية المتطرفة . هذه الاوضاع الإقليمية وصراع المحاور أدى لتبادل مناديل الغزل والرسائل بين واشنطن وبعض العواصم العربية من جهة والخرطوم من جهة اخرى لتكون حكومة السودان جزءا من النشاط الاقليمى والدولى الساعى لتجفيف منابع التطرّف الإسلامى الذى يهدد حكومات وعروش المنطقة ويزعزع الامن القومى الحيوي لأوربا وأمريكا وهنا تبرز لعبة المصالح من كل الأطراف . وهذا الدور الجديد يتطلب من الخرطوم وقف التعاطف مع الحركات الاسلامية فى المنطقة وهذا اتهام دائم يلاحق الحكومة ويوتر علاقاتها مع الخليج وبعض دول الجوار . هذه التطورات دفعت الغرب لدعم مبادرة الحوار الوطنى التى اعلنها الرئيس البشير فى العام الماضى لتكون جسر التواصل لامتصاص حالة النزاعات والاحتقان السياسى فى البلاد بالتوازى مع تقدم مسارات التفاوض مع حاملى السلاح فى دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان . لان السودان لن يكون فى مقدوره لعب الدور الاقليمى الجديد والانتقال للمربع الجديد بدون التوصل لتسوية سياسية تغلق ملفات النزاعات المسلحة وحالة الاستقطاب السياسى التى قد تؤدى فى المدى البعيد الى انهيار الدولة السودانية . وبعد تعثر خطى الحوار الوطنى بدأت فى الغرف المغلقة أوراق ومقترحات أوروبية وفى مقدمتها المقترحات المقدمة حاليا من معهد ماكس بلانك للدراسات الألمانى والرامية لفتح كوة الحوار والتسوية السياسة . الى جانب ودخول وسطاء جدد مثل رئيس جنوب افريقيا جاكوب زوما الذى زار الخرطوم الشهر الماضى والتقى مؤخراً بقيادات الحركة الشعبية بعد ان فشلت مجهودات وسيط الاتحاد الافريقى ثامبو أمبيكى فى احداث أية اختراق فى الأزمة السودانية . الحكومة تدرك التعويل الاقليمى والدولى عليها للقيام بمهام جديدة أبرزتها المخاطر التى تحيط بالإقليم واضحت تناور لاقنتاص اكبر مكاسب سياسية واقتصادية مع اتساع الأزمة الاقتصادية التى تمثل اكبر هاجسا للحكومة بعد فقدان السودان ل 75% عائدات النفط عقب انفصال الجنوب . وتحاول الحكومة السودانية المساومة على ورقة الامن مقابل تغاضى الغرب عن مطالبه وشروطه السابقة وتستغل الأثر السلبى للمتغيرات فى الإقليم الذى افقد فصائل الجبهة الثورية خطوط الامداد بعامل اشتعال الاوضاع فى جنوب السودان ولبيبا وتحسن العلاقات بين الخرطوم وإنجمينا وتتجه الخرطوم نحو كمبالا لمحاصرة الحركات وحرمانها من خطوط الامداد . نعم قد تؤدى هذه الخطوات الانية لتضييق الخناق على المعارضة المسلحة ولكنها على المدى الطويل لن تفضى لإنهاء وجود الحركات المسلحة لان المشكلة سياسىة فى المقام الاول تبدو بانعكاسات عسكرية وأمنية ولكن جذورها سياسية . ولن تحسم الأزمة الا على طاولة التفاوض وبذا لن تستطيع الحكومة السودانية الانتقال الى المدرج الجديد الا بترتيب البيت الداخلى لان التسوية السياسية هى الرافعة للقيام بالدور الاقليمى . نعم المحور الاقليمى والدولى يضع بعض بيضه فى سلة السودان ولكنه لن يسمح ان تفضى مناورات الحكومة او المعارضة لكسر السلة وتحطيم البيض ، لذلك هو يمارس تكتيكات الضغوط والحوافز على الحكومة والحركات المسلحة والمعارضة السياسية لدفعهم للتوصل لمعادلة سياسية جديدة تؤمن مشاركة حاملى السلاح وبعض فصائل المعارضة فى السلطة حتى تبعد شبح الحرب الأهلية عن السودان والإقليم . ربما تكون هذه المخاطر هى مبعث التحركات الامريكية والاوروبية والخليجية نحو السودان ولكن من نافل القول الحديث بان من يضع الاجندة فى هذه الحالة يرتبها حسب أولوياته لا وفقا لمصالح الدولة السودانية . وتمظهر هذه الوضع من قبل فى اتفاقيات السلام مثل نيفاشا التى أوقفت الحرب ولم تصنع السلام ولا الاستقرار السياسى لغياب لبعض الإرادة السياسية السودانية وتغييب قوى سياسية واجتماعية اخرى عن الاتفاق ، مما أدى لإعادة انتاج الأزمة من جديد لان الاقصاء دوما يؤدى لتوتر جديد ومحاور وحروب جديدة . كما ان تجربة الخرطوم فى السابقة فى التعاون مع أمريكا فى مكافحة الاٍرهاب بعد تفجيرات نيويورك لم يؤتى أكله للحكومة السودانية لانه لم تجنى منه تبدل فى الاستراتيجية الامريكية تجاه السودان لعدم وجود رؤية واضحة موحدة فى السياسية الخارجية السودانية تجاه أمريكا . وثانيا لعدم مقدرة واشنطن تجاوز مجموعات الضغط الداخلية التى تنشط فى الملف السودانى ولذا يصير من الصعب حدوث انتقال سياسى ودبلوماسي كبير فى العلاقة بين البلدين بدون إيقاف النزاعات الداخلية فى السودان وحدوث نوع من الانفراج السياسى وتوسيع المشاركة فى السلطة وإدماج حاملى السلاح وبعض قوى المعارضة فى الحكم . دون ذلك سيستمر منهج التعاون الأمنى لصالح أمريكا بدون مكاسب سياسية رئيسية تجنيها الخرطوم من هذا التعاون لان ساكن البيت البيضاوى ينظر دوما لصندوق الاقتراع واسترضاء مجموعات الضغط فى اى خطوة سياسية علنية فى السياسة الخارجية الامريكية . الى جانب ذلك فان إدارة اوباما فى مرحلة "البطة العرجاء" لانها فى عامها الأخير وستجرى فى العام المقبل انتخابات الرئاسة الامريكية ودوما لا تجرى الإدارة الامريكية قبيل الانتخابات تحولات كبيرة فى السياسة الخارجية يمكن ان تؤثر على فرص حزبها فى الفوز مرة اخرى لا سيما فى ظل هيمنة الجمهوريين على الكونغرس حاليا . وهذه الاوضاع تقلل من مقدرة الادارة الديمقراطية الحالية على اتخاذ تغيير جذرى فى سياساتها نحو فى السودان خوفا من ان يستثمر الجمهوريون هذه الخطوات ضدها فى الانتخابات المقبلة خاصة ان الرئيس اوباما موسوم أصلا بالتردد فى اتخاذ قرارات حاسمة فى سياسة أمريكا الخارجية . كما ان أهداف السياسة الامريكية لا تتغير بضربة لازب ولكن تتبدل وسائل تحقيق هذه الأهداف . ومراهنة الخرطوم على التحولات الإقليمية فقط واهمال الأزمات الداخلية يجعلها تعول على رمال متحركة تجرى فيها تقاطعات للمصالح الدولية وتوازنات إقليمية ومحلية قابلة للتغير فى أية لحظة وهى بالطبع خارج سيطرة الخرطوم . * نقلا عن صحيفة السودانى . [email protected]