شاهد بالصورة والفيديو.. خجل وحياء عروس سودانية من عريسها في ليلة زفافهما يثير اهتمام جمهور مواقع التواصل    شاهد بالفيديو.. قائد قوات درع الشمال "كيكل" يدخل في وصلة رقص "عفوية" مع (البنيات التلاتة)    شاهد بالفيديو.. القيادي بالدعم السريع إبراهيم بقال يظهر بأحد الملاعب العالمية ويتابع مباراة كرة قدم.. تعرف على الحقيقة!!    شاهد بالصور.. المذيعة نسرين النمر توثق للحظات العصيبة التي عاشتها داخل فندق "مارينا" ببورتسودان بعد استهدافه بمسيرات المليشيا ونجاتها هي وزميلتها نجمة النيل الأزرق    شاهد بالفيديو.. القيادي بالدعم السريع إبراهيم بقال يظهر بأحد الملاعب العالمية ويتابع مباراة كرة قدم.. تعرف على الحقيقة!!    شاهد بالفيديو.. نجمات المسلسل السوداني "ديالا" يقدمن فواصل من الرقص المثير على أنغام أغنية (الآمان بي)    494990309_2099522250472054_2765873171644141355_n    باريس يقهر آرسنال ويتأهل لمواجهة إنتر في نهائي دوري الأبطال    بهدفين مقابل هدف.. باريس يقهر آرسنال ويتأهل لمواجهة إنتر في نهائي دوري الأبطال    بيان توضيحي من مجلس إدارة بنك الخرطوم    عندما كان المصلون في مساجد بورتسودان يؤدون صلاة الصبح.. كانت المضادات الأرضية تتعامل مع المسيّرات    سقوط مقاتلة أمريكية من طراز F-18 في البحر الأحمر    ريال مدريد وأنشيلوتي يحددان موعد الانفصال    المسابقات تجيز بعض التعديلات في برمجة دوري الدرجة الأولى بكسلا    ما حقيقة وجود خلية الميليشيا في مستشفى الأمير عثمان دقنة؟    التضامن يصالح أنصاره عبر بوابة الجزيرة بالدامر    اتحاد بورتسودان يزور بعثة نادي السهم الدامر    محمد وداعة يكتب: عدوان الامارات .. الحق فى استخدام المادة 51    أمريكا: الهجمات بالمسيرات على البنية التحتية الحيوية تصعيد خطير في الصراع بالسودان    المضادات الأرضية التابعة للجيش تصدّت لهجوم بالطيران المسيّر على مواقع في مدينة بورتسودان    "آمل أن يتوقف القتال سريعا جدا" أول تعليق من ترامب على ضربات الهند على باكستان    في مباراة جنونية.. إنتر ميلان يطيح ببرشلونة ويصل نهائي دوري أبطال أوروبا    الهند تقصف باكستان بالصواريخ وإسلام آباد تتعهد بالرد    والي الخرطوم يقف على على أعمال تأهيل محطتي مياه بحري و المقرن    "أبل" تستأنف على قرار يلزمها بتغييرات جذرية في متجرها للتطبيقات    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    ما هي محظورات الحج للنساء؟    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    وقف الرحلات بمطار بن غوريون في اسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ أطلق من اليمن    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملامح من روايات الادب الشعبي في كردفان .. " وصفحات مطوية " من ارث الفروسية والكرم
نشر في الراكوبة يوم 13 - 06 - 2015

هذا المقال سينشر بالتزامن ايضا في موقع الحوار المتمدن
" صفحات مطوية" .. كتاب قيد النشر للراحل المقيم و الخبير الاقتصادي الاستاذ الامين الصادق عبدالمنان .. هو سفر يحتوي علي سيرة كردفانية ذاخرة تحتشد جنباتها بمخزون ضخم عن موروث قصصي متواتر يدور محوره حول قبيلة خزام الكردفانية ودورها التاريخي .. كما تمتد الاقاصيص لتشمل الحوازمة وكل الاطياف القبلية في كردفان .. تأخذك تلك الأسطر الي رحاب إرثها الثقافي والاجتماعي والسياسي في ربوع كردفان وغيرها من بقاع السودان. كما ترسم ايضا صورة زاهية لمشاركة تلك القبيلة المهمة وغيرها من قبائل كردفان ودارفور في تكوين ملامح السودان الحديث منذ العهد الباكر للثورة المهدية .
دوما يشير النقاد لصعوبة سرد وتدوين الارث القبلي والعشائري من دون ان يُتهمه صاحبه بالجهوية والقبلية .. ولكن استنارة المؤلف ومخزونه المعرفي المتقدم ومفرداته المتمكنة .. استطاعت ببراعة توظيف هذا الارث القبلي لصالح الارث الجمعي للأمة السودانية .. فينتاب القارئ احساس دافئ بالانتماء الصادق الي ذات الامكنة والشخوص التي يتحدث عنها الرواي .. وان باعدت بينه وبينها لغة الجغرافيا المناطقية .. فمثلا في مقدمة الكتاب يحدد المؤلف بدقة الدائرة التي تشملها الوقائع المروية في سفره وهي دائرة تتسع لتشمل الوطن الأكبر حين يقول " لست معنيا بتصنيف هذه الصفحات الي فنون الكتابة المتعددة فهذا شأن الاختصاصين الذين قد يجدون في الصفحات ما يستدعي التناول ولكنني معني بتسجيل الوقائع بصدق وبالكيفية التي اعتملت بها الوقائع في نفسي ، والمعاني والرؤية التي انبثقت منها وتلك الثمار التي أردت ان تقطفها الأجيال اللاحقة في دوائر الاسرة والعائلة والقبيلة والوطن " . إذن دائرة المتلقين لرسالة المؤلف .. هي من الاتساع بما يجعلها تشمل كل اطياف الوطن العريض.
يخصص المؤلف جزءا مقدرا من المقدمة والإهداء للتنويه للدور الاجتماعي للمرأة البقارية حينما يحدثنا عن جداته ونذكر منهن آمو بت كرتيقيلا سليلة عيال تاور العزاز وهي بنت اخ الناظر سومي (ول ) تاور شيخ الرواووقة وهي من اكبر بُطُون و أفخاذ قبيلة الحوازمة الكردفانية العربية الشهيرة .. كما يحدثنا عن نارها التي لا تخمد أبدا حين يقول " وكنت دائما اتسائل عن سر النار التي توقدها خلف منزلها عند مغيب الشمس وتظل تزيدها حطبا إناء الليل حتي سألتها فافهمتني ان النار ترشد الضيف وهي إشارة الترحاب به ، فالنساء مثلها لا يطفئون النار أبدا ، بل ان الناظر سومي ( ول ) تاور عمها لم يتناول طعاما قط طيلة حياته بدون حضرة ضيف " .. كما يحدثنا الاستاذ الامين عن قيم الوفاء والولاء للاسرة عند المرأة في كردفان حينما يسرد كيف طلب من جدته ان تغادر لتصحبه للإقامة في الخرطوم وكيف كان ردها مفحما حين قالت : " ان بنات الرجال لا يغادرن الديار التي جئ بهن اليها حتي بعد ممات أزواجهن " .. انظر كيف يكون ربط قيم الوفاء لاواصر الاسرة ب"رجالة" وفراسة اهل المرأة البقارية .. والتي تتجلي في عبارة " بنت الرجال " والتي ان انبئتك عن شئ إنما تنبئك عن ثقافة الوفاء في أبهي صورها !
ويشمل الإهداء ايضا والده الصادق عبدالمنان .. والذي تمتد أصول والدته للخندق في شمال السودان وعمه حسن عبدالمنان الملقب بسيد "امبايا" ولعله لقب يحمل في طياته العديد المعاني والمآثر .. فامبايا هي الة ذات صوت ضخم مدوي أشبه بصوت صفارة الانذار كانت تضرب بجانب النقارة لتجميع المقاتلين وشحذ هممهم في حروب التحرير الأولي التي خاصتها الثورة المهدية ضد المستعمرين الأتراك والبريطانيين. ودرج التقليد علي ان يتولي مسئولية ضرب امبايا اشجع واكرم القوم وأرفعهم كلمة .. ولم يفلح الاستعمار البريطاني الذي تلي المهدية في نسخ الموروث الثقافي المرتبط بالثورة .. فما زال الناس يتداولون لقب سيد امبايا .. ومازالوا يمنحونه لأكثرهم بسالة وبسطة كف .. ويعضد المؤلف ذلك الامر الذي يفهم من سياق كلامه حين يتحدث عن جد عمه حسن عبدالمنان لامه وهو الشيخ بخيت من فرسان الحمر الذين استشهدوا في ام دبيكرات في فروة كانت تحيط بخليفة المهدي من فرسان الانصار . ولم يغفل المؤلف من ان يشمل بالاهداء ايضا أسرته وأبنائه .
من ثم يدلف المؤلف للتوثيق لتاريخ مجئ خزام الي كردفان فيقول : " حسب الرواية التي تناقلوها فقد قدموا قبل الثورة المهدية في هجرات بعض بيوتهم من شمال وجنوب دارفور، وكانت قبيلة خزام من القبائل الكبرى بدارفور قبل نشوب ما عرف في غرب السودان بدوسة الناقة و التي قلصت عددهم إلى أدنى حد، وتعتبر دوسة الناقة أشهر حرب جرت وسط قبائل بقارة الغرب لأن كل قبائل بقارة، وهي في معظمها قبائل جهنية، تحالفت ضد قبيلة خزام وهي قرشية، واليوم تتواجد من تلك القبيلة عموديات كثيرة تمتد من ديار حمر حيث يسمون بالخوازمة ومن أهم خشوم بيوتهم حمر الميامين، إلى ديار الرزيقات وشمال وجنوب وغرب دارفور، وتمتد هذه القبيلة حتى جمهورية تشاد " .. ثم يستطرد الاستاذ الامين في ذات الصدد " ان القاسم المشترك بين قبيلة خزام وفروعها المنتشرة بغرب السودان، وما يميزها عن معظم قبائل الغرب هي كثرة الحفظة للقرآن الكريم بهذه القبيلة حتى أضيف لإسمها لفظ "الفقرا" أي خزام الفقرا. وحسب الروايات المتداولة بينهم أنهم خلال رحلة دخولهم للسودان منطلقين من المغرب العربي عبر الصحراء الكبرى تعرضوا لنكبات كبرى خاصة عبر مرورهم بتشاد ولم يحفظهم من الإنقراض -حسب رواياتهم- إلا حفظهم للقرآن، ولما دخلوا السودان قربهم سلاطين مساليت وصاهروهم وكذلك سلاطين فور بسبب كثرة الحفظة وسطهم، ونشير أيضاً هنا إلى أنهم من آخر القبائل العربية التي دخلت السودان ومن المؤكد أن القبائل العربية الأخرى بغرب السودان قد سبقتهم في دخول السودان ويوجد دليل من أشعار حرب الناقة على ذلك بل يعتبر أحد دوافع شن الحرب عليهم وتحالف القبائل الجهنية ضدهم " . ويفهم من سياق حديث المؤلف ان مصاهرات قبيلة خزام مع غيرها من الاثنيات الموجودة كالمساليت و الفور تعبر عن وعي مبكّر باهمية التمازج العرقي ودوره في الانتقال من مجتمع العشيرة الي تجمعات تشكل بملامحها نواة لوطن مصغر .
ثم ينتقل المؤلف ليتحدث بسلاسة حول دور بيتين كبيرين في قبيلة خزام .. مسهبا في الحديث عن ريادتهما في الإعلاء من ثقافة التصاهر و التداخل مع الاخرين .. كما لا يغفل من الإشارة لصلات التاريخية بشخصيات اخري مؤثرة في كردفان كالسيد اسماعيل الولي .. وصلة هذا الامر بتواجد خزام في ديار البديرية لتعليم وتحفيظ القرآن .. حين يقول نصا : " الشغل الأساسي لبيوت خزام كما ذكرنا كان إحياء نار القرآن، فبيتي الأمين ود عبد المنان والعالم إبراهيم ود عبدالله أوقدوا نار القرآن في خلوتين بديار البديرية تخرج فيهما حفظة كثر لكننا لم نتمكن من حصر أعدادهم، كما أقام الفكي الأمين علاقة محبة في الله قوية مع السيد إسماعيل الولي بحكم المصاهرة التي تمت بينهما حيث تزوج الفكي الأمين زينب بت عبدالله الدنقلاوية التي تربطها قرابة بالسيد إسماعيل الولي، وقد ولدت له كل من عبد المنان وأحمد الرفاعي وكان السيد إسماعيل الولي شديد الإهتمام بأبناء الأمين من زينب ويناديهم بأولاد الفكي وطلب منهم بناء زريبة لهم بالأبيض في جواره في الحي الذي عرف مؤخراً بفريق القبة وهي قبة السيد إسماعيل الحالية، وقد زرب الفكي عبد المنان زريبته بجوار الخور المعروف بخور القبة من جهة الغرب وأدخل بداخلها جميع أرحامه من الدناقلة أبناء محمد الطاهر (حامد وإسماعيل) وأحد أخواله ويسمى مكي ود البكري وزوجة شقيقه أحمد وتسمى خديجة (أم الأمين) وهي من دناقلة مليط .. وبيوت كثيرة يصعب حصرها " .. ثم يتحدث المؤلف عن دور هذين البيتين الخزاميين بقيادة الامين ود عبد المنان والعالم ابراهيم ود عبدالله في الثورة المهدية ومبايعتهما للامام المهدي علي جهاد المستعمرين علي الرغم من انتمائهما للطريقة التيجانية .
لقد استطاع الكاتب تقديم قالب شخصياته الكردفانية في إطار شيق أخاذ يجذب المتلقي بروعة بنائه القصصي .. وأسلوبه السردي المتفرد .. ويتجلى ذلك حين يحدثنا عن الفارس عربي ود محمد زين .. أشهر فرسان خزام وأعظمهم أقداما وبلاءا إبان الدولة المهدية .. وقد عرف عن عربي إجادة فنون القتال والمهارة البالغة في اصطياد الأفيال والزراف.. ويسرد المؤلف بعض من تلك المشاهد التي تخللت رحلته للهجرة لمدينة ام درمان للانضمام للجيش المهدوي المتجه لغزو الحبشة فيقول ( كان يركب أحد أحصنته وهو شديد الجمال ويقود آخر، فقال له أحد المسافرين من بقارة وهو لا يعرفه: "الفقير جوادك السمح دا كن لاقينا الظراف انطيني ليه بغدي الجماعة دول" .. المعني ( أيها الشيخ .. إذا لاقينا الزراف أعطني جوادك الجميل ذاك، لأضمن غداء هؤلاء النفر ) فأجابه: "سمح" أي نعم، وصمت. وبعد قليل ظهر قطيع من الزراف، فانطلق الفرسان وراءه فإذا بعربي ينطلق بحصانه بأقصى سرعة في الإتجاه المعاكس وتعجب كثير من المسافرين، لكنه كان يعرف أن الزراف أول ما يتجه إلى الأرض الفضاء ليراقب مطارديه ويشتتهم مستخدماً ذيله في صرف الحراب وطول رقبته لمراقبة مطارديه، وعندما يتأكد من إصرار المطاردين ينقلب متوجهاً جهة الغابة حيث تعينه فروع الأشجار على اقتلاع الفرسان من ظهور الخيل وينجو في كثير من الحالات، وكان عربي يخطط لمجابهته عندما يرجع نحو الغابة وقد كان، فإذا بالزراف يجد عربي وقد دخل وسطه وأعمل حربته يمنة ويسرة، ولما تجاوزه الزراف كان قد رمى 4 جمال من ذلك السرب " الجمال وصف يستخدم في لهجة البقارة لتحديد عدد الزراف " ، وعندها انشغل المسافرون بالسلخ والتزود، وما كان من عربي إلا أن بحث عن صاحبه ووامتشق سوطه وعلاه ضرباً وطرده شر طردة، حتى استحلفه الرجل بأن يرتى ( يشفق أو يرثى عليه ) فتركه وعيره بقوله: " الرجال البسعوهن بركبوهن، إتا قايل شلوخي ديل شلوخ عوين ! ".. ولعل في تلك الطرفة التي ساقها الكاتب بعض من أدب العناد وخليط من ثقافة الآنفة والفروسية التي اشتهر بها أعراب البقارة في السودان . كما تذخر تلك الواقعة بالعديد من الكلمات العربية الفصيحة والواسعة التداول في الثقافة المحلية بكردفان ودارفور وقد خضع بعضها لسودنة لغوية فاضفي ذلك عليها مزيدا من الروعة الموسيقي المتفردة علي اذن المتلقي .
وفي ذات السياق يروي علينا المؤلف ملامح من بسالة عربي ود محمد الزين في حروب الحبشة ومبارزته الشهيرة لأحد فرسان الاحباش التي أسهمت في قلب موازيين المعركة لصالح الانصار .. حين يقول " وعُين عربي رأس مائة في أم درمان،و شارك في حروب الحبشة وانتدب لإحدى أهم معاركها التي يقودها أحد فرسان قبائل مكادة بالحبشة والذي تسبب في قتل عدد لا يستهان به من الأنصار، وحدثنا الرواة أن فارس مكادة كان يغطي زنديه بدرع من فضة ويحارب بحربة، وعندما يعود مساءاً يدعو الناس للتدقيق في زنده هل أصابته أي خدوش. ونصحت خزام قائد الأنصار بإستدعاء عربي لمبارزته وكان عربي يبارز بالسيف على عكس فرسان بقارة الذين يستخدمون الحربة، وهو رجل مربوع القامة ضخم الجثة قيل أنه يتداول ركوب حصانين في معظم الأحوال لضخامته، وعندما استدعي لمبارزة فارس مكادة توجه نحوه رافعاً سيفه فبادره الفارس الحبشي بطعنة قوية رفعه بها من سرج حصانه بيد واحدة وكان يعض أصبعه بيده الأخرى، ( ولعل ذلك امعانا من الثقة في النفس من قبل الفارس الحبشي وتقليلا من الفارس عربي ود محمد الزين- كاتب المقال ) ومن سرعة المفاجأة رأى الأنصار ،رأس الفارس ويده وأصبعه في فمه قد اجتثا بسيف عربي وهمهم الفارس الحبشي بكلمات لم يعرف لها معنى قبل أن يقع وقد حشرت درعه في بطنه، فسحبت على عجل وأدخلت خمس كؤوس لتمنع أمعائه من السقوط، وكانت تلك من المعارك التي انتصرت فيها جيوش الأنصار، وحتى انهيار دولة المهدية وعودة عربي إلى السنجكاية بقي الدرع معه الي ان توفي " .. لقد بقيت شجاعة عربي في وجدان الادب الشعبي الكردفاني .. وتداولها الموروث القصصي المحلي .. فالتصقت في أضابير ذاكرة الناس وارتبطت بعامل شعبي شديد التأثير الا وهو ثقافة الحكامات .. وفي هذا المنحي يستدرجنا المؤلف بسلاسة فائقة لمشهد حفيد الفارس الخزامي عربي ود محمد زين .. وهو حسن ود احمد انقينا.. وهو يتصدر مجلس ( قيدومة الحكامات ) .. وهو مشهد برع المؤلف في وصفه وصفا دقيقا حين قال : " وكان أحد أحفاده وهو حسن ود أحمد أنقينا شديد الإعتزاز بجده وكان يتحدى خزام قاطبة في كل مناسبة تضرب فيها القيدومة وهي جلسة عند قبائل البقارة توضع فيها الكؤوس مقلوبة على ماء في طست وتضرب عليها النساء وتغني الحكامة في الفرسان ومشاهير الكرم وتذكر بأمجاد القبيلة كلها. كان حسن ( يتنبر ) أي يعلن على الملأ أحسن ما يفتخر به أو ما قام به من أعمال لا يعرفها الناس أو هي من القيم والتي يذيعها ليعرفها عنه قومه كان يبدأ دائماً ونحن صغار قد حفظنا منه ذلك عن ظهر قلب ( انا أزرق، أنا الليل، أنا الأربحا انقيني ، آخر شهر، أنا جدي أبو أمي بالع في بطنه سبعه كأس، الماعندو قديم يا اخوانا ما عندو جديد، الكلمى ساكت يا الحكامة ما في عوجة التجي من السما بنلزموها" .. المعني .. " انا قاتم اللون كالليل، أنا الأربعاء؟؟ انقيني آخر شهر، أنا جدي أبو أمي بلع في بطنه سبعة كؤوس، ومن ليس له تاريخ فلا حاضر لديه، فلتقل الحكام شعرها وكلامها ولا بأس ) .. ولعلها كلمات قصار موجزات تعبر في مجملها عن بلاغة اللسان العربي المبين لاهلنا البقارة .. والإرث اليقيني في التعامل مع حقائق الأشياء .. وان كنت في شك من ذلك فتأمل تلك العبارة المبينة .. " ( الكلمي ) ساكت يا الحكامة مافي عوجة .. التجي من السما بنلزموها " !
ثم ينتقل بنا المؤلف الي ذكر الحركات الثورية المقاومة للاستعمار البريطاني حين يتحدث عن الشيخ السنوسي ود جادالمولي . " احد اكبر مشائخ العلاليق من بُطُون خزام ومن ابرز معلمي وحفظة القرآن الكريم بكردفان ودارفور آنذاك " وتحالفه مع الفكي علي الميراوي بجبال النوبة في ثورته الشهيرة ضد الانجليز في العام 1913 .. وقد كان ذلك تحالفا فريدا لأنه تجاوز حاجز القبلية والتشرذم الذي عمل البريطانيون علي ترسيخه وسط قبائل كردفان تطبيقا لسياسة ( divide and rule ) الاستعمارية المعروفة.. فثورة الفكي علي الميراوي شارك فيها الفور ممثلين في السلطان علي دينار بدعمه ومساندته و قبائل الحوازمة و بطونها من خزام ممثلة في الفكي السنوسي ود جاد المولي وبالطبع كان القائد الشجاع الفكي علي الميراوي من جبال النوبة رأس الرمح في حركة المقاومة .. بلاشك ارست هذه الحركة الثورية دعائما لعمل وطني واسع شكل باكورة الوعي بالذات الوطنية في كردفان.. ولعل من المؤسف تماماً ان هذا الحراك الوطني لم يلقي حظه من البحث والاستقصاء الأكاديمي الكافي لتبيان حقائقه للاجيال القادمة من اهل السودان .. فعلي الرغم من الارث الشعبي الضخم الذي رسخه ذات الحراك في المخيلة الكردفانية، الا ان تلك الوقائع غابت تماماً عن موقعها اللائق بها في الذاكرة الوطنية المدونة . ويبدو ان أسباب الثورة كانت تتلخص في تعمد الانجليز تهميش اهل الجبال وفرض الضرائب الباهظة علي "مكوكهم" مما اثقل كاهل الأهالي ولعلها ذات الأسباب التي أدت لثورة السلطان عجبنا وفرسان النوبة البواسل لاحقا في 1917.
وينقل المؤلف وقائع تعاهد وتحالف الفكي الميراوي والشيخ السنوسي ود جاد المولي علي مقاومة الانجليز حين يقول : " وبدأت القصة بأن علي الميراوي عندما حزم أمره لمواجهة الإنجليز أرسل في طلب الفكي السنوسي الذي كانت تربطه به صداقة متينة سمى على إثرها الفكي السنوسي أحد أبنائه علي، فلما ذهب إلى جبال ميري غرب كادقلي لمقابلة الفكي علي الميراوي خاطبه الأخير كالتالي: "سيدنا (ول ) سيدنا دايرك ترقد لي بالخيرة أنا داير أضدوق الترك دول – حرفياً تعلي أذوق لكنها تشبيه، وتعني الإلتحام والإشتباك عند أهل غرب السودان- زي ما ضاكم المهدي!" ومعناها ( سيدنا وابن سيدنا أريد من أن تستخير لي في أمر الإشتباك مع الإنجليز وقتالهم مثل ما فعل المهدي ) فرد عليه فكي السنوسي: "بلحينا زولي" .. بمعني ( نعم بكل سرور) فقام الليل في الخلاء كعادته عندما يحزبه أمر وينتحي للإستخارة وإكمال عدده وراتبه من حزب السيف الذي اشتهر بالتعبد به بين خزام. وفي الصباح الباكر جاء لمجلس الفكي علي متبسماً وقال له: "أبشر زولي الخيرة بيضا وأنا ذاتي فيها" وتصافحا وتعاهدا لبدء المواجهة، وبنى الفكي السنوسي له عريشة في جغب (وهو يعني مكانا بأعماق الجبال في لهجة البقارة) ليسأل الله النصر على الإنجليز، وبدأ التمرد الذي استمر قرابة العامين والذي جرد له الإنجليز عدة تجريدات دحرها علي الميراوي ورجاله وحوصرت جبال ميري وضربت بالطيران حسب الراوي، مما اضطر الفكي علي للإستسلام إشفاقاً على أهله ميري، وقد أفلت الفكي السنوسي في إحدى المرات من الإعتقال عندما وشى به أحد العيون حيث وجده في عريشته وأسر ".
ويبدو ان الأسر والاعتقال لم يفت من عضد وعزيمة الفكي السنوسي ود جاد المولي فلم تنتهي مواجهاته مع الانجليز عند تلك الواقعة.. فبعد إطلاق سراحه أعاد بناء مسيده بقرب منطقة السنجكاية الشهيرة .. ونترك قلم المؤلف ليرسم لنا بريشته تلك المواجهة المحتدمة الجديدة : " وبدأت المواجهة عندما وقع مسيد الفكي السنوسي في مسار الطريق وأمر المهندس الإنجليزي المسؤول عماله بقطع شجرة الجميزة التي تقع في المسيد والتي كان حيران الخلوة يمحون ألواحهم فيها وهي صغيرة وتعهدوها بماء الألواح حتى كبرت فصارت معلماً هاماً بالمسيد، عندها تدخل فكي السنوسي وخاطب المهندس من خلال المترجم بأن عليه تعديل مسار الخط وأنه لن يسمح بقطع الجميزة أو بشق الطريق للمسيد، لكن المهندس الشاب أخذته العزة وقال لفكي السنوسي أن الطريق سيمر في مساره والشجرة ستقطع، عندها ثارت ثائرة الفكي السنوسي وقال للمترجم: "أنا ولدك جاد المولى، أنا الدود اللغيبش قسما بي ربي اليوم الفاس قالت كع في جميزايتي سكيني أم جركول تقول كع فيك، الداهي الهوان دا إتا بلا ما عارفني، أسأل الإنجليز الكبار إتا وليد ساكت" والمعني ( انا إبن جاد المولى، أنا الأسد الأسمر، أقسم بربي إن ضربت الفأس شجرتي لأضربنك بسكيني، أيها الذليل، أنت لا تعرفني وأسأل عني الإنجليز ممن يكبرونك سناً إنت مجرد ولد) وتحزم بثوبه وأمسك بسكينه، وتدخل أهل السنجكاية وتجمعوا ونصح عقلاؤهم المهندس الإنجليزي بأن يستدعي شيخ خزام وهو الفكي عبد المنان ود الأمين وما يشير به عليه هو الحل وإلا فإن الفكي السنوسي سينفذ ما قاله لنا لأنه لم يعرف عنه أن تراجع قط بعد أن " تنبر" ، فأقر المهندس بصواب الرأي وقال لهم اطلبوا الشيخ عبدالمنان ود الامين " ... ويبدو من رواية المؤلف ان حكمة الشيخ عبدالمنان قد جنبت الأهالي شرا مستطيرا حين اقترح قطع " جميزات" أخريات ..فوافق المهندس البريطاني الشاب و إن رفع تقريرا بعد ذلك يشير الي خطورة الفكي السنوسي وعدائه المستحكم للسلطات البريطانية الحاكمة.
هذا غيض من فيض من الوقائع المهمة التي دونها هذا السفر المهم ولعل ما فيه ارحب من تستعرضه بعض الأسطر وبقي لي ان أشير الي براعة الكاتب الراحل في تخزين تلك الروايات السماعية والموروث الروائي في حصون الذاكرة .. ومقدرته علي استدعائها وترتيبها بذلك النسق الفريد ولا شك ان جلها ترامي الي مسامعه وهو طفل يافع فرسخت تلك المشاهد كشريط سينمائي لا يستعصي استدعائه علي صاحب قلم مقتدر مثله . ويجدر بنا هنا ان نشير ايضا الي ان المؤلف الراحل الاستاذ الامين الصادق عبدالمنان هو من اعلام ومثقفي الحوازمة المشاهير .. ومن خريجي مدرسة خور طقت الثانوية العريقة وكلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم 1972 كما حاز علي درجة الماجستير من المعهد الاقتصادي الفني بشمال لندن .. عرف الفقيد بإسهاماته الوطنية ومشاركته في تأسيس شركة سكر كنانة وغيرها من المؤسسات الاقتصادية الوطنية .. ثم هاجر كغيره من الطيور الوطنية المهاجرة فتلقفته المؤسسات الاقتصادية السعودية في المدينة المنورة فعمل فيها خبيرا اقتصاديا وأحسن كغيره من بني وطنه في تقديم الصورة اللائقة بشخصية السودانيين بالمهجر من صدق وامانة وطيب معشر .. واشتهر بمشاركاته المتميزة في ارساء دعائم العمل الاجتماعي للجاية السودانية بالسعودية .. كما عمل في غمار السياسة سعيا وتطلعا لوطن يحتوي الجميع بلا تفرقة او تمييز.. فكان كادرا قياديا في حزب الامة القومي .. شهد له زملائه بحسن المسعي والمبتغى والوطنية الخالصة رحمه الله .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.