في ليلة حالكة الظلام والسواد ، شديدة البرق والرعود والمطر ، من خريف عام 2009 ، دخلت الجاراتُ عليها لوداعها وصغارها الستة وكلهنّ يرددن ( تمشوا وتجوا بالسلامة ) والدموع تتدفق شلالاً رَوِيَّا حزناً على رَوِيَّة وعلى قسمة الصبية البهية الخجولة التي قرر الأطباء تحويلها الي مستشفى جعفر بن عوف بالخرطوم بعد تشخيص حالتها بالفشل الكلوي ... كانت روية في تلك الليلة تحمل كل هموم الدنيا على عاتقها ولكن من ينظر اليها لا يرى على وجهها الاّ الرضا بقسمتها . أيقظت روية صغارها عند الفجر لتجهيزهم للسفر وأعدت لهم ما تيسر من طعام وشاي . شمس ذلك اليوم خرجت كاسفة حزينة تغطيها أحياناً بقايا من سحب ومع أول شعاع لها كانت روية مع صغارها خارج الدار يعالجون رتاجها ويوصون الجيران برعايتها الي حين عودتهم بالسلامة ... لم يتركوا وراءهم الاّ قطة كانت متعة الصغار. سُكِبت على باب الدار دموع ودموع بللت ثوب روية وطرحة قسمة ولم يقطع ذلك المشهد الحزين الاّ صوت كافي ينادي على جارته روية أن تسرع لتدرك البص وهو يتماسك في جلد ويداري دموعه بكفه . أين تذهبين يا روية ؟ و أين تسكنين يا روية ؟ وماذا تأكلين يا روية ؟ وكيف تصلين الي جعفر بن عوف يا روية ؟ ضجت هذه الأسئلة في رأسها طوال رحلتها التي استغرقت يوماً كاملاً فأحست كأن رأسها يتفجر بالصداع لكنها لم تفتر أبداً من ترديد رضائها بصوت مسموع ( الحمد لله دي قسمتنا ) لم تعلم روية أن ملاكاً طبيباً اسمه صفاء عبد الحميد محمد مدني ، يحمل من اسمه كل صفاء الإنسانية ، ويفيض من اسم أبيه حمدا يقهر كل مصائب الدنيا ، ينتظرها هناك في جعفر بن عوف ... ملاكاً طاهراً حببه الله لفعل الخير وحبب فعل الخير اليه . أُدخلت قسمة الي المستشفى وبدأت مشوارها مع العلاج ترعاها أيادٍ رحيمة ، وقررت روية أن تعمل في مهنة بيع الشاي ، لم تكن تملك شيئاً تبدأ به فجلست الي جوار بائعات الشاي بشارع الحوادث تطلب من كل واحدة منهن تسليفها جزءاً من أدوات صنع الشاي والقهوة على أن تعيدها لهن لاحقاً وقد تجاوبن كلهن معها لتبدأ رحلتها مع عمل الشاي والقهوة . سمع بقصتها سبعة من أخوال فاطمة ومهيرتان فذهبوا ثم عادوا اليها بظرف يحوي داخله مائتي جنيه ومن يومها أصبحت بنابرها برلماناً تجلس على منصته روية تدير الجلسات بحكمة وتسدي النصح والإرشاد وتحتوي خلافات شباب شارع الحوادث وتستقبل المساعدات والتبرعات في أوقات غيابهم وترشد المحتاجين الي أماكن تواجدهم حتى لقبت بحكيمة و أم ومَعْلَم شارع الحوادث . يا زغاريد الفرح تملأ شارع الحوادث ... تعافت قسمة وخرجت الي منزل في الحاج يوسف استأجره لهم الملاك صفاء عبد الحليم وتكفل بتكاليف تعليم قسمة التي تمكنت من مواصلة دراستها والتحقت بالثانوية في عام 2010 وهي الآن بالسنة الأولى بقسم علم النفس بجامعة الأحفاد . إخوتها الخمسة يتدرجون في مراحل التعليم المختلفة و مازالت مساعدة شارع الحوادث مستمرة ، يتكفلون بمصاريفهم وعلاج قسمة الشهري . روية مازالت متطوعة في شارع الحوادث فقرر شباب المبادرة رد الجميل لها فجاء تكريمها آية من الروعة والجمال يوم تقدمت تقص الشريط في افتتاح غرفة العناية المركزة بمستشفى محمد الأمين حامد للأطفال ، انبهر العالم كله لتلك الفكرة الرائعة وتدافعت القنوات الفضائية والإذاعات العالمية تتناقل ذلك الحدث ، وأشادت بها الأممالمتحدة ، وحملت الشاشات صورتها الي كل العالم فبكت جاراتها اللاتي فارقنها في تلك الليلة الماطرة وصباح ذلك اليوم الأسيف ، ثم انقطعت أخبارها عنهن طيلة ذلك الزمان ، فقد رحل السلام بعد عامين من رحيلها من جنوب كردفان ، وأمطرت الأنتنوف حمم الموت في كل مكان ، وتفرق الجيران ، فبعضهم شاهد صورة روية من كاودا ، وبعضهم شاهدها من الخرطوم ، وبعضهم شاهدها من مدن قصية حملتهم اليها رياح اللجوء حيث لم يجدوا لهم شبراً في أرض المليون ميل مربع من حلفا الي نمولي حيث جوبا أيضا تشتعل ... استمطرت روية دموع عبد العزيز الحلو وعصرت فؤاد الصادق المهدي وغبطها أهل الإنقاذ وأسعدت كل أطفال بلادها واحتفى بها كل هذا العالم الرحيب الاّ زاوية ضيقة سُمِّيت زوراً وبهتاناً شهادتي لله ، والاّ صدراً ضيقاً حرجاً واحداً اسمه الهندي عز الدين !!! [email protected]