عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفساد في بلادنا اثره ومسبباته
نشر في الراكوبة يوم 31 - 08 - 2015

ان المراقب لِحَيَاتنا اليَومَ في تَعَامُلاتنا وَأَخلاقِنا ، وَخَاصَّةً في أَمَاكِنِ العَمَلِ وَمَرَاكِزِ المَسؤُولِيَّةِ، وَفي مَكَاتِبِ مُؤَسَّسَاتِنا وَأَروِقَةِ وِزَارَاتِنا ، لَيَأسَى ويتأسف عَلَى ضَيَاعِ الصِّفَاتِ الحميدة وَاتِّصَافِنا بِضدَهَا إِلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ؛ فَلا الصِّدقُ عَادَ كَمَا يَنبَغِي، وَلا حِفظُ الأَمَانَةِ ظَلَّ كَمَا يَجِبُ، بَل صَارَ الدَّاخِلُ في هَذِهِ الأَمَاكِنِ لا يَكَادُ يَجِدُ مَعَ سُوءِ الخُلُقِ إِلاَّ لهثا وَرَاءَ الدُّنيَا وَعَدَمَ تَوَرُّعٍ عَنِ الحَرَامِ ، فان فَسَادٍ الإداري وَمَاليٍّ مُستَشرٍ مُنتِشَر كالسرطانٍ، أَغرَى أَصحَابَهُ الطَّمَعُ وَالجَشَعُ، فَأَدخَلَهُم مِن أَبوَابِهِ إِلى الكَذِبِ وَتَضيِيعِ الأَمَانَةِ وَسُوءِ الخُلُقِ وَالخِيَانَةِ، فرموا بِالمَبَادِئِ وَالأَخلاقِ وَالقِيَمِ مِن ثغرات وَنَوَافِذَ وَجَدُوهَا فِيمَا لدَيهِم مِن أَنظِمَةٍ، وَتَجَرَّؤُوا عَلَى أَكلِ الحَرَامِ وَالزُّهدِ في المُبَاحِ، نَاسِينَ أَو مُتَنَاسِينَ أَنَّهُ وَإِنْ سَمَحَتِ الأَنظِمَةُ الأَرضِيَّةُ بِتَجَاوُزِهَا وَالمُرُورِ مِن فَوقِهَا أَو مِن تَحتِهَا، أَوِ التَّلاعُبِ بها لأَنَّهَا مِن صُنعِ البَشَرِ وَتَحتَ رَقَابَةِ البَشَرِ، إِلاَّ أَنَّ ثَمَّةَ رَقَابَةً سَمَاوِيَّةً دَقِيقَةً، وَرَبًّا شَهِيدًا لا تَخفَى عَلَيهِ مِن عِبَادِهِ خَافِيَةٌ، وَلا تَغِيبُ عَن نَظَرِهِ مِنهُم شَارِدَةٌ وَلا وَارِدَةٌ.
إِنَّ مِنِ ابتِلاءِ اللهِ للشعب السوداني، أَنَّ تَضيِيعَ الأَمَانَةِ والاتِّصَافَ بِالخِيَانَةِ، أَو مَا اصطُلِحَ عَلَى تَسمِيَتِهِ بِالفَسَادِ الإِدارِيِّ وَالمَاليِّ، لم يَترُكْ مُؤَسَّسَةً حُكُومِيَّةً وَلا أَهلِيَّةً إِلاَّ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنهَا، حَتى صَارَ مَرَضًا مُستَفحِلاً تَأَخَّرَ بِسَبَبِهِ السودان وَتَخَلَّفَت عَنِ الحَضَارَةِ، وَأَصبَحَ عَقبَةً تَحُولُ بَينَ أُنَاسٍ مِن أَصحَابِ الحُقُوقِ وَحُقُوقِهِم، وَمَركَبًا تُمنَحُ عَلَى ظَهرِهِ بَعضُ المِيزَاتِ وَالأَموَالِ لِمَن لا يَستَحِقُّونَهَا، وَقَنَاةً تَسمَحُ بِتَعيِينِ مُوَظَّفِينَ وَتَأخِيرِ آخَرِينَ، وَوَرَقَةً رَابِحَةً في أَيدِي مَجمُوعَاتٍ مِنَ المُقَرَّبِينَ أَوِ الأَصدِقَاءِ، تُرسَى عَلَيهِم بها المَشرُوعَاتُ، وَيُقَدَّمُونَ عَلَى غَيرِهِم بِفَضلِهَا في المُنَاقَصَاتِ، عَلَى أَسَاسٍ مِنَ المحسوبية أَوِ اقتِسَامِ المَصَالِحِ المَادِّيَّةِ.
وَقَد يَتَسَاءَلُ مُتَسَائِلٌ وَيَقُولُ: وَمَا هَذَا الفَسَادُ الَّذِي عَنهُ تَتَحَدَّثُونَ وَمِنهُ تُحَذِّرُونَ؟
وَمَا أَسبَابُهُ وَمَا العَوَامِلُ الَّتي أَظهَرَتهُ؟
وَهَل لَهُ عِلاجٌ شَافٍ أَو دَوَاءٌ نَاجِعٌ؟
فَنَقُولُ وَبَعِيدًا عَن بَعضِ مَا يُعَرَّفُ بِهِ ذَلِكَ الفَسَادُ مِن تَعرِيفَاتٍ أَو يُحَدُّ بِهِ مِن مُصطَلَحَاتٍ، فَإِنَّ لَهُ أَنمَاطًا وَأَشكَالاً شَاعَت وَذَاعَت، وَانتَشَرَت وَتَمَدَّدَت، وَباضَت في كُلِّ مَكَانٍ وَفَرَّخَت، وَغَدَت مِمَّا يُمدَحُ بِهِ بَعضُ النَّاسِ وَيُكرَمُونَ لأَجلِهِ وَيُحتَفَى بِهِم بِسَبَبِهِ، وَبَعدَ أَن كَانَت بَعضُ صُوَرِه لَدَى العُقَلاءِ عَيبًا يُقدَحُ بِهِ في عَدَالَةِ المَرءِ وَقَد تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ، إِذَا بها تُجعَلُ دَلِيلاً عَلَى ذَكَاءِ بَعضِ القَومِ وَمُؤَشِّرًا على نَبَاهَتِهِم وَحُسنِ تَصرُّفِهِم، وَمِن تِلكَ الأَنماطِ الكَرِيهَةِ وَالأَشكَالِ البَغِيضَةِ: الوَسَاطَاتُ في كَثِيرٍ مِن أَحوَالِهَا، وَالَّتي خَرَجَت عَن كَونِهَا نَوعًا مِنَ الشَّفَاعَةِ الحَسَنَةِ الَّتي يُؤجَرُ عَلَيهَا صَاحِبُهَا وَيُثَابُ، فَأَصبَحَت ظُلمًا لِلمُستَحِقِّينَ وَهَضمًا لِلمُستَضعَفِينَ، وَإِبعَادًا لِذَوِي الكِفَايَاتِ مِن المَوَاقِعِ الَّتي تَحتَاجُهُم، وَرَدًّا لأَصحَابِ الجَدَارَةِ وَتَهمِيشًا لِدَورِهِم، مَعَ غَضِّ النَظَرٍ عَنِ المَقَايِيسِ المَطلُوبَةِ فِيمَن يُرَادُ تَوظِيفُهُ مِن قُوَّةٍ وَأَمَانَةٍ، وَجَعلِ مَقَايِيسَ أُخرَى هَشَّةٍ مَكَانَهَا.
وَمِن أَنماطِ الفَسَادِ هَدرُ الوَقتِ العَامِّ وَضَعفُ الالتِزَامِ بِسَاعَاتِ الدَّوَامِ، وَكَثرَةُ التَغَيُّبِ وَالتَّأَخُّرِ عَنِ العَمَلِ لأَعذَارٍ وَاهِيَةٍ، وَاختِلاقُ أَسبَابٍ غَيرِ مُقنِعَةٍ لِلتَّهَرُّبِ مِنَ المُحَاسَبَةٍ وَالمُعَاقَبَةِ.
وَمِن أَنمَاطِ الفَسَادِ احتِجَابُ بَعضِ المُدِيرِينَ أَوِ المُوَظَّفِينَ عَنِ المُرَاجِعِينَ سَاعَاتٍ طَوِيلَةً، وَإِغلاقُ الأَبوَابِ في وُجُوهِهِم، بِحُجَّةِ الانشِغَالِ بِاجتِمَاعٍ خَاصٍّ مَعَ مَسؤُولٍ أَكبَرَ، أَو لِقَاءٍ عَاجِلٍ لِبَحثِ مَوضُوعٍ مُهِمٍّ، وَيَحصُلُ بهذا أَن يَطُولَ انتِظَارُ النَّاسِ وَتُؤَخَّرَ مُعَامَلاتُهُم أَسَابِيعَ كَثِيرَةً وَأَشهُرًا مَعدُودَةً، دُونَ بَتٍّ فِيهَا أَو تَسيِيرٍ لها، أَو إِخبَارٍ لهم بما لهم فِيهَا أَو عَلَيهِم، وَقَد يَكُونُ السَّبَبُ الحَقِيقِيُّ لهذا التَّأخِيرِ وَالمُمَاطَلَةِ مُسَاوَمَةَ النَّاسِ وَجبارهم لِدَفعِ الرَّشَاوَى لِلإِفرَاجِ عَن مُعَامَلاتِهِم.
وَمِن أَنماطِ الفَسَادِ استِخدَامُ أَجهِزَةِ الإِدَارَةِ أَوِ المُؤَسَّسَةِ الَّتي يَعمَلُ فِيهَا الشَّخصُ لإِنجَازِ مَصَالِحِهِ الشَّخصِيَّةِ، أَو لإِنجَازِ مَصَالِحِ المُقَرَّبِينَ مِنهُ، أَو خِدمَةً لِمَن يَرجُو مِنهُم نَفعَهُ يَومًا مَا، في حِينِ يُمنَعُ بقية النَّاسِ مِنَ الانتِفَاعِ بِتِلكَ الأَجهِزَةِ، وَيُحرَمُونَ مِنِ استِثمَارِهَا في تَنفِيذِ مَشرُوعٍ صَغِيرٍ يَنفَعُهُم، وَتَظَلُّ تِلكَ الوَسَائِلُ رَهنًا لِلزَّمَانِ الَّذِي يُذهِبُ جِدَّتَهَا وَيُفسِدُهَا وَهِيَ لم يُستَفَدْ مِنهَا.
وَمِن أَنمَاطِ الفَسَادِ تَوَاطُؤُ بَعضِ رِجَالِ الأَمنِ أَو تَسَاهُلُهُم مَعَ المُتَّهَمِينَ أَوِ المُجرِمِينَ أَوِ المُخَالِفِينَ، وَتَسَاهُلُهُم في التَّحقِيقِ بما يُظهِرُ المُجرِمَ وَيُثبِتُ الجَرِيمَةَ في أَيِّ قَضِيَّةٍ تُوكَلُ إِلَيهِم، أَو إِفشَاؤُهُم لِبَعضِ المَعلُومَاتِ الَّتي لا يَحسُنُ إفشَاؤُهَا؛ لِئَلاَّ يَقَعَ قَرِيبٌ لهم أَو صَدِيقٌ في المُلاحَقَةِ وَتُطَبَّقَ عَلَيهِ الأَنظِمَةُ.
وَمِن أَنماطِ الفَسَادِ الَّتي قَد تَحدُثُ في أَيَّامِنَا هَذِهِ شِرَاءُ الأَصوَاتِ في الانتِخَابَاتِ، وَقَد حَدَثَ في الأَيَّامِ الأُولى لِلانتِخَابَاتِ شَيءٌ مِن هَذَا بِاستِغلالِ جَاهِ بَعضِ الكُبَرَاءِ، وَرَفَعِ عَزَاءِ الجَاهِلِيَّةِ وَبَعثِ رُوحِ العَصَبِيَّةِ القَبَلِيَّةِ، وَاللهُ المُستَعَانُ.
وَمِن صُوَرِ الفَسَادِ ضَعفُ الاحتِسَابِ عَلَى البَاعَةِ في الأَسوَاقِ، وَإِهمَالُ المُرَاقِبِينَ الَّذِينَ نُصِّبُوا لهذا الشَّأنِ لأَصحَابِ المَحَلاَّتِ، وَتَركُهُم يَبِيعُونَ في أَسوَاقِ المُسلِمِينَ مَا يَضُرُّ أَبدَانَهُم وَعُقُولَهُم مِن رَدِيءٍ وَمَمنُوعٍ وَمُحَرَّمٍ، وَالسَّمَاحُ لِلتُّجَّارِ وَغَضُّ الطَّرفِ عَنهُم لِيَرفَعُوا الأَسعَارَ أَو يَحتَكِرُوا السِّلَعَ كَمَا يَشَاؤُونَ.
فَهَذِهِ وَغَيرُهَا أَنوَاعٌ مِنَ الفَسَادِ الإِدَارِيِّ وَالمَاليِّ المُنتَشِرِ، وَالَّذِي هُوَ وَإِنْ كَانَ ثَمَرَةَ مَجمُوعَةٍ مِنَ العَوَامِلِ المُختَلِفَةِ، وَنَتِيجَةً لأَسبَابٍ مُتَدَاولَةٍ، إِلاَّ أَنَّ مَحَبَّةَ المَالِ وَالطَّمَعَ في زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَالتَّوَسُّعَ في الشَّهَوَاتِ، وَجَعلَهَا مِقيَاسًا لِلنَّاسِ، يُعَدُّ مِن أَكثرِ العَوَامِلِ المُسَبِّبَةِ لِلفَسَادِ، يَلِي ذَلِكَ أَسبَابٌ اجتِمَاعِيَّةٌ، تَتَقَدَّمُهَا العَصَبِيَّةُ القَبَلِيَّةُ، ثُمَّ العَصَبِيَّةُ مِن أَهلِ كُلِّ مِنطَقَةٍ أَو مَدِينَةٍ لأَهلِ مِنطَقَتِهِم أَو مَدِينَتِهِم، يُضَافُ لِذَلِكَ غِيَابُ القُدوَةِ الحَسَنَةِ حَتَّى مِمَّن يُشَارُ إِلَيهِم بِالبَنَانِ مِن بَعضِ الصَّالِحِينَ وَذَوِي الجَاهِ وَالمَنصَبِ وَكِبَارِ المَسؤُولِينَ.
وَأَمَّا رَفعُ تَكَالِيفِ المَعِيشَةِ، وَتَدَنِّي أُجُورِ المُوَظَّفِينَ وَالعَامِلِينَ، وَعَدَمُ تَحقِيقِ العَدَالَةِ لِلنَّاسِ في مَصَالِحِهِم، وَعَدَمُ تَطبِيقِ مَبدَأِ الجَدَارَةِ في التَّعيِينِ، فَإِنَّ كُلَّ هَذِهِ الأُمُورِ مِمَّا يُوجِدُ لِلفَسَادِ في مُجتَمَعِنا أسُوقًا رَائِجَةً، بَل وَيُلتجِئُ إِلَيهِ بَعضَ مَن لا يُرِيدُونَهُ، وَلَكِنَّهُم يَركَبُونَ إِلَيهِ مَرَاكِبَ الاضطِرَارِ وَالحَاجَةِ.
وَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ القَضَاءُ عَلَى مَا يُوجَدُ مِن فَسَادٍ قَبلَ اتِّسَاعِ دوائره، فَإِنَّ عَلَى المَسؤُولِينَ تَشدِيدَ المُرَاقَبَةِ عَلَى كُلِّ الجِهَاتِ، وَمُتَابَعَةَ جَمِيعِ الأَجهِزَةِ وَالمُؤَسَّسَاتِ، وَتَطبِيقَ نِظَامِ المُسَاءَلَةِ بِشَكلٍ دَقِيقٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَمُحَاسَبَتَهُ مَهمَا كَانَ مَوقِعُهُ، وَأَلاَّ يُحَابُوا وَجِيهًا لِمَكَانَتِهِ أَو يُجَامِلُوا غَنِيًّا لِتِجَارَتِهِ، وَألاَّ تَأخُذَهُم في إِحقَاقِ الحَقِّ وَإِبطَالِ البَاطِلِ لَومَةُ لائِمٍ كَبِيرًا كَانَ أَو صَغِيرًا، وَعَلَى وَسَائِلِ الإِعلامِ أَنَّ تَتَوَلىَّ تَوعِيَةَ النَّاسِ بِأَضرَارِ الفَسَادِ وَتُوَضِّحَ لَهُم أَشكَالَهُ، بَدَلاً مِن إِفسَادِهِم بِالبَرَامَجِ التَّافِهَةِ وَشَغَلِهِم بِسَاقِطِ الأَخبَارِ.
وَمَعَ هَذَا فَلا بُدَّ مِن تَقوِيَةِ الوَازِعِ الدِّينيِّ لَدَى النَّاسِ، وَبَعثِ رُوحِ المُرَاقَبَةِ لِرَبِّهِم في نُفُوسِهِم، وَتَربِيَةِ النَّشءِ عَلَى الأَخلاقِ الإِسلامِيَّةِ السَّامِيَةِ، وَزَرعِ القِيَمِ العُليَا في نُفُوسِهِم، مَعَ مَعرِفَةِ الجَمِيعِ بِالقِيمَةِ الحَقِيقِيَّةِ لِلحَيَاةِ الدُّنيَا، وَتَيَقُّنِهِم بِأَنَّهَا دَارُ مَمَرٍّ وَلَيسَت بِدَارِ مقَرٍّ، وَأَنَّ كُلَّ مَا فِيهَا مِن بُرُوقِ الطَّمَعِ فَإِنَّمَا هِيَ مِن مَتَاعِ الغُرُورِ، وَأَنَّهَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مِن أَموَالٍ وَعَقَارَاتٍ وَمَنَاصِبَ وَتِجَارَاتٍ لا تُسَاوِي عِندَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، فَلِمَاذَا تَضيِعُ الأَمَانَةُ لأَجلِهَا؟ وَلماذَا تُرتَكَبُ الخِيَانَةُ بِسَبَبِهَا؟ وَلِمَ بَيعُ الآخِرَةِ بِحَفنَةٍ مِنهَا؟
إِنَّ تَيَقُّنَ المَرءِ بِأَنَّهُ حِينَ يَتَوَلىَّ أَيَّ مَنصِبٍ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لَهُ تَكلِيفٌ وَلَيسَ بِتَشرِيفٍ، وَتَذَكُّرَهُ أَنَّ اللهَ رَقِيبٌ عَلَى عِبَادِهِ يَعلَمُ مِنهُم خَائِنَةَ الأَعيُنِ وَمَا تُخفِي الصُّدُورُ، وَأَنَّهُ مَحشُورٌ إِلى رَبِّهِ {يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلاَّ مَن أَتَى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89]، {يَومَ لا يُغني مَولىً عَن مَولىً شَيئًا وَلا هُم يُنصَرُونَ} [الدخان:41].
وَأَنَّ حِبَالَ الكَذِبِ قَصِيرَةٌ وَإِنْ مَدَّهَا طُولُ الأَمَلِ، وَدَوَائِرَ الغِشِّ ضَيِّقَةٌ وَإِنْ وَسَّعَهَا الغُرُورُ، وَأَنَّ اللهَ يُملِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لم يُفلِتْهُ، إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَيَجعَلُ المَرءَ يُطِيلُ التَّفكِيرَ قَبلَ أَن يُقَصِّرَ في عَمَلٍ قَدِ اؤتُمِنَ عَلَيهِ، أَو يُبَدِّدَ مَالاً لِلأُمَّةِ تَحتَ يَدِهِ، أَو يُحَابيَ أَحَدًا لِمَتَاعٍ مِنَ الدُّنيَا قَلِيلٍ، كَيفَ وَقَد قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «مَن وَلِيَ مِن أُمُورِ المُسلِمِينَ شَيئًا فَاحتَجَبَ دُونَ خَلَّتِهِم وَحَاجَتِهِم وَفَقرِهِم وَفَاقَتِهِم، اِحتَجَبَ اللهُ عَنهُ يَومَ القِيَامَةِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَفَاقَتِهِ وَفَقرِهِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابنُ مَاجَة وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).
وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «اللَّهُمَّ مَن وَلِيَ مِن أَمرِ أُمَّتي شَيئًا فَشَقَّ عَلَيهِم فَاشقُقْ عَلَيهِ، وَمَن وَلِيَ مِن أَمرِ أُمَّتي شَيئًا فَرَفَقَ بهم فَارفُقْ بِهِ» (رَوَاهُ مُسلِمٌ).
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ مَا مِنَّا أَحَدٌ اليَومَ إِلاَّ وَهُوَ عَلَى ثَغرٍ مِن ثُغُورِ أُمَّتِهِ، أَو عَلَى طَرِيقٍ لِخِدمَةِ مُجتَمَعِهِ وَنَفعِهِ، أَو بِيَدِهِ شَيءٌ مِن مَصَالِحِ النَّاسِ العَامَّةِ أَوِ الخَاصَّةِ، فَإِذَا جَارَ القَاضِي وَمَالَ مَعَ خَصمٍ دُونَ خَصمِهِ، أَو حَالَ وَالٍ دُونَ صَاحِبِ حَقٍّ وَحَقِّهِ، أَو مَنَعَ رَئِيسُ او مُوَظَّفًا مِن مَرتَبَةٍ يَستَحِقُّهَا مُحَابَاةً لِمَن لَهُ عِندَهُ مَصلَحَةٌ، أَو تَقَاعسَ رَئِيسُ قِسمٍ أَو مُوَظَّفٌ فَأَخَّرَ مُعَامَلَةَ مُسلِمٍ لأَنَّهُ لا مَصلَحَةَ لَهُ عِندَهُ، وَسُلِّمَتِ المَشرُوعَاتُ لِمَن لا خِبرَةَ لَدَيهِم لأَنَّهُم يَدفَعُونَ رِشوَةً أَكثَرَ، أَو تَغاضَى رَجُلُ الأَمنِ عَن مُجرِمٍ أَو مُفسِدٍ لِصَلَةِ قَرَابَةٍ بِهِ، أَو قُدِّمَ أَحَدٌ عَلَى آخَرَ في وَظِيفَةٍ لِحَمِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ أَو عَصَبِيَّةٍ قَبَلِيَّةٍ، فَكَبِّرْ إِذْ ذَاكَ عَلَى المُجتَمَعِ أَربَعًا وَقُلْ عَلَيهِ السَّلامُ، بَلِ ادفَنْهُ وَلا تَتَرَحَّمْ عَلَيهِ.
إِنَّ لِلفَسَادِ الإِدَارِيِّ وَالمَاليِّ في المُجتَمَعَاتِ آثَارًا بَالِغَةً وَأَضرَارًا فَادِحَةً، وَعَوَاقِبَ وَخِيمَةً وَنِهَايَاتٍ سَيِّئَةً، فَهُوَ مَرَضٌ خَبِيثٌ يُضعِفُ قُوَّةَ المُجتَمَعِ وَيُذهِبُ مَنَاعَتَهُ، وَيَجعَلُهُ عُرضَةً لأَمرَاضٍ أُخرَى مُستَعصِيَةٍ.
فَحِينَ يُصبِحُ ابنُ الوَطَنِ عَلَى استِعدَادٍ لِبَيعِ ذِمَّتِهِ مِن أَجلِ حَفنَةٍ مِنَ المَالِ أَو مُجَامَلَةً لِقَرِيبٍ أَو مُحَابَاةً لِصَدِيقٍ، أَو طَلَبًا لِمَدحٍ أَو خَوفًا مِن ذَمٍّ؛ ضَارِبًا بِمَصَالِحِ آلافِ البَشَرِ عُرضَ الحَائِطِ، فَإِنَّكَ لَن تَجِدَ حِينَئِذٍ إِلاَّ قَومًا يُخرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيدِيهِم، وَيَفَقَؤُونَ أَعيُنَهُم بِأَصَابِعِهِم، وَيَقضُونَ بِقُوَّةٍ عَلَى آمالِ أُمَّتِهِم في النُّهُوضِ مِن كَبوَتِهَا وَالسَّيرِ في رَكبِ الحَضَارَةِ، وَيَجعَلُونَهَا تَعِيشُ في كُرهٍ لِوُلاتِهَا وَبُغضٍ لِمُدِيرِي دَوَائِرِهَا وَرُؤسَاءِ مُؤَسَّسَاتِهَا، بَل وَلِكُلِّ مُوَظَّفٍ فِيهَا وَعَامِلٍ.
وَإِنَّ التَّأرِيخَ لا يُجَامِلُ أَحَدًا وَلا يَرحَمُ مُفسِدًا، وَمَهمَا سَكَتَ أَو تَوَقَّفَ عَنِ كِتَابَةِ الحَقِيقَةِ لاستِيلاءِ الظَّلَمَةِ عَلَى سُدَّةِ الأُمُورِ في حِقبَةٍ مَا، فَإِنَّهُ سَيَنطِقُ يَوَمًا مَا بِلَهجَةٍ فَصِيحَةٍ، وَسَيُسمَعُ لأَقلامِهِ صَرِيرٌ وَهِيَ تُحَدِّثُ عَن مُفسِدِي كُلِّ عَصرٍ وَتَعِض النَّاسَ بِمَصَارِعِهِم، حَيثُ لم تَنفَعْهُم سُلطةٌ وَلا كَثرَةُ مَالٍ، وَلا أَغنى عَنهُم جَاهٌ وَلا شُهرَةٌ.
وَحَتَّى وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ سَارِقًا ذَهَبَت بِهِ خِفَّةُ يَدِهِ عَنِ النَّاسِ، أَو مُرَاوِغًا حَالَت حِيلَتُهُ بَينَهُ وَبَينَ أَعيُنِ الرَّقَابَةِ، فَسَتَظَلُّ هُنَالِكَ عَينٌ لا تَخفَى عَلَيهَا خَافِيَةٌ، إِنَّهَا عَينُ اللهِ الَّذِي {يَعلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ مَا يَكُونُ مِن نَجوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُم وَلا خَمسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُم وَلا أَدنى مِن ذَلِكَ وَلا أَكثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُم أَينَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بما عَمِلُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ وَلْيَكُنْ لَنَا فِيمَن مَضَى مُعتَبَرٌ.
اِقرَؤُوا التَّأرِيخَ إِذْ فِيهِ العِبَرْ *** ضَلَّ قَومٌ لَيسَ يَدرُونَ الخَبَرْ
إِنَّ مَا حَدَثَ في عَامِنَا هَذَا مِن ثَوَرَانِ شُعُوبٍ عَلَى وُلاتِهَا، وسُقُوطِ رُؤَسَاءَ وَنَزعِ مُلكِهِم وَانتِهَاءِ سُلطَتِهِم، وَذَهَابِ هَيبَةِ آخَرِينَ مِمَّن يُوشِكُونَ أَن يَسقُطُوا، إِنَّ مِن أَعظَمِ أَسبَابِ هَذَا كُلِّهِ تَفَشِّي الظُّلمِ وَانتِشَارُ الفَسَادِ وَظُهُورُ الرَشَاوَى، وَغِيَابُ العَدلِ وَالاستِئثَارُ بِالأَموَالِ العَامَّةِ دُونَ النَّاسِ، وَعَدَمُ تَولِيَةِ ذَوِي الكِفَايَةِ في الوَظَائِفِ الَّتي يَستَحِقُّونَ.
فَالحَذَرَ الحَذَرَ، نَسأَلُ اللهَ أَن يُدِيمَ عَلَينَا وَعَلَى بِلادِنَا الأَمنَ وَالإِيمَانَ وَالاطمِئنَانَ، وَأَن يَجمَعَ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِهِ، وَيُؤَلِّفَ بَينَنَا عَلَى مَا يُرضِيهِ، وَيُجَنِّبَنَا الفَسَادَ وَالمُفسِدِينَ.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.