*نحن نرزح تحت نير ظروف اقتصادية ضاغطة؛ بالكاد نوفر لقمة العيش لأولادنا، ومصاريف المدرسة الخاصة المعقولة بنسبة بقية المدارس.. إذ يعد نحراً لعقول أبنائنا إلحاقهم بالتعليم الحكومي الذي تمرغنا نحن في نعيمه ...وخرجنا بفضله مواطنين/ات متزنين محبين لوطننا وأفراد لدينا ملكات ومقدرات لمواجهة الحياة والولوج الى سوق العمل؛ على الرغم من أنه لا يمكن أن يطلق عليه تعليماً مثاليا.... لكن المقارنة النسبية تصنع من فسيخ التعليم الحكومي منذ الستينات والى نهاية الثمانينات شربات رائعة المذاق...... وقمة المأساة في هذا السودان هي أنك لا تنعم بأي خدمات أو حقوق مواطنة، وتجتهد حد (السكتة القلبية) في القيام بكل تلك الأدوار بنفسك، وعندما تخرج الى الشارع؛ تجد أن مشكلتك تافهة أمام معضلات ملايين الناس الذين يشاركونك الحياة في وطن افتراضي لا يمكن أن نطلق عليه أنه يسع الجميع رغم اتساعه... *أخرج الى الشارع أمام بيتنا في أحد الأحياء النائية النامية لأجد كل يوم منزلاً جديداً مشيداً من ثلاث طوابق على الأقل.... يعمل فيه عدد من العمال؛ ذوو سحنات سودانية متقاربة، مضاف اليهم بعض العمالة من أسواق العمال العالمية من مصر الى الصين الى بنقلاديش.... ففي بلادنا أصبح هناك من يفاخر بتوظيف البنقالة والصينيين لإكمال قصره المنيف..... وفي ذات بلادنا يسكن في ظل كل قصر أو عمارة تحت التشييد ما لا يقل عن ستة أسر؛ معظمهم من مناطق الحروب؛ بالإضافة الى نازحي الوسط من الجزيرة والنيل الأبيض من باعة اللبن وأصحاب الكارو وغيرها من الأعمال الهامشية التي تدر دخلاً يتخوف صاحبه من صرفه على إيجار منزل أو خدمات ... * بالأمس استضاف العراء في حلتنا أسرة جديدة... تمتلك كثيراً من العفش والأثاث كالكراسي والأسرَّة الجيدة، ويبدو أن ربة المنزل تمتلك من المعنويات الجيدة ما يجعلها أكثر تفاؤلاً وإرادة من الاستسلام للواقع المزري، فانخرطت تعمل بين خدمة المنازل وبيع الشاي والأطعمة ل(تجيه) ذاك النزل في الفناء الفسيح الذي لا يستره حائط أسمنتي ولا باب أو شباك لغرفة... فقط بعض جوالات (الخيش) المتهالك... وفضية العدة والدولاب بمثابة حواجز خشبية لحدود الراكوبة..... يا الله الناس هنا يتعايشون مع الفقر بإباء وعزة؛ يجعلهم يحاولون هزيمته بعدم الاستسلام له، فالنازحات يدخلن في الصناديق من أجل شراء العدة والعفش، وقد تجد إحدى الرواكيب في هذا العراء تزدان بالستائر المزركشة.. لكن (الفقر) بضم القاف وباللهجة السودانية لا (بيتعاشر) لا (بيتآلف)، واذا غطيت منه وجهك بانت عورة أرجلك، واذا غطيت بطنك انكشف (قفاك)... والفقر يتبعه الإهمال المتعمد من الدولة التي تخرج المواطن دوماً من كل حساباتها وتخطيطها.... لأن كل مسؤوليها مهمومون بحساباتهم الخاصة وبمصالحهم الضيقة كخرم الإبرة... وليس فيها مكان لوطن أو مواطن ... *والخرطوم الآن قرابة ربع سكانها يعيشون في ظلال سكان (الطابق الرابع).. وكل طن أسمنت يذهب لمنزل تستخدم جوالاته لتشييد راكوبة لأسرة أخرى.... تحيا على حافة هامش الحياة، وكل طفل يذهب الى مدرسة يقابله اثنان أو ثلاثة من أقرانه؛ التعليم بالنسبة لهم رفاهية لا وقت ولا إمكانيات له؛ إذ ينتشر آلاف الأطفال من شتى ولايات السودان بل من أطراف الخرطوم من خلاوي أم ضواً بان حتى النيل الأبيض والجزيرة؛ في إشارات المرور والشوارع الرئيسية؛ يبيعون الحلوى والمناديل، يغسلون العربات، يبيعون في البقالات، يعملون كصنايعية في البناء.. دون أدنى درجة من الحماية لطفولتهم ولا أدنى التزام بحقهم في التعليم والتمتع بالرعاية الأسرية حسبما تنص وثيقة حقوق الطفل التي وقع عليها السودان منذ العام 1990م.... المشكلة أننا لا نستطيع أن نعيش ولا نستطيع أن نتعايش مع هذه الانتهاكات الجسيمة التي يحيا فيها الإنسان السوداني الذي يعتبر أي موضوع في حياته معضلة حقيقية... إن كل ما نفعله الآن هو محاولة منع السد من الانهيار بوضع إصبعنا مكان الشقوق حتى لا تتكسر حوائطه ونغرق جميعا .... التغيير