سجّل السودان في العقد المنصرم رقماً قياسياً جديداً في مجال التطوّر البشرى يُضاف الى أرقامه القياسية اﻷخرى (أكبر البلدان مساحة في أفريقيا، وفي العشرة اﻷوائل في ترتيب أكثر الدول فساداً، والعشرة اﻷواخر (الطّيش) في ترتيب اﻷمم المتحدة للتنمية اﻹنسانية، وفي حرية الصحافة، وفي طيب المعيشة وغيرها)، إذ قفز (أو في الحقيقة طَفّر) في مجال العمارة من العصر الحجري (الجالوصي/القشّي/ الفخّاري) إلى العصر السيراميكي (الرخامي/اﻷلومنيمي وربما الفسيفسائي قريباّ - ولعلّه بين ظهرانينا ونحن لا ندري). وانظر حولك في سماء الخرطوم، وفي قلبها الذى سكت عن الخفقان ليلاً، وأطرافها المترهلة، وأحيائها الجديدة والقديمة، الفاخرة والبائسة، المُخطّطة والعشوائيّة، ترى البروج السامقة والصروح المُشيّدة من الفولاذ والزجاج والرخام والألومنيوم، التي نَمَتْ كما ينمو الفطر السام في الغابات العَطِنَة، لامعةً مزهوّةً بنفسها ومُستفِزّة، تُطلّ على المدينة الغبشاء المترامية اﻷطراف من عَلٍ، وتَمدُّ لها ألسنتها الزجاجية البرّاقة. هذه هي مقار وزارات الحكومة ومؤسساتها وقوّاتها المسلّحة وأجهزة أمنها وشرطتها، ودواوين زكاتها، وبيوت العاملين عليها، ومساجدها، وجامعاتها، وشركاتها العامة، والشركات "الهجين"، والشركات "البروس" التي لا نَسَب لها، والشركات الوهمية التي تدمغ على جباهها ومؤخرات سياراتها الفارهة "استثمار"، والمصارف محلّيُّها وأجنبيّها، وترى قصور أغنياء حرب ما خمَدتْ الّا لتَسْتعِر، وأغنياء السلام، وأغنياء الخصخصة، وأغنياء "الانفتاح" على المال العام. ما يُثير العجب في هذه الطفرة الكبرى وحلول عصر السيراميك والرخام، أن هذا العصر السعيد يتزامن - ولا أقول يتعايش- مع العصر "الجالوصي" و"القشّي" و"القصبى" الذى استمر في معظم أنحاء البلاد حتى يوم الناس هذا. قُرون وقُرون والسودانيون يبنُون بيوتهم وأسوارهم واستحكامتهم ومساجدهم وقباب أوليائهم من "الجالوص"، يُجلّدونه بروث البهائم حمايةً وزينةً، أو يبنونها من القصب وجريد النخيل والقشِّ أو ما تيسّر في بيئاتهم، ويصنعون من الطين المحروق( الفُخّار) أواني طبخهم وأكلهم وأباريق وضوئهم وأباريق قهوتهم وأزيارهم. وكان أهلي الشايقيّة رأس رمح ذلك العصر الجالوصي ومهندسِيه، بنوا(وهم حفدة بُناة أهرامات نورى) الخرطوم ومدن الصعيد وبحر أبيض والغرب اﻷوسط. وحين أتى العصر "الصفيحي" في القرن الماضي، كان السمكرية حُداته وأساطينه، يستخدمون الكاوية وقضبان اللحام في مهارة فائقة، ويصنعون من ألواح الصفيح العاطلة أعمالاً فنيّة بديعة التصميم والصنعة: أباريق الوضوء، وأكواز الماء(ذات القعر الزُجاجي الذى يُمكّنك من التأمل في أقدامك المُشقّقة المتربة وأنت تشرب)، و"حُقَقْ السعوط" اﻷسطوانية الشكل، ومُعدات القهوة المختلفة:"الشرَقْرَقْ"، و"الجَبَنة" - وهى كلمة أمهرية وفدت الينا من أثيوبيا مع البُن – الكبيرة للمنازل، وا"لجَبَنات" الصغيرة "المِينى" للمقاهي(وذلك قبل غزو ستات الشاي)، وحقائب السّفَر المطليّة باللون اﻷخضر 66 (اللون الرسمي لجمهورية الخرتيت آنذاك)، والصفائح "القُران" التي كانت من أهم مستلزمات الحج الى بيت الله الحرام. ثُمّ حلّ العصر البلاستيكي واضمحلّ العصر الصفيحي إلى غير رجعة. اختفت صفائح "غاز الغزالة" وصفائح بنزين "شل" و"سكونى فاكوم" حين اصبحت المواد البترولية تُنقل "بالتناكر" وتُوزّع بواسطة مضخّات البنزين اليدوية والكهربائية، واحتلت اﻷدوات واﻷواني المصنوعة من البلاستيك الساحة وسيطرت عليها تماماً: "الجركانات" من مختلف اﻷحجام واﻷشكال تستخدم لنقل الماء، والزيوت، والعسل، وكافة السوائل المُباحة وغير المُباحة. وحين تطوّرت صناعة البلاستيك وشملت كافة احتياجات اﻹنسان، ظهرت في خمسينات القرن الماضي "السفنجات"(وكانت صيحةً داويةً في عالم الموضة قبل أن تُصبح مما ينتعل الناس في البيوت وينتعل المساكين خارجها)، واﻷحذية و"الشباشب" البلاستيكية (الروقة وحدوقة للنساء، والشدّة للرجال). وحين بلغ العصر البلاستيكى أوجَه، ظهرت في اﻷسواق حبال البلاستيك التي قتلت فَنْ "فتْل" الحبال من اﻷلياف الطبيعية واستُخدِمت لتجليد الكراسي ولكل غرض آخر، ثم الكراسي واﻷثاثات اﻷخرى المصبوبة من البلاستيك، وأكياس البلاستيك المتينة لجمع النفايات (وكانت في العصر الجالوصي تُسمى الوِساخة)، وأكياس البلاستيك الخفيفة التى احتلت مركزاً هاماً في الحياة اﻹقتصادية واﻹجتماعية في السودان - و لا تزال-تُستخدم لكل ما يخطر على البال : لتعبئة الفول السوداني (المَرَرُو) عِوضاً عن عِلَبْ الصلصة المقلوبة " المَخفوجة" القُعُور، والتسالي، ومشترياتك الموزونة من البقالات البلدية (قبل انتشار السيوبر ماركتات) والبهارات، والفول المصري والزيت، وللنقل اﻵمن لعصائر البلح والذُرة المُقَطّرة. ثم انتقلتْ هذه اﻷكياس بعد أن أدّت دورها إلى كل ركن من أركان مدن السودان وقراه، تُزيّن أسوار السلك الشائك والشجيرات والميادين بألوانها الزاهية. ثُمّ هبط علينا فجأةً العصر السيراميكي الرخامي (ولعلّه عَبَر البحر اﻷحمر هو وعادات ومفردات وسلوكيات بلاد العرب البترولية)، و"فجّ" لنفسه مكاناً مرموقاً -وإن كان ضيقاً- وسط العصور المختلفة، و"تحكّر". أثار هذا التزامن والتزاحم بين العصور فضولي وقلقي، وهو تزاحم قد يقود إلا الاحتكاك والنزاع وربما "الدواس". وخشيت أن يكون في ذلك أعراض مرضٍ نفسىٍ عُضال أصاب المجتمع السوداني، لعلّه فصام الشخصية الحاد (الشيزوفرينيا)، أو ربما "تعدُد الشخصيات المرَضِى" . فللسودان الآن شخصية تعيش في العصر السيراميكي/ الرخامي، ناعمةً ناضرة ، تأكل أطيب الطعام ( وترمي معظمه)، يجرى المال في يدها جريان الماء في شلالات السبلوقة (زمان)، تسكن القصور المحصّنة، وتركب السيارات الفارهة، وتقضى إجازاتها وتُودع حساباتها في "عواصم الجمال" القديمة غرباً والجديدة شرقاً، وتُرسل أطفالها إلى أفضل المدارس والجامعات، وتتواصل مع غيرها ومع العالم بالأنترنت سريع الذوبان .وللسودان، في نفس الوقت، شخصية أخرى تعيش في العصر الحجري، تسكن في كهوف الجالوص والقطاطي، وتأكل 'أم شِعيفَه" و"البوش" و"الدكوه" بالطماطم ( في الشتاء)، وتتواصل بالحبال الصوتية ( عووووووك! - ولامن مُغيث)، تُمضي سحابة يومها في طلب الرزق صعب المنال، وتلهث للحصول علي تكاليف الدراسة والعلاج والكهرباء والماء، وما يسدّ الرمق. ترسل أطفالها إلى مدارس مُهمَلة مُكتظّة لا تصلح "للاستهلاك البشري"، مُهمّتها إضافة الألاف المؤلّفة إلى جيش "الفاقد التربوي" الذي يسوم هواميك الصين في الطرقات ومحطات الحافلات، ويقود عِلب الموت المسمّاة ب"الأمجاد" و"الركشه"، يكسب بها رزقه ويدهس بها خلق الله، والقلّة التي تُكمل "نصف" تعليمها في جامعات العلم المُعلّب في المذكرات ومحاضرات الأساتذة الرُحّل، تنضم إلى جيش آخر هو جيش الخريجين الباحثين عن العمل، اليائسين ،الكاظمين الغيظ إلى حين . إن ساورك الشكّ في صحة تشخيصي للحالة السودانية بأنها "شيزوفرينيا" حادّة، أنظر حولك بعين فاحصة، وتأمل حالنا وأحوالنا، وسلوكنا، وسلوك حُكامنا، وسلوك صفوتنا وعَوامِنا، ومبانينا، وشوارعنا، و"يِفَطِنا"، وملابسنا، وطعامنا، وشرابنا، وموسيقانا، ورقصنا، وتلفزيوننا واذاعاتنا (وما أكثرها)، وصحفنا (وما أكثرها هي اﻷخرى)، ترى العصر السيراميكي/الرخامي "يتحكّر" فوق العصر الحجري والجالوصي والقشّي و"البُرامي". وانظر – حماك الله – على سبيل المثال لا الحصر، الى طقوس أعراسنا لترى "الشيزوفرينيا" في أبهى حُلَلِها: يصل العروسان في "الليموزين الممطوط"، ويدخلان الصالة على قرع الطبول النوبية أو أنغام "الزفّة" المصرية (اتمخطري يا حلوة يا زيناااا)، ثُم على أنغام "مارش" الزفاف الجنائزي وارد بلاد العجم، واﻷغاني اللبنانية والغربية، ليرقص العروسان الرقص البطئ، ليعقب ذلك فرقعة "الساون" -كما يدعونه – وطبلة أذنك، بأغاني الحماسة الجعلية و "العَرْضَة" بالسيوف وسياط "العنج"، وسط الزغاريد وكميات تجارية من مساحيق ومراهم وأصباغ التجميل المتنافرة دائماً، المُنفّرة أحيانا، والتي تكفي "لتجيير" بوابة عبد القيوم وتزيد! نسأل الله السلامة! [email protected]