انما الأمم الأخلاق ما بقيت... فان هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا... ان التردي السياسي و الاقتصادي و الثقافي في الساحة السودانية قد فاقم من خطورته و عمق من أزمتنا و جعل حل هذه الاشكالات مستعصيا هو ذلك التردي الأخلاقي المصاحب علي مستوي الفرد السوداني و الذي يكاد يطغي علي كل هذه الأشياء مجتمعة تماما. علي هذا الأساس فان أي مشروع تغيير سياسي قادم لا يستصحب أهمية أو عملية اعادة تأهيل الفرد السوداني أخلاقيا و تغييره بالضرورة يعتبر مشروع ناقص أو فاشل تماما و لا يمكن المراهنة عليه في الأمد البعيد. المصيبة الكبري انه عندما نتكلم عن الأخلاق يتبادر الي أزهان الكثيرين من بيننا مفهوم المخالفات الدينية و اعتبارها عملا لا أخلاقيا مما يجعلنا في حاجة الي اعادة تعريف الأخلاق من جديد و الفصل بين مفهوم القيم الأخلاقية الانسانية المجردة و منظومة المعتقدات الدينية و محرماتها. كما أنه لا يوجد تعارض أو تنافس بين المفهومين لأن الأديان جميعها أقرت بالنظم الأخلاقية الانسانية و لم تضف الرسالة الاسلامية الخاتمة لهذه النظم الأخلاقية الا القليل بغرض الاكمال و التكميل و التزكير و ليس الهيمنة و خلط الأوراق كما يحدث الان. كما أن المفارقة العجيبة في زماننا هذا ان يتم وصف المخالفات الدينية الشرعية و ارتكاب المحرمات بأنها أعمال غير أخلاقية بينما يغض الطرف عن مفارقة مكارم الأخلاق الحقيقية المجردة و لا يتم اعتبارها عملا شنيعا أو معصية دينية كمفارقة الصدق و الحب و الأمانة و ممارسة الغيبة و النميمة و التجسس و غيرها و كانها ليس من الاسلام في شيء. من جانب اخر فانه اذا قمنا باجراء اختبار عملي للمقارنة بالمطلق لقياس درجات الصدق و حب الخير و عدم الأنانية وسط النخب السودانية في الحكومة و المعارضة و وسط عامة الشعب السوداني فحتما ستوكن النتائج كارثية و محبطة للجميع. هذا التردي الاخلاقي العام المقصود به و المسئول عنه أولا و أخيرا هو تلك الافة الحقيقية أس البلاوي السودانية و التي تسمي زورا و بهتانا بالنخبة المثقفة لأنه ليس من الانصاف و لا المنطق توجيه مثل هذا اللوم و تحميل المسئولية لمواطن في يعاني الأمرين في معسكرات النازحين أو تحت القصف الجوي في مناطق النزاعات أو تحت وطأة الفقر في أطراف المدن و الأرياف الفقيرة. هذه النخب البرجوازية الصغيرة السودانية التي بدات غريبة و مأزومة و معزولة و يتيمة في نشأتها الأولي مع بدايات التعليم الحديث و الحكم الثنائي قد فاقم من محنتها الداخلية أمراض البرجوازية الصغيرة الموجودة في كل أنحاء العالم المتمثلة في الهلامية و الانتهازية و عدم الاستقرار الطبقي و قد ذاد علي طينتها بلة عندنا عدم وجود قيم أخلاقية مهذبة أو رادعة لها و عدم وجود تنويريين حقيقيين و فلاسفة و هيومانيستس سودانيون ينادون بغرس هذه القيم الأخلاقية المجردة الي الان. لذلك فان أي مشروع سياسي سوداني مستقبلي لا يرتكز علي اعادة تأهيل هذه النخب المثقفة تحديدا تأهيلا أخلاقيا و تنويرها تنويرا حقيقيا و غرس قيم الخير و الصدق و الحب و الجمال فيها سيكون مشروع غير محمود العواقب و لا يمكن أن نراهن عليه عمليا مثله في ذلك مثل المشاريع الوطنية السابقة و هذا موجود في كل أنحاء العالم. لهذا فنحن في أمس الحاجة الي صياغة مشروع انساني أخلاقي قيمي يكون نواة لتأسيس و نقطة لانطلاق مشروعنا الاجتماعي السياسي الوطني القادم لانه في ظل الوضع القائم قد أصبح مفهوم الوطنية اداة للتسلق و المزايدة و الانتهازية من هذه النخب في الحكومة و المعارضة معا و قد تجاوزه الزمن و أضحي من المستحيل تأسيس أي مشروع سياسي علي أطلاله المهترئة. اذا نحن في حاجة الي صياغة مشروع انساني يؤدي الي انتاج مشروع اجتماعي و الذي يؤدي بالضرورة في النهاية الي التوافق علي مشروع سياسي وطني. هذا المشروع الانساني لكي يتم انجازه يحتاج الي مجموعة من المفكريين التنويريين النورانيين الحقيقيين الذين عرفوا قيم الحب و الصدق و الجمال في أنفسهم أولا ليقوموا بعد ذلك بتنزيل تلك القيم الانسانية و المفاهيم المجردة الي عامة النخب المثقفة و البرجوازية الصغيرة و التي بدورها تقوم بتنزيلها الي عامة الشعب بطريقة أكثر تبسيطا. في خضم هذا كله فأنا أعتبر نفسي هيومانيست خجول و فيلسوف متواضع لا أقوي علي انجاز عمل بمثل هذه الضخامة الا بمعاونة اخرين ان وجدوا و لذلك وجب عليهم الافصاح عن أنفسهم بالكتابة و التقويم في ذات الموضوع لتتم عملية التواصل معهم. قد يتسائل سائل أو معترض و يقول لماذا تتم الدعوة لمشروع انساني و ليس ديني اسلامي و مغالطات من هذا القبيل؟ و الاجابة البسيطة هي أن أكثر من خمسة و تسعين بالمئة من القيم الأخلاقية الانسانية المجردة موجودة في الاسلام و غيره من الأديان و الدعوة اليها تعتبر دعوة الي صحيح و صريح الاسلام من غير مزايدة أو متاجرة أو انتهازية و من هنا جاءت دعوتي بفصل الأخلاق عن الدين و السياسة معا. هذا الخلط المتعمد أو غير المتعمد بين مفهوم الأخلاق المجردة و الأديان من جانب اليمين السياسي و أدعياء الثقافة قد أضر كثيرا بالاثنين معا و كانت المحصلة النهائية أننا لم نجد صدقا و حبا و لم نجد تسبيحا و حمدا و تم تشويه الاثنين. في الجانب الاخر فان التيارات اليسارية و في غمرة صراعها السياسي البحت مع التيارات اليمينية تناست أو أغفلت أو تجاهلت الدعوة الي كريم الأخلاق و ان تمثل بها بعضهم عمليا و لكنها خلت من خطبهم السياسية و الاجتماعية. لذلك فان بعث و اعادة الاخلاق المجردة الي ساحتنا السياسية و الثقافية يساهم في تطوير اليمين و اليسار معا و أدعي الي جعلهم أكثر مسئولية و أقرب الي الاتفاق و التوافق حول مشروع انساني اجتماعي سياسي وطني سوداني. بدون التوصل الي هذا المشروع الانساني الذي قامت علي مثله حضارات عظيمة سادت العالم قرونا عديدة بأخلاقها فقط في البداية و من ثم انهارت ذات الحضارات بذهاب الأخلاق فان أي تغيير سياسي مرحلي قادم يكون كالعدو و القفز في الظلام و رفض أو عدم القدرة علي استقبال النور. [email protected]