سأقفز عبر نافذة الزمن قليلا.. إلى فضاء متلاشٍ من الذكريات، قصص لتلك الأيام الذي كان فيها ممكنا للجميع أن يتجمعوا في الشارع تحديدا في ساحة الحي التي تجاور مصالح حكومية والمهم المبنى المخصص للسجون، لكن الطريف في الأمر أن المساجين الذين يعملون في النهار على تشييد مبنى استغرق إكماله ربما عشرين سنة أو أكثر هم الذين سوف يكونون أول الحضور في الإفطار، وسوف يؤدون الصلاة بكل انتظام وانسجام كما يتصور الصبي الجالس في البرش. لحظات ما قبل الإفطار تكون فيها الحياة قد غادرت محطات الضجيج، يصبح كل شيء ساكنا لا يتكلم أبدا في انتظار ارتفاع صوت المؤذن من أي من مساجد الحي، وثمة رجل يظهر كالسراب من بعيد وهو يضرب على حماره الذي فقد القدرة على الكلام هو الآخر في سبيل أن يصل إلى البيت قبل الأذان. ينهض اثنان من الرجال وهما يناديان.. يا فلان.. فهما يعرفانه.. من لا يعرف الآخر هنا.. الكل يعرف بعضه تقريبا في البلدة.. يرفض أن يستجيب للدعوة ويسرع بالكارو دون أن يوجه لهما شكرا إذ يبدو أن صوته وصل حد التشبع وليس بإمكانه أن يدلي بكلمة إلا بعد أن يبل الريق. في تلك اللحظات يكون الصبية الأكبر سنا قد أحضروا الصواني من داخل البيوت ووضعوها في طرف البرش وهي مغطاة وفي زاوية أخرى تم وضع المشروبات من الحلومر والأبري الأبيض والليمون وقمر الدين والعرديب والتانج، وتتنوع العصائر مع عدد الأسر التي تشارك في الإفطار. في الوسط فقط يكون لصحن التمر أن يبقى وحيدا مع مبرد الماء، أو الماء المثلج في إناء مفتوح وبجواره عدد من أكواب الزجاج. فالسنة يجب اتباعها أن تبدأ بالتمر ومن ثم شراب الماء، ومن ثم الأكل. والبعض يفضل أن يصلي ثم يعود للأكل وهذا قليل، خاصة أن الأغلبية لن يعرف الانتظار فقد انتظر طويلا في يوم بدأ وكأنه قد أشرقت شمسه قبل عام. كذلك لابد من المبادرة بالأكل وإفراغ المواعين من الطعام لأن الصبية سوف يعيثون فسادا إن تركت الصواني هكذا لحين الصلاة، ولا ننسى أن نذكر بأن بعض من القطط يكون بالمرصاد جالسا القرفصاء في انتظار لحظة يتم فيها الهجوم مع ارتفاع أصوات المواء والطلب بإلحاح، حتى ليحار الصبي هل القطط كانت صائمة مثله؟! فقد جرب في تلك الأيام الصيام واستطاع بحمد الله أن يكمل اليوم بكل صبر وأناة ويستحق على ذلك جائزة. في السنين الماضية كان يكتفي بنصف اليوم أو رُبعه، وهذا إن دل فهو دليل على الرجولة والشجاعة في مواجهة الجوع والعطش والقول الفاسد، كان يسمع بعض المارة في الشارع وفي الحي لا يكترثون لحرمة الشهر فيحار في أمرهم هل هم فاطرون أم ماذا، ولماذا لا يلتزمون بالتعليمات الربانية، ويكتفي بأن يغلق أذنيه الكبيرتين كي لا يسمع السوء، ثم ينطلق بعيدا عنهم. حكاية صوم القطط، كان سؤالا جادا.. علاقة الحيوانات بالخالق وهل لها عبادات تؤديها أم هي خلقت هكذا لكي تعيش دون أي تكليف، هل صحيح كما يقول الشيخ في المسجد في درس العصر أنها مخلوقة فقط لخدمة الناس وتسليتهم.. لكن لماذا هناك حيوانات مفيدة وأخرى ضارة ومفترسة؟!.. يبدو البحث عن الإجابات وعن حقيقة صيام القطط التي لا تصلي أمرا مثيرا لمزيد من حيرة الصبي باتجاه العالم والوجود تلك الأشياء الغامضة التي سوف يصطحبها معه لسنين لاحقة من عمره، لتتعمق في مجالات عديدة وتتحول إلى تأمل ليس له من أفق سوى الاكتشاف بأن العالم أعمق دائما من تصورات البشر ومن قلقهم المحدود قياسا للهواجس التي تغلف هذا الوجود. مع انشغاله بالقطط، نسي الصبي كل شيء بخصوص المساجين الذين سوف يكونوا قد حضروا مبكرا ومعهم العسكري الذي يقوم على حراستهم والغريب أنهم لا يفكرون في الفرار. يتأمل الصبي ملابسهم من الدمور المكونة من العراقي والسروال، وهي نظيفة جدا ربما من الواجب عليهم أن يقوموا بغسلها يوميا في الصباح الباكر، فالمساجين يتم إيقاظهم مع الفجر وأحيانا يصلون صلاة الصبح في الزاوية القريبة من السجن ويعودون إلى سجنهم دون أن يفكروا في الهروب كذلك، ربما اعتادوا هذا المكان وأحبوه خاصة أن العلاقة التي تربط بينهم والعساكر باتت حميمية جيدا كما يلاحظ أهل الحي وكما انتبه الصبي كذلك. وجاء ذلك اليوم الذي علم فيه الصبي أن أحدهم متهم بقتل أحد أقاربه، لكن المحكمة حكمت عليه بالسجن المؤبد، إذ لم يثبت تعمده القتل، يتأمله الصبي ويركز في وجهه وهو يتناول التمر بخفة ولكن بأدب، ومن ثم يبدأ في باقي الأكل، تفاصيله وتجاعيده تصور قصصا ما وهي تشبه لوحات مرسومة، بإمكان الصبي أن يرى في الوجه وفي الجبهة بالأعلى صورة لنجم منفلت في السماء وحيدا أو رجل يجلس وهو يقرأ مصحفا أو قط كذلك توجد قطط، بحيث تتحول جبهة السجين إلى صورة القمر المكتمل عندما يتأمله الصبي في منتصف الشهر من رمضان أو غيره من الشهور. وللصبي انغماسات في تصورات ما وراء الأشياء إذ يبدأ في السؤال مع نفسه حول قصة هذا الرجل، هل هو قاتل؟ ولماذا قتل؟ ويبدأ في التفكير حول الشر، هو لا يتصور أن في هذا العالم أشرارا بل يرفض أن يكون المرء شريرا، لا يعرف كيف للناس أن يصبحوا مجرمين ويزج بهم في السجون، ولكن إن كانوا مجرمين حقا لماذا هم مسامحون الآن فوجوه هؤلاء المساجين ضاحكة ومرحة بل أن أحدهم سوف يتقدم للصلاة إماما في أحد الأيام، ولا أحد سوف يعترض، عجيب هو الشر إذن وعجيبون هم البشر ساعة يسمحون لمجرم بأن يصلي بهم. في الصباح سوف ترى ذلك الإمام يحمل الطوب. ذلك في الأيام العادية، أما في رمضان فيسمح له مع زملائه بالراحة والاستجمام، إذ لا يكون من الذوق أن يصوموا ومن ثم يعملوا عملا شاقا، لابد من قانون الرحمة، والعسكري القائم على السجن رحيم لا يريد تذكيرا بهذا القانون. وفي حين ترتفع الشمس قليلا لمنتصف السماء بمحاذاة الرجال وهم يتحركون باتجاه الساحة الداخلية للسجن يكون للعسكري أن يغلق الباب بشدة لدرجة أن صوته يسمع من بعيد، بعدها سوف يتخذ طريقه باتجاه السوق لتبدأ قصة يوم جديد لحياة العسكري الذي كان سرا آخرا من أسرار الوجود في حياة الصبي، هل كل حياته تقتضي أن يتابع هؤلاء الناس ويلازمهم ثم يذهب إلى السوق وأهله في الليل لينام، لكن أين هم هؤلاء الأهل؟! حيث لم يتح للصبي أن يراه ذات يوم ينام سوى أمام السجن على كرسيه الخشبي ورأسه يتدلى للوراء وهو جالس، أو على الأرض مقرفصا في برش قديم. [email protected]