مصطفى بركات: 3 ساعات على تيك توك تعادل مرتب أستاذ جامعي في 6 سنوات    قِمّة الشّبَه    الجيش عائق لأي مشروع وطني في السودان إلى حين إشعار آخر!    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    تايسون يصنف أعظم 5 ملاكمين في التاريخ    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    نقل طلاب الشهادة السودانية إلى ولاية الجزيرة يثير استنكار الأهالي    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    دقلو أبو بريص    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إرث الحكم الثنائي (البريطاني – المصري)


The legacy of the Anglo – Egyptian Condominium
م. دبليو. دالي و جين هوقان M.W. Daly and Jane R. Hogan
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لسطور وردت في كتاب عن "صور الإمبراطورية Images of Empire" من تأليف م. دبليو. دالي و جين هوقان، صدر في عام 2005م عن دار نشر بريل – لايدن في بوسطن بالولايات المتحدة. وبروفيسور دالي (والحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن عام 1977م) هو واحد من أهم مؤرخي السودان ومصر (خاصة فيما يتعلق بتاريخ عهد الحكم الثنائي) وله عدد من المؤلفات مثل "امبراطورية على النيل" و"السودان المستعمر" و"تاريخ السودان" بالاشتراك مع ريتشارد هيل، و"أحزان دارفور" وكتاب "صور الإمبراطورية" وغيرها. أما جين هوقان فهي مسئولة "الوثائق السودانية" في مكتبة جامعة درم بإنجلترا.
ويحوي كتاب "صور الإمبراطورية" مئات الصور (النادرة بالفعل) عن البريطانيين في السودان منذ بداية القرن العشرين وحتى نهاية عام 1956م، والمحفوظة في قسم السودان بمكتبة جامعة درم مصحوبة بتعليق بالغ العمق والقصر في نهاية كل فصل من فصول الكتاب الأحد عشر (مثل فصول "النساء البريطانيات في السودان"، و"السودان في سنوات الحرب"، و"المواصلات" و"الشمال" و"الجنوب" وغيرها).
والجزء المترجم هنا هو جزء صغير من مقدمة عامة عن السودان منذ القدم جاءت في نحو 73 صفحة شملت كثيرا من الموضوعات التي تطرق إليها هذا الكتاب التوثيقي المصور.
المترجم
**** **** **** **** ****
نحاول هنا تلخيص تراث النظام البريطاني – المصري في السودان بعد نحو نصف قرن من انتهائه. وبغض النظر عما أحدثه ذلك العهد من خلل وعدم توازن، فلا شك أنه فعل الكثير من أجل تطوير وتمدين السودان. وليس بالإمكان إنكار مساهمة مصر المالية الضخمة في الخمسة عشر عاما الأولى من الاستعمار الثنائي، فقد تولت دفع تكاليف اقامة كل البنيات الأساسية بالبلاد آنذاك، وذلك ما لم يكن للسودان قدرة على مقابلة تكاليفه حينها، ولم تكن بريطانيا راغبة في تحمله. ثم استثمرت مصر في مشاريع مائية بالسودان، كان هدفها النهائي بالطبع هو فائدة مصر في المقام الأول، ولكنها أفادت السودان على المدى الطويل وزودته بخبرات فنية مصرية. ومر عمل ومجهود الفنيين والموظفين والعمال المصريين بالسودان في الفترة من 1898 إلى 1924م دون كبير تقدير أو إشادة، وتجاوز عنها البريطانيون، إذ أن المصريين كانوا هم الصلة بين السودانيين والحكومة في سنوات حاسمة كان من مهامها إعادة السلام والتهدئة pacification والتطوير الإداري. وقدم العلماء المصريون الخبرة القانونية اللازمة للحكومة، وقاموا بكتابة التشريعات والقوانين التي كان يطبقها القضاة الشرعيون المصريون. وبهذا فقد أعطوا النظام الحاكم شرعية كان هو في أمس الحاجة إليها. وكان الجيش المصري – قبل إخراجه من السودان عقب حوادث 1924م – يقوم بتدريب أجيال من الضباط السودانيين. وفي سنوات العهد الثنائي الأخيرة – وبعدها- تلقى كثير من الشباب السودانيين بعثات ومنح دراسية في مصر. وربما كان دافع تلك البعثات والمنح هو تأكيد سيادة مصر على السودان، والتأثير على قياداته في المستقبل. وبهذا فإنه يستحيل إنكار دور وتأثير مصر في التطور السياسي والاجتماعي للسودان.
غير أن عهد الحكم الثنائي كان عهد شراكة غير متكافئة، إذ كانت بريطانيا هي الحاكم الفعلي للبلاد، وإليها ينسب كل أو غالب الإرث الاستعماري في السودان. وكان أهم ما يميز ذلك العهد، ومنذ أيامه الأولى، هو الواقعية pragmatism، كما رأينا فيما سبق ذكره من المساهمات المصرية الضخمة في بناء السودان، ومن محاولات حكام البلاد البريطانيين الأوائل لاسترضاء السودانيين، والاستفادة القصوى من كل ما يمكن للجانب المصري أن يقدمه في جوانب قوانين الأحوال الشخصية (الشرعية) والإدارة المحلية والتعليم العام. وكانت الواقعية هي الروح التي قادت السياسة الدينية، وكذلك الضرائب والسياسة المتعلقة بالرق بالبلاد. ولم يقدم البريطانيون سوى خدمة اسمية (باللسان) للمسيحية المتشددة militant Christianity في شمال البلاد، إذ أنهم ناصروا الإسلام المتشددmilitant Islam ، وقصروا التبشير المسيحي على جنوب البلاد، حيث لا يثير ذلك التبشير مشاعر مسلمي السودان (وأيضا لتقليل تكاليف الحكومة المالية!)، وغيروا مسمى الرقيق slaves إلى "خدم "servants ، وشددوا من قانون التشرد حتى لا يقوم ملاك العبيدslave holders (والذين صاروا يسمون السادة masters) بإساءة سمعة الحكم البريطاني – المصري، وتشبيهه بأواخر عهد التركية.
وكان السودان في حاجة بالفعل لتلك "الواقعية"، فقد كان بلدا في حالة مزرية من الفوضى والاضطراب الذي استمر عقودا طويلة، وبحاجة ماسة إلى فرض النظام والقانون. غير أن هنالك ما فقد عندما حلت السلطة المدنية مكان السلطة العسكرية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكان هنالك أيضا ما تم كسبه. فقد بلغت الإدارة السياسية ذروة نجاحها بعد تلك الحرب، رغم أحداث 1924م، والأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات. وكانت لتك الفترة أخطاؤها أيضا مثل الاعتماد الكلي على قطن مشروع الجزيرة، وتكلفة انشائه العالية، والتي ظلت بابا لإدانة البعض للإدارة البريطانية بتهم الإهمال والاستغلال، والتباطؤ في إشاعة التعليم (رغم أن التعليم في السودان كان قد انتشر بأكثر مما حدث في كثير من الدول المُسْتَعْمَرة الأخرى)، مما جعل غالب أنحاء البلاد تحرم من التعليم حتى في مراحله الأولية، وإنشاء نظام تعليم هرمي يؤدي لخلق "صفوة" ولا يساعد على تطور اقتصادي سريع. ومن الأخطاء التي نسبت لذلك النظام إهمال إنشاء المؤسسات السياسية، والاعتقاد بأن استقلال البلاد لن يحدث إلا في القرن الواحد وعشرين أو الثاني والعشرين، وتصرف الإدارة السياسية وكأن السودان "ملك" لها.
وعلى كل حال، فإن أكثر ما يميز الإرث البريطاني في السودان هو ما قام به المهندسون وليس المنظرون theorists. وأفلحت الحكومة السودانية في مجال الاتصالات والمواصلات وإحراز تقدم ملحوظ في ربط البلاد ببعضها. وأقيمت مشاريع زراعية مروية، وأقيمت على الأنهار سدود وجسور صرفت عليها مبالغ مقدرة. ولعل مشروع الجزيرة هو آخر دليل، ليس فقط على مهارة النظام، بل على قدرة النظام الاستعماري الفذة على التنظيم. وشيدت كثير من المباني المهمة مثل قصر الحاكم العام وكلية غردون التذكارية، وهي مبان لها تأثيرها ومعناها الذي يفوق عظمتها المعمارية بحسبانها رموزا للشرعية، وليست مجرد آثار.
لقد ظهرت إنجازات النظام الاستعماري في المستويات العالية للتعليم والمهن المختلفة بوضوح أكثر – وللمفارقة – في جموع المغتربين في الشتات الذين هاجروا من البلاد بسبب القمع السياسي والتدهور الاقتصادي الذي حاق بالسودان. وظلت في البلاد، حتى بعد خروج الاستعمار منه، بقية من ارتباط بالدستورية (constitutionality) وربما بالعلمانية (secularism)، وهو أمر مرتبط بالنظام القضائي والسلوك المهني في نظام الخدمة الاستعمارية. ولهذه الأسباب (وغيرها) بقيت العلاقات بين السودانيين والبريطانيين، وعلى وجه العموم (وليس فقط بين من هم في الثمانينات أو لهم ارتباطات أسرية) قوية وطيبة.
وأخيرا، فإن الإرث البريطاني في السودان يمكن أن يلاحظ بصورة عامة في مجال الإدارة، وفي الخدمة المدنية، والتي ظل السودانيون يحافظون على تقاليدها، في السودان وفي البلدان العربية التي هاجروا إليها.
وبعد عقود من النقاشات حول تطبيق الشريعة وإنشاء دولة إسلامية، تظل القوانين التي شرعها البريطانيون في السودان ومصر والهند وغيرها هي أساس القوانين السودانية. وفي السودان (كغيره من المستعمرات الأخرى) كان الاستقلال هو مجرد نقل للسلطة. وبقيت اللغة الإنجليزية هي اللغة الثانية في البلاد، ومن المتوقع أن تزداد أهميتها بأكثر مما كانت عليه في الماضي، خاصة إن بقي الجنوب جزءا من السودان. وظلت مستويات التعليم، رغم ما حاق بها من ضعف بسبب التغيرات السياسية والمشاكل المالية المزمنة، محافظة على رفعتها وتأثرها بالتعليم البريطاني بعد عقود من خروج الاستعمار. بل وتعد كل طرق الإدارة، وعلى كل المستويات، هي من بقايا إرث المستعمر البريطاني.
ولكن ... إلى متى سيظل ذلك التأثير؟ ومن يدري هل ستبقى تلك الأشياء غير الملموسة التي خلفها البريطانيون، وإلى متى؟ وعند الإجابة على هذه الأسئلة من الواجب تذكر أن الحاكم العام البريطاني لم يكن فرعونا، وأن البريطانيين ليسوا من المهتمين بالمَرَاثِي.
دراسة حياة البريطانيين في السودان
لقد شهدت الأعوام الأخيرة زيادة ملحوظة في دراسات التاريخ "الاستعماري" أو الأوروبي في الدول الأخرى. ولا نعتقد بأن هذا الاهتمام أكثر عمقا من سحر وفتنة الحكم البريطاني British Raj في الهند، أو من الغرائب السياحية للمغرب الفرنسية، أو الآفاق الضائعة للحيوانات البرية في آسيا الوسطى. ولا ريب أن الاهتمام بذلك التاريخ قد وجد طريقه للمجلات الاكاديمية، وفي "المقارنات التاريخية" الساذجة التي يقول بها السياسيون والمعلقون. غير أننا نلاحظ وبجلاء قلة الصبر أو الرغبة في دراسة ظاهرة "بناء الإمبراطورية" وفي دوافعها وطرقها وآثارها.
لقد جددت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية (الحقيقية أو المحتملة) بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في التسعينيات، وبصورة فجائية، إمكانية قيام "امبراطورية عالمية" في زماننا هذا، وظهور عالم جديد يتميز بعولمة عامة general globalization وتعميم عالمي global generalization.
ولعله من المستغرب أن الأوربيين يتحاشون الكتابة أو الحديث عن تاريخ الإمبراطوريات الغربية (العظيمة) في البلدان الخارجية، إلا أن مواطني تلك الدول المُسْتَعْمَرة ليسوا كذلك، فهم شديدو الاهتمام بذلك التاريخ. وهذا أمر جيد، إذ أن الهندي أو الجنوبي أفريقي أو السوداني بلا شك يجلب لهذا النقاش حول تاريخ بلاده معرفة شخصية وأدوات أكاديمية، وأيضا معرفة لغة أو لغات البلاد، وهذا ما يفتقده غالب المؤرخين الأجانب. غير أنه من الواجب القول بأن لكثير من الدول التي استعمرها الأوربيون أولويتها في التعليم والتي هوت بتدريس / تعليم التاريخ (خاصة الحديث) إلى درجة منخفضة من الأهمية، وتركته للجامعات ومراكز البحوث في العالم الْمُسْتَعْمِر السابق. ولا شك أن ابتعاث الطلاب السودانيين إلى بريطانيا للدراسات العليا في الدراسات السودانية في تاريخ بلادهم هو دلالة على عظم نضج الصفوة المتعلمة السودانية، إذ لم يشعروا بالحرج الذي يشعر به الأوربيون والأمريكيون عندما يدرسون مراحل الاستعمار المظلمة ويكتبون عنها.
وربما تكون الدراسات التاريخية عن مرحلة الاستعمار قد انحسرت مؤخرا بسبب المشاكل السياسية (شبه الدائمة) في البلدان المُسْتَعْمَرٌة سابقا، وليس بسبب فقدان الاهتمام بتلك الدراسات. فلا زالت دور الوثائق مفتوحة وعامرة بطلاب المعرفة، ولا زال طلاب الدراسات التاريخية في العهد البريطاني – المصري مرحب بهم بقلب وعقل مفتوحين.
ولا يقل السودانيون عن المصريين إحساسا واهتماما بتاريخهم، ورغبة في الحفاظ عليه. فلديهم متحف قومي رائع يقف شاهدا على ماض تليد وتراث مجيد، وإدراك ووعي عصري بأهمية "بناء الدولة" وبأهمية التاريخ بالنسبة لهذا البناء لتجميع تراث الأعراق المتباينة في البلاد. ولديهم "دار الوثائق المركزية" بالخرطوم، والتي يندر وجود نظير لها في أفريقيا، والتي تعد دليلا آخر على سعة الحس التاريخي في السودان. فبالإضافة إلى ما تحويه تلك الدار من وثائق عن فترة المهدية، ومجموعات وثائق أخرى مهمة، فإنها تحتفظ أيضا بعشرات الآلاف من الوثائق عن فترة الحكم الثنائي، وبوثائق عديدة عن الحكومة المركزية والأقاليم ومشروع الجزيرة. ولا تزال معظم تلك الوثائق في انتظار الفحص والدراسة المتعمقة من قبل المؤرخين. غير أن هنالك بعض الروايات عن ضياع أو تدمير كثير من الوثائق السودانية قبل شهور قليلة من اعلان استقلال السودان. فقد قامت بعض الجهات (الرسمية وغيرها) بمراجعة كثير من الوثائق وتصنيفها، فأرسل بعضها إلى لندن بينما أحرقت أخرى. بل لقد قيل أن التخلص من بعض الوثائق قد تم بعد الاستقلال. وليس هنالك من تسجيل أو حصر لأعداد أو أنواع الوثائق التي ضاعت أو تم التخلص منها في العاصمة والمراكز في المديريات. بل لقد تم التخلص من كثير من الوثائق القديمة حتى تفسح المكان لمكاتبات ووثائق حديثة! أما الوثائق في جنوب السودان فقد تم التخلص من غالبها، وتعرض بعضها للضياع، وقد تكون بعض تلك الوثائق في حوزة مسئولين سابقين (مما ذكره بروفيسور بيتر ودوارد في مقال له ترجمناه بعنوان "التحولات السياسية في ماضي وحاضر السودان" أن السير وليام ليوس ذكر له أنه، وقبل أن يغادر السودان عشية الاستقلال، قام بالاتصال بوزارة الخارجية البريطانية في لندن ليسألهم إن كانوا يرغبون في أن يقوم بشحن كم هائل من الوثائق البالغة السرية المحفوظة في قصر الحاكم العام لهم، ولما أتت الإجابة بالنفي لم يجد السير بدا من حرقها في أحد أركان حديقة القصر!
ورغم ما سبق ذكره فستظل دار الوثائق السودانية هي المستودع الرئيس لوثائق وتاريخ العهد الثنائي. ورغم وجود كثير من الوثائق عن تلك الفترة في دور الوثائق ببريطانيا وغيرها، إلا أن "دار الوثائق المركزية" بالخرطوم تحتفظ بكثير من الوثائق السودانية التي كان مصدرها المديريات والمناطق المختلفة.
أما في بريطانيا، فأغلب الوثائق الرسمية للإمبراطورية البريطانية محفوظة الآن في قسم وزارة الخارجية بدار المحفوظات الوطنية National Archives تحت اسم "مصر"(يمكن الاطلاع على بعض محتويات الدار في موقعها الاليكتروني. المترجم http://www.nationalarchives.gov.uk).
ولا تقتصر الوثائق السودانية الضخمة في دار المحفوظات الوطنية على الوثائق السياسية، بل توجد هنالك كثير من الوثائق القنصلية والوثائق الخاصة بالحدود والعلاقات مع الدول الأخرى، ووثائق عن البريد والوقاية من الأمراض وأمور مالية واقتصادية متنوعة وغير ذلك من شئون الدولة.
أما المصدر الثاني للوثائق السودانية ببريطانيا فهو في جامعة درم، حيث إرشيف الوثائق السودانية. وقد بدأ ذلك الإرشيف بداية متواضعة جدا، إذ لم يكن غير مجموعة وثائق قليلة قام على جمعها بمبادرات فردية المؤرخ ريتشارد هيل والذي كان يعمل موظفا في مصلحة السكة حديد السودانية، ثم عمل محاضرا لتاريخ الشرق الأدنى في كلية غردون. وبدأ المؤرخ ريتشارد هيل من عام 1957م في جمع الأوراق والمكاتبات الخاصة بالموظفين البريطانيين بالسودان بغرض التوثيق (ولعل هذا ما حفز أولئك الموظفين للعمل على تنظيم وتنسيق المكاتبات بغرض حفظها لاحقا باعتبارها ستكون وثائق مهمة مستقبلا). وكانت أهم تلك الوثائق التي بدأ بها ريتشارد هيل مشروعه هي مكاتبات ونجت باشا الضخمة. وتواجه كل من يتصدى لتصنيف مكاتبات ونجت عقبة التفريق بين ما هو "رسمي" و"خاص/ غير رسمي". فقد كان الرجل يؤدي عمله حاكما عاما للسودان بصورة مطلقة وبحرية شديدة وممسكا تماما بمقاليد الأمور وأعنتها (in the saddle) ولكنه كان يخلط في مكاتباته الرسمية بين الخاص والعام. وتعد أوراق ونجت تلك هي "بابور ناما "Babur – nama بريطانية (بابور ناما هي مذكرات مؤسس الدولة المغولية ظهير الدين محمد بابور. المترجم) مع اختلاف الشكل والمضمون.
وصادف ريتشارد هيل ومن جاء بعده في جامعة درام كثيرا من التقلبات والتغيرات والتي قدمت لهم دروسا قيمة في حفظ الوثائق التاريخية، وفي فقدانها أيضا، بسبب قرارات تافهة تصدر من جهات بيروقراطية حكومية أو أكاديمية مختلفة، أو بسبب أهواء شخصية. وفي عصر تقليل النفقات (retrenchment) هذا، فإن الجامعات قد وضعت لها أولويات جديدة أدت لتقليل أهمية دراسة حفظ الوثائق، ووضعتها في المكان الثاني في الأهمية على الأقل. وظلت معضلة أي الوثائق يجب الاحتفاظ بها، وأيها يجب التخلص منه معلقة.
ويتكون الآن (عام 2005م) إرشيف درم من أوراق خاصة مقسمة إلى 328 مجموعة. وتضم تلك الأوراق أوراقا لونجت وسلاطين وجيمس روبرتسون وأنقس جيلان ووليام لوس وغيرهم من الإداريين والأكاديميين الذين عملوا بالسودان. ويوجد بها كذلك مئات الوثائق التي كتبت باللغة العربية مثل منشورات المهدية وغيرها، ووثائق عن المشاريع الزراعية وكلية غردون وكاتدرائية الخرطوم.
وكان أبرز ما يميز وثائق البريطانيين في السودان هو عدم الثبات (impermanence) إذ أن الاستعمار البريطاني بالسودان لم يبق إلا لمدة 57 سنة، وكان عمل الموظفين البريطانيين فيه عملا مؤقتا، ولم يعدوا السودان مكانا للاستيطان الدائم. فلم يبق أحد من أولئك الموظفين في البلاد بعد بلوغهم سن المعاش.
وكان للبريطانيين في مصر ولحكام وساسة مصر اهتمام لصيق بشئون السودان. ومن الخطأ تجاهل البعد المصري عند دراسة تاريخ (وحاضر) السودان، فقد كان ذلك البعد حاضرا على امتداد التاريخ، وتصعب دراسة أوضاع البريطانيين بالسودان دون التعرض لمصر.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.