أقرب إلى القلب: (1) السفراء في العادة يوفدون للعمل بالخارج لتمثيل بلادهم، ويحمل الواحد منهم صكوكاً من رئيس الدولة، تخوله تمثيله عند الدولة التي يوفد إليها، وتقع عليه مسئولية حماية مصالح بلاده، ورعاية أحوال جاليتها في البلد الذي هو معتمد فيه، والعمل على تطوير العلاقات وتوثيقها مع ذلك البلد. والسفراء الذين يتولون هذه المهام هم فئتان: الفئة الأولى تكون في الأصل من الدبلوماسيين المهنيين الذين تمرسوا في العمل الدبلوماسي. أما الفئة الثانية فهم سفراء يتم اختيارهم من خارج نظام السلك الدبلوماسي، وذلك تقليد سائد في بلدان عديدة، متقدمة ونامية، لكنه اختيار يضبط عادة بمعايير تتصل بطبيعة المهمة التي اختير لها ذلك السفير، وطبيعة تخصصه وتميز قدراته، كما أن هذه الفئة من المعينين سياسياً يحدد تعيينهم بنسبة مئوية، في أكثر الدول تتراوح بين 10% و15% ، من جملة سفراء السلك الدبلوماسي، لا أكثر. (2) ولأن السفراء بشر غير منزّهين من الوقوع في المزالق التي تعترض قيامهم بتلك المهام، فبعضهم ينجز مهامه بنجاح، وبعضهم وهو قليل قد تفشل ريحه في بعض الأحوال، ويضعف كسبه. والسفير عرضة لمزالق ولمطبات فيما هو يقوم بواجباته ويعالج التحديات الماثلة. وقد يتم إنهاء مهمته قسراً أو قطعها قبل اكمال فترة عمله، لسببين. أولهما إن وقع منه فيما لا تقبل به الدولة المعتمد لديها، فيكون من حق تلك الدولة أن تعلنه "شخصاً غير مرغوبٍ فيه"، وذلك تبرير راسخ في أدبيات العمل الدبلوماسي، ومنصوص عليه في الاتفاقيات الدولية التي تضبط قواعد العمل والممارسات الدبلوماسية. أما الحالة الثانية التي يتم فيها إنهاء المهمة قسراً أو قطعها، فهي حين تقرر الدولة التي أوفدت ذلك السفير، إنهاء مهمته لأسباب تخصّها، دون أن يُعلن عن ذلك. يلاحظ أنه في كلا الحالتين، قد لا يفصح صراحة بالأسباب التي أفضت إلى إنهاء مهمة السفير، سواءً في حال انهاء مهمته من دولته، أو في حال إعلانه "شخصاً غير مرغوبٍ فيه" من طرف الدولة التي اعتمد فيها. تلك من تقاليد الدبلوماسية الراسخة، ولا يُكسر التقليد إلا في حالات استثنائية وصارخة. (3) لعلي أحتاج لأقرّب الصورة، للقاريء الذي لم تتح له معرفة تفاصيل تقاليد وممارسات دبلوماسية، قد تبدو غامضة ولا تفسير واضح لها. أضرب مثلا بقصة استدعاء سفير من إحدى سفارات السودان، عشت تفاصيلها، وقد وقعت قبل سنوات بعيدة، وربما تكون المرة الأولى التي يشار فيها في صحيفة إلى هذه القصة.. لقد عملتُ في سفارة للسودان في دولة أفريقية شقيقة، أول عهدي في العمل الدبلوماسي، فجرى تعيين سفيرٍ فيها تعييناً سياسياً من خارج السلك الدبلوماسي. لم يكن من تقاليد وزارة الخارجية وقتذاك، أن تعدّ برامج تنويرية وتأهيلية للسفير الذي يجري تعيينه من خارج السلك الراتب في وزارة الخارجية، فجاء السفير إلى سفارته بعد أن غادر رتبته العسكرية ببدعٍ عديدة ليست من التقاليد المتبعة في الممارسات الدبلوماسية في شيء، بل كانت محض ضلالات لا تصدر إلا عن متفقه دعيّ، ليس له من العلم شيء..! كان الأمر واضحاً لنا، ولي أنا شخصياً، برغم قلة خبرتي في العمل، لكن ما تلقينا من تدريب مكثف في رئاسة الوزارة، أعانني على استبصار المطبات التي أدخلنا إليها ذلك السفير، والمزالق التي صعب عليه الخروج منها وقد غطس فيها إلى الأذنين، كما يقال. (4) الذي وقع فيه ذلك السفير، أنه ابتدر معركة شخصية لسببٍ واهٍ، في حفل خاص أقامه القنصل السوداني في داره لزملائه من السفارات الأفريقية، وكنا حضوراً فيه. جاء السفير السوداني فجأة إلى ذلك الحفل، واحتد مع القائم بأعمال دولة أفريقية شقيقة بصورة فظة وغير لائقة، وتسبّب في حرج بالغ، آثر بنفسه أن يغادر الحفل بعده. لدرء الحرج، جرى تقديم اعتذار من طرف القنصل السوداني للقائم بأعمال تلك الدولة الأفريقية الشقيقة، والذي كاد أن يغادر الحفل غاضباً، وأنا من شهود تلك الحادثة المفتعلة. غير أن تلك الواقعة، وإن كانت قاصمة الظهر، فإنها شكلتْ ما يمكن إضافته إلى ما ارتكب ذلك السفير من أخطاء فادحة، ما كان ممكناً لأعضاء بعثته الدبلوماسية، السكوت عليها أو غضّ الطرف عنها. هكذا فقد توتر جو العمل داخل السفارة، توتراً أحدث شللاً في أداء السفارة، فما كان من مناصٍ سوى رفع الأمر برمته إلى رئاسة وزارة الخارجية، خشية أن يؤول الحال إلى أسوأ ممّا هو عليه آنذاك، كما جرى إطلاع القيادة العليا التي اختارت ذلك السفير، على ما ارتكب من أخطاء. وفي أقل من أسبوع، لم يكن مفاجئاً لنا أن اتخذت قيادة الدولة قرار الاستدعاء العاجل لذلك السفير. برقية الاستدعاء، والتي وفق التقليد المتبع، تأتي مشفرة بالرمز ومصنفة "سري للغاية"، لا يتجاوز عدد كلماتها العشرة أو أقل، يقول نصّها ..."مطلوب منكم الحضور فوراً إلى رئاسة الوزارة. قف نكرر فوراً". حين اطلع سفيرنا على كلمات الاستدعاء تلك، ابتسم ولم تأخذه ريبة في الأمر بل ردد أمامنا أنه يعلم أن القيادة العليا بصدد إجراء تعديل في التشكيل الوزاري، وأنه يتوقع شيئاً في هذا الصدد. ربما في زعمه، أن يعرض عليه منصب وزير الدولة بوزارة الدفاع..! وقفتْ السفارة بكامل عضويتها بما في ذلك الملحق العسكري في جانب، وسفيرها الغارق في أوهامه وحيداً، في الضفة الأخرى. كان واضحاً لنا أن هذه من الحالات النادرة التي تقدم فيها رئاسة الوزارة على التخلي عن سفيرٍ لها، وتؤازر في المقابل أعضاء بعثته..! (5) غادر الرجل بأول طائرة إلى الخرطوم، وكنا جميعاً في وداعه بمطار العاصمة اليوغندية في "عنتبي"، وبيده حقيبة يد صغيرة "سامسونايت"، تحوي بعض ملابس وبعض أوراقٍ ومستندات. الذي حدث بعد ذلك صار أشبه بما يقع في المسلسلات الكوميدية. أقبل الرجل على المسئولين في وزارة الخارجية يستفسر عن طبيعة استدعائه، فما وجد إجابة شافية. لم تكن ثمة أخبار في الأفق عن تعديلات في التشكيل الوزاري. سأل: ما الأمر إذاً..؟ قالوا له : "اسأل القصر..!" ذهب الرجل إلى "القصر"، والقصر هنا هو مقر قيادة الدولة العليا، فوجد الأبواب كلها مغلقة في وجهه. وقف حائراً لأيام عدة، ثم بدأ رحلة الاستجداء في وزارة الخارجية، يطالب فقط أن يعود أدراجه إلى سفارته في كمبالا. كان ردّهم حاسماً: "لا.. قرار القيادة العليا أن لا تعود إليها ثانية!" تلك توجيهات عكست غضبة القيادة العليا على ما ارتكب الرجل من أخطاءٍ، رأتها غير مغتفرة.. ألحّ ذلك السفير على قيادة وزارة الخارجية، وطلب إن كان ممكناً أن يعود لسفارته على الأقل، لجمع حاجياته ومتعلقاته الشخصية، فردّت عليه أن "القصر" أيضاً لا يقبل ذلك الطلب. بعد تداول طويل في الأمر فيما أتيح لي من استقصاءٍ لاحق أمكن لوزارة الخارجية بالنظر إلى تقاليدها الراسخة والمرعية، أن تقنع "القصر" بأن يتم تشكيل لجنة يكلف برئاستها أقرب سفير لسفارة ذلك الرجل. تمّ كل ذلك التداول، دون أن تكون القصة مضغة يلوكها الناس أو الدبلوماسيون في أروقة الوزارة ، ناهيك أن تكون حديثاً تخوض فيه الصحف أو الإذاعات. كنت أنا عضواً في تلك اللجنة التي رأسها السفير ميرغني سليمان خليل وهو عسكري متمرس ودبلوماسي خبر العمل بالبعثات الدبلوماسية لسنوات غير قصيرة. أنجزت اللجنة جرد متعلقات ذلك السفير، وأشرفت السفارة على شحنها إلى الوزارة، أخر الأمر. كست وجه السفير ميرغني مسحة حزن، وأسر لي أن الرجل قد استنصحه فلم يخذله وكان واضحا معه، لكنه لم يستمع لنصح ميرغني. (6) هذه قصة مؤسفة ومثال صارخ لسفير جاء تعيينه على عجل فلم يتفهم مهمته جيداً، ولم يعرف حدود اختصاصاته، ولا طبيعة مهامه، فتخبط من مزلقٍ إلى مزلق، ومن مطبٍ إلى مطب، فانتهت مهمته التي لم يقضِ فيها سوى أشهر معدودات. النظر الموضوعي كان يستوجب أن تلوم وزارة الخارجية نفسها لتجاهلها توفير تأهيل للسفير المعين قبل ابتعاثه لسفارته. انتهت القصة بكاملها، لكنها ظلت حبيسة أضابير وزارة الخارجية السرية وفق المتبع، ولا يعرف تفاصيلها إلا القليلون. خرجتْ من قلمي الآن، بعد أكثر من ثلاثين عاما من حدوثها، وقد صارت تاريخا كاد ينمحي..! حين أسمع هذه الأيام عن الأسلوب الذي استدعيَ به سفيرٌ دو خبرة من إحدى أهمّ بعثاتنا في الخارج، وممّا راج ونطقت به ألسنة الناس، ولا أجد نفسي متحققاً من مصداقيته، لكنه كان حديثاً متداولاً بكثافة، وجدتني أزداد دهشةً وعجبا. السفير الصديق عوض محمد الحسن، صاحب القلم الصحفي الناصع، كتب عن مهنية ذلك السفير، حديثاً منصفاً، يليق باحترامٍ نكنه جميعاً لذلك السفير الكبير. أعرف أن كلام السفير عوض لا يصدر إلا عن حرصٍ ووفاء للمهنة الدبلوماسية، وعن ابتدارٍ صادقٍ لنصح يفيد.. لا يتم الاستدعاء وبأسلوب غير معتاد، وعلى رؤوس الأشهاد لسفير مُميز كان يجلس يوماً على قمة هرم وزارته الإداري، فيتناقل خبره زملاؤه في دهشة واستغراب واستنكار هامس، إذ تسرّب الخبر إلى الصحف. التقليد الذي تعتمده الممارسة الدبلوماسية في كل أصقاع الأرض، هو أن يتم الاستدعاء عادة، مثلما أبنت أول مقالي هذا، وفق قرار يصاغ صياغة رمزية وسرية، لا يتاح بل ولا يسمح إلا للمعنيّ بها وهو السفير رئيس السفارة في هذه الحالة الاطلاع على فحواها. مع تقديرنا للواقع الجديد، الذي تطورت فيه وسائل الاتصال، وقد أحدثت ثورة عارمة في أساليب التواصل، فإنه من الضروري أن نُبقى قدر الإمكان على التقاليد التي تحفظ للسفير الذي يمثل رأس الدولة، احترامه وتقدير مكانته، وصون اسمه وكرامته، والتعامل معه بما يليق.. (7) نعلم تماماً أن أسلوب الدبلوماسية العتيق في حفظ الأمور بسرية عالية، وتجنب الإفصاح عن دقائق العلاقات الدبلوماسية إلا بحرصٍ وبمقدار، يراعي اعتبارات عديدة، هو أسلوب عفا عليه الزمن، وطوته سنوات "الحرب الباردة"، وصارت العلاقات بين الدول والشعوب، تقع تحت دائرة الضوء، ولا يفلح أبداً التعتيم عليها. غير أن من الضروري قدر الإمكان، أن لا يقع مساسٌ بكرامة سفير بصورة علنية، وأن لا يتم ما يشبه التقريع بكلامٍ سافر في أجهزة الإعلام أو في الصحف السيارة. للسفير مقام جليل، ينبغي أن يكون الحرص على احترامه مُقدماً على موجبات مساءلته واستيضاحه. وإن كان لابد من المحاسبة، فهي أدعى أن تتم بسرية، وبعيداً عن بصر الإعلام ومروّجي أخبار الإثارة. ما يمسّ مقام السفير قد يمسّ بداهة، مقام رأس الدولة التي كان يمثلها ذلك السفير، وتقلل من رمزية تلك السيادة وهيبتها.. [email protected]