كنت قد جلست مع الدكتور الفاتح عز الدين الرئيس السابق للبرلمان ابان اعمال لجنة الدستور قبل حوالي خمسة اشهر تقريبا والرجل كان يتحدث باطمئنان عن مسارات الحوار الوطني مع معارضيهم من القوي السياسية والحزبية وكنت احاول استنطاقه عن حقيقة التقارب بين المؤتمر الوطني والشعبي علي ضؤ مجريات هذا الحوار غير ان محاولاتي تلك وفي ذلك التوقيت يبدو وكانها غير مرحب بها فحجبت عني حقيقة ما يجري انذاك في كواليس الحزبين الوطني والشعبي ولكن الذي ادهشني حقا ما قاله الدكتور الفاتح بان كل الفواصل والحواجز بين الحزبين تلاشت تماما وذابت كل جبال الجليد التي كانت منصوبة وممتدة في الفضاء الفاصل بينهم وبين جماعة الشيخ الترابي منذ حركة الرابع من رمضان الشهيرة في العام 1999 وبات الان الطريق سالكا لكن يبدو ان تقديرات رئيس البرلمان في مقابلتي له لم تسمح باي نشر لاعتقادات ربما يراها الطرفين مضرة بمشروع التقارب اكثر من كونها خدمة له ولهذا كانو يخشون مناوشات الاخرين ولكن الذي اكده الرئيس السابق للبرلمان انهم رجعوا تماما الي بعضهم البعض و تبقت فقط مرحلة الاعلان لمشروع العودة وبقي هذا المشروع في اضابيره السرية مقدسا ومحصنا ومعتما من كل محاولات البوح والافصاح . وبالامس ازاح الدكتور حسن الترابي زعيم المؤتمر الشعبي وعراب الانقاذ ومشروعها الاسلامي الستار عن (سيناريو العودة) كاحد اهم سيناريوهات الحركة الاسلامية التي نسجت عبرها في الخيال الف حيلة للقاء والف حيلة للوصال فتحقق لها ما ارادت بكل مكر ودهاء وخديعة طيلة سنواتها وهي في سدة الحكم فالرجل كشف عن وحدة وشيكة للحركة الاسلامية بشقيها الحاكم والمعارض وبتياراتها الاخري تحت مظلة ما اسماه "بالنظام الخالف" وهو المشروع الذي وصفه الدكتور الترابي بانه يستوعب حتي القوي الحديثة من الليبراليين والبعثيين وكل التيارات ذات الاصول والمفاهيم الاسلامية . ليس هناك مبرر قوي لعودة شقي الحركة الاسلامية لبعضهم البعض في هذا التوقيت الحاسم اكثر من ان يدفع "القصر" بطلائعه من الطلاب للشيخ الرابض في المنشية عبر افطار رمضاني فوق العادة بمنزل "الشيخ" وبمبادرة من اتحاد الطلاب السودانيين في محاولة وصفت بانها لاعادة اشراقات ولقاءات الحركة الاسلامية "القديمة" واعلان لتدشين وحدة "الوطني والشعبي" ..وحدة لطالما اضاعها الكبار وحملوا اوذارها صغارهم ولكنهم بالامس في ديار "الشيخ" تغنوا وانشدوا مع شيخهم الاناشيد القديمة تناسوا كل المرارات والمحطات الساخنة وسنوات القطيعة وذرفوا الدموع السخينة ..تداعت اشواقهم الي ما قبل قتنة الانقسام ثم غنوا باشجان حزينة ..(اصبحنا رغم البين روح واحدة في "حزبين") ولكن ثم ماذا بعد ؟ كيف تقتسم الكيكة ؟ وهل سيقاتلون بسيف واحد كل من يقف في الضفة الاخري للمشروع الاسلامي السوداني ؟ ام ان هذا المشروع وهم كبير لا وجود له في واقع السودانيين كما يراه احد ابنائها الدكتور قطبي المهدي في مرافعاته المستمرة ضد الحركة الاسلامية في السودان ؟ . دولة بين جنرالين ..! اربعة سنوات عجاف من عمر الدولة الجنوبية الوليدة انقضت وهي مضمخة بجراحاتها مكسورة الخاطر تواجه واقعها المؤلم ..جاءت وهي تتوكأ علي عكازتها شعثاء غبراء تحمل كل بقايا الاحتراب والبؤس والشقاء بطونها جائعة وحكامها من اباطرة الحرب اوردوها موارد الهلاك والتنازع ..عاشت الدولة الجنوبية سنواتها الاربعة الماضية وهي في ظلامات وكوابيس الحركة الشعبية ومليشياتها وجنرالاتها المنشقين . اربعة سنوات والحرب هناك تخرج من نفق لتدخل نفق اخر ..ورقعة الضحايا تتمدد والجثث تتناثر في العراء وهكذا ظلت قضية الحرب والسلام تفتك بكيان دولة الجنوب وتقضي علي اخضر الارض ويابسها ..والايادي وبكل مكوناتها وادواتها الخارجية والمحلية تعبث بارادة الحكم وبمقدرات هذه الدولة الوليدة اما المطامع والاستراتيجيات الدولية فهي تتمدد علي اراضيها البكر وحكام هذه الدولة منشغلون بتصفية خصوماتهم لا يبالون بمالات الحرب ..والجيران من دول الطوق الافريقي يتربصون ويمارسون عمالتهم القذرة لصالح "الكبار" .. هكذا هو المشهد الجنوبي يتبدي في شكل صراع سلطة ونفوذ بين محورين اساسين : محور "قبيلة الدينكا" صاحبة السلطة والسلطان والسلاح يقودهم جنرالهم سلفاكير الي لا شي سوي لمواجهة السلاح بالسلاح . ومحور ثاني تحت امرة وقيادة "النوير" بزعامة الجنرال رياك مشار والذي يراهن علي الاسطورة او الخرافة التاريخية التي تقول ان الحكم في دولة الجنوب سيوؤل الي القائد النويري ابو فلجة وسيكون هذا القائد هو صانع نهضة دولة الجنوب ويحاول الدكتور مشار ان يكون هو القائد المنتظر لهذه الدولة خصوصا ان مساحة نقوذه آخذة في التمدد يوما بعد يوم علي حساب مساحات خصيمه السياسي سلفاكير وان كان هذا هو رهان الدكتور مشار فهل يراهن سلفاكير علي دول السطوة العالمية في حماية قصره من المعارضة الجنوبية ؟ وهل يمكن تفسير عودة (الرفيق) باقان اموم مجدد الي السطح السياسي هناك كامين عام للحركة الشعبية (الحاكمة)بانها احدي رهانات سلفا لتنشيط مشروع السودان الجديد الذي يرعاه الغرب مع الكنيسة العالمية ؟ ولكن يبقي السؤال ما الذي يريده سلفاكير من الزيارة المرتقبة لباقان للخرطوم ؟ ثم ما الذي تريده الخرطوم من جوبا ؟ لماذا غرب كسلا ..؟ ! لازال المتاجرون بالبشر في شرق السودان يقلقون مضاجع الحكومة ويثيرون هواجسها فالتجارة هناك باتت منتعشة ومربحة في الاسواق العالمية يمارسها محترفون واصحاب قدرات وامكانيات هائلة وصلت حد امتلاك المدافع ومضادات الطائرات وربما هؤلاء التجار هم من اصحاب النفوذ والسلطان القبلي والمريب في الامر ان محلية غرب كسلا وحدها من بين محليات الولاية هي التي احتضنت مثل هذا النشاط التجاري لماذا لا ندري ؟ . يحدث هذا رغم انف الحكومة ورغم قانونها الجديد الذي صادقت عليه قبل اكثر من عام ونصف العام باسم "مكافحة تجارة البشر" والذي تضمن محكمة خاصة تصل احكامها حد الاعدام . لكن يبدو ان القضية لا رادع لها او ليس هناك جهة لها القدرة علي ضبط حدود السودان الشرقية سوي شرطة وحيدة لمكافحة التهريب بكسلا والتي ربما ليس لديها الامكانيات الكافية التي تمكنها من ممارسة مهمتها او تفرض هيبتها علي المنطقة , كان من الاجدي للحكومة المركزية ان تلحق بقانونها الجديد قوات "نوعية" خاصة ذات تاهيل وتدريب متقدم في مكافحة كافة الانشطة التي تندرج تحت غطاء تجارة البشر او ممارسة التهريب باشكاله المتعددة علي ان تتوفر لهذه القوات كل الامكانيات والدعم اللوجستي حتي يتوقف هذا النزيف في البوابة الشرقية لبلادنا لان الذي يحدث هناك له تاثراته واسقاطاته السالبة علي اقتصاد الدولة وامنها واستقرارها وفي فقرها او جوعها وحتي في ارتفاع اسعارها خصوصا ان الحكومة دائما ما تبرر سياساتها في رفع الدعم عن بعض السلع الاستهلاكية الضرورية بان هذا الدعم يستفيد منه الذين يمارسون التهريب . وعموما فان الوالي الجديد لولاية كسلا الاخ ادم جماع سيجد هذه الظاهرة باسطة ذراعيها علي ولايته وفي كل مجالاتها وبالتالي فهو مطالب برفع مستوي الاهتمام والمعالجة لهذه الظاهرة وبالاخص في محلية غرب كسلا والتي كما ذكرنا اصبحت كبوابة مشرعة علي دول الجوار وبالاخص اريتريا واثيوبيا . [email protected]