لا كلل الليالي والأمسيات، يمضي ليل وقفة رمضان سريعا، بكل ما فيه من الخفة والمتطلبات الكثيرة والتي سوف تكتمل بإذن الله، فليس من شيء في هذا العالم يحتمل التأخير حتى لو أنه تأخر كثيرا. يعود أهل البلدة إلى بيوتهم يتناولون العشاء متأخرا، عشاء اليوم الأخير من شعبان وعشاء هلال رمضان في ليلته الأولى بإعتبار أن الشهر العربي يبدأ من الليل، صحن من الفول المعبأ تماما مع زيت السمسم وسلطة الطماطم بالبصل، مع تحذيرات خفية بأن غدا صيام وبقاء البصل في الفم أمر غير محبذ لاسيما مع رائحة فم الصائم، لكن المسواك سوف يكون صديقا طوال اليوم للكثير من الرجال وهم جلوس في صالات دكاكين السوق المرشوشة منذ الصباح المبكر بالماء تبريدا للجو الحار، فالكهرباء ما زالت قاطعة، وحتى لو جاءت فهواء المراوح لن يفيد لأن المروحة لا يمكن أن تحول السخونة إلى برودة. لكن بعض المرات يأتي رمضان في أيام البرد ويا لها من نعمة وهنا سوف يكون الجوع هو الكارثة العظمى. يغسل الأهل الأيادي استعدادا لنوم قبله يشربون الشاي الأحمر بالسكر المدخر من أيام بعيدة قبل حلول الشهر الكريم والبعض إن أمده الله بالخير والسعادة فسوف يحصل على سكر مجاني من مؤسسة حكومية تجود به بشكل ما، ليس مهما مصدره ولكن المهم أنه سوف يكون في البيت ليوافي حاجة الشهر، فمعدل استهلاك السكر يرتفع كثيرا في رمضان مع العصائر التي تستهلك كمّا كبيرا من المسكرات لاسيما الحلومر الذي كلما أعطيته المزيد طلب مزيدا من التحلية. يهجد أهل البيت قليلا، ليس أكثر من ساعتين، فهم في هذا اليوم يكونون في العادة قد سهروا بخلاف باقي الأيام قبل رمضان، حيث غالبا ما ينام الناس مبكرا في حدود الثامنة إلى التاسعة مساء على أكثر تقدير، وهذا اعتمادا على صيغة الزمن القديمة قبل أن يتم تقديم الوقت لساعة إضافية منذ سنوات طويلة بقرار من الحكومة. قبل الفجر بساعة أو ساعة ونصف في حوالي الثالثة صباحا تسمع أصوات الطبول والبعض يطرق على الصفيح بعيدان الأشجار، حيث يبدأ شباب من الحي يطوفون الأزقة والشوارع والساحات لإيقاظ الصائمين يكون الشباب في الخلف ويتقدمهم رجل مسن في أكثر الأحيان له لحية لم تحلق منذ زمن بعيد، يتمتع باحترافية في الضرب على الطبل الذي يكون قد جهزه لهذه المهمة منذ أسبوع قبل رمضان حيث يذهب إلى مختصين في السوق لهذا الغرض يقومون على توضيب الجلد وشده بالنار وتجهيز مستلزمات سهرات السحور. ويقوم الرجل المحترف بعمل ذلك لوجه الله كجزء من الصدقات المخصصة للشهر الكريم. في البداية يكون الصوت بعيدا ثم يقترب رويدا فرويدا إلى بيتنا والبيوت المجاورة، ثم تسمع التراتيل تنساب في عتمة الليل تكسر حدة السكون ووحشة الحياة إذ يبدأ الإيقاع المموسق في الانبعاث في تلافيف الأرواح: يا صائم قوم اتسحر.. ومن ثم طقات الطبل ورنات الصفائح. ثم يتوقف الجميع عند أحد البيوت وهم يتخيرون بيوتا معينة فليس كل بيوت الحي ضمن البرنامج المرتب له سلفا، يحددون خياراتهم بانتقائية عالية ويعرفون من سيكون كريما معهم في تقديم السحور، الذي غالبا ما يكون الفطير باللبن (الحليب الدافئ) يقدم لهم في صحن كبير يسارعون في التهامه وهو يتزلق من بين الأيادي الطويلة إذ يصعب القبض عليه، ولا يغسلون الأيادي إذا يكتفي كل منهم بمسح يده بطرف ثوبه، العراقي القصير، وإن كان عدد منهم يكون قد ارتدى البانطلون والقميص لكن ذلك ليس كثيرا في سهرة السحور. وإذا ما انتهى أمر الفطير، كان شراب الأبري والحلومر في البيت الثاني أو الثالث، فالخارطة معروفة ومحددة بدقة تامة، والأعم أنها متكررة شبه سنويا إلا أن يموت أحد من رب الأسر من السكان لا قدر الله لكن الغالب أن الابناء يحتفظون بخصائص الآباء إلا ما ندر، لهذا سوف يستمر العهد على ما هو عليه من إكرام صناع اليقظة. السحور يظل طقسا خاصا لاسيما في أول أيام الشهر الفضيل، أو ليلة اليوم الأول، ويشارك فيه الأطفال كذلك الذين يتم إيقاظهم ليشربوا كوبا من الحليب أو الأبري أو يتناولوا الفطير وأحيانا بعض الأكل وهذا ليس كثيرا، فليس ثمة من يفضل ملء البطون حتى لا يضيق حاله في الصباح مع الصيام، غير أن اغتراف الماء يظل مستمرا إلى ما قبل الأذان الأول للفجر. والأطفال لهم حاسية دقيقة في هذا الطقس، فحتى لو تم الاحتيال عليهم بدسهم في الغرف القصية من البيت، ذلك بسبب ظروف بعض الأسر فهم سوف يستيقظون لا محالة، لأن أصوات الطبل والصفيح وهزيم الرجال مع الريح لابد أن يوقظ الكل بما في ذلك البهائم والدواجن في المنزل، حيث لا بد أن تسمع الماعز في بيتها وهي قد بدأت تشعر بالملل وكذلك الدجاج والديك قد يصيح مبكرا لا كعادته لكنه في اليوم الثاني سوف يكتشف أن المعادلة تتعلق بشيء آخر وبذلك يسكت عن الصياح. ورب البيت يكون قد استعد مبكرا لصلاة الصبح في المسجد أو الزاوية القربية من المنزل، إلا في بعض السنوات الباردة حيث يفضل الصلاة في غرفة البيت وهو يؤم أهله من زوجة وأولاد، فمرات يكون البرد لا يحتمل تماما وليس من ملجأ إلا الغرف الطينية التي تصنع دفء الحياة الذي تسرب مع الزمن إلى المجهول وصار من ذكريات الأمس الغائبة والغامضة. ولكن قبل أن يكون الفجر، لابد لرب البيت أن يرتل آيات من الذكر الحكيم لاسيما السور المحببة في هذه الأيام وأولها سورة يس التي لها محبة خاصة عند أهل السودان غامض سرها، يرتفع الترتيل بنعومة في الليل مع عودة الهدوء للحي.. ثمة قليل من الريح في الخارج تهزّ أشجار النخيل في البيوت الكبيرة وقريبا من البحر (النهر) في الجنائن، والبهائم قد خمد حالها خاصة أن بعض الأمهات والجدات يتطوعن رغم الظلام بتقديم بعض القش والبرسيم لها حتى تسكت بظن أن ذلك من واجبات الاحتفاء بشهر الله. ينام الأولاد أيضا، إلا الكبار بعض الشيء حيث أنهم لابد أن يحضروا الصلاة حيث يتم تعوديهم على ذلك مبكرا، وإذا كان في باقي أيام السنة مسموح النوم إلى الصباح، ففي رمضان يكون واجبا أن يصلي الأولاد والصبيان والصبيات الصبح حاضرا مسبوقا بركعتي الفجر أو الرغيبة التي هي خير من الدنيا وما فيها كما ورد في الحديث النبوي. [email protected]