الأول من سبتمبر عام 1961م كانت أفريقيا والعالم أجمع مع ميلاد ثورة شعبية جماهيرية وطنية في شرق القارة السمراء أطلقها الرمز التحرري الشهيد حامد إدريس عواتي الذي فتحت رصاصته الطريق لنضالات جماهير الشعب الأرتري معلناً ثورته للتحرر من الاستعمار الأثيوبي وتحقيق الاستقلال للوطن بعدد قليل من الرجال وبمرور وقت قصير إلتف من حوله العشرات ثم المئات المؤلفة عدداً وقلباً رجالاً ونساءاً تحت راية الوطن الواحد أرضاً وشعباً . اليوم تحل علينا ذكراها السنوية ال 54 كواحدة من ذكريات الثورات الخالدة التي سُجلت ضد النسيان في ذاكرة التحرر ونضالات الشعوب ، خلدها التأريخ كثورة تحررية عظيمة حيث تعالى صوت لهيبها أرجاء العالم بدءاً من السودان وجيبوتي والصومال وصولاً إلى سوريا والصين وكوبا وفنزويلا والعراق وغيرها من الدول التي كان لقوة ثورة سبتمبر الأثر في مساندة شعوب العالم عبر الأدباء والمفكرين والسياسيين و قد وفرت بعضها فرصاً للتدريب والتأهيل بشتى أنواعه الأكاديمي والسياسي والعسكري . إن ثورة سبتمبر المجيدة التي قادها وحمل لواءها حامد عواتي الرمز الخالد الذي يعتز به كل الأرتريين ونعتز به معهم بكل فخر لأنه رمز من رموز الحرية والكفاح كبقية الأحرار ، و حتى يدرك البعض عدم الإيمان القاطع بالحدود الإستعمارية التي أسسها المستعمر لمصالحه مقسماً بها أوصال أرحام اجتماعية وتمددات ثقافية نفخر بها كثيراً في شرق وطننا السودان كبقية أطراف الوطن شمالا بمصر وغربا بتشاد وجنوبا بالجنوب ويوغندا ، فأرتريا تبقى كتهمة لا ننكرها وشرف لا ندعية ، وكما أن مناصرة الثورة الأرتريه أيام نضالها عمل عظيم شارك فيه كثير من أهل الشرق فغير الرعيل الأول الذي كان بينهم عدد كبير من حاميات كسلا والقضارف ، كانت هنالك مناصرات تضامنية من أهل الشمال والوسط والغرب وشخصيات بارزة أمثال الصحفي الأستاذ سيد أحمد خليفة و الزعيم الاتحادي محمد جبارة العوض والفنان محمد وردي وشاعر القطرين كجراي والشاعر الكبير التجاني حسين دفع السيد وآخرين كثُر أثرت فيهم ثورة الأرتريين . لذا يلزمنا أن نعلم بأنها دوائر ثقافية واجتماعية لن يستطيع أحد أن يفصلها وعلى الكل أن يعتز بإمتداداته الاجتماعية والثقافية بفخر دون خشية وخجل فمن له صلة بتأريخ مشرف كهذا عليه أن يقدمه بوعي ودون طأطأة رأس . وكذلك نعتز بها لأنها تعتبر واحدة من أكبر الثورات القومية التحررية التي شهدتها المنطقة وما حولها حيث لم تستسلم لثلاثين عاماً من القتال والنضال مع أشرس جيش أفريقي وأعتى إمبراطورية لم تستعمرها أي من دول الإستعمار ، وكانت تقف بجانبها قوى الإمبريالية العالمية لوأد ثورة الأرتريين الذين لم يبلغ عددهم حينها الخمسة ملايين ، إلا أن الثورة كانت هي الأقوى لأنها نبعت من إرادة شعب توحد خلف رصاص ثورته مؤمنين بحقهم في الإستقلال والكرامة . إستطاعت ثورة سبتمبر بعد نضال وكفاح مستمر تعددت فيها المسميات والكيانات والقيادات بعد إستشهاد بطلها عواتي أن تتوج نضالها بإستقلال مجيد إنتظره الأرتريون بصبر لأجل الإنخراط بذات الإرادة لبناء دولة العدالة والمؤسسات التي تسودها قيم العدل والحرية والمساواة ولتعُم التنمية أرجاء بلادهم قيثارة القرن الإفريقي. لكن سنوات قليلة تمضي لم تبلغ تمامة أصابع اليد الواحد من الإستقلال ليتفاجأ المواطنون بأن من إعتقدوا فيه رمزاً و أوهَم من حوله برمزيته النضالية بدأ يكشر عن أنيابه الخفية ليعلن قمعاً ديكتاتورياً عنيفا لم يسلم منه أصدقاء الثورة وقادة العلم والمعرفة ليحول بسرعة الصاروخ أرتريا إلى سجن كبير نحرت بداخله كل الآمال والعهود وشعارات الثورة والثورية لتعج الدولة الوليدة بسجناء الشعب الذي بحق لا يستحق هذه الجرائم التي مورست وتمارس فيه بديكتاتورية وطائفية مريضة جعلت من بلدهم سجناً وبلداً طارداً لأبناءه لاجئيين حول العالم من جحيم النظام إلى جحيم البحر الأبيض المتوسط ومتاهات معسكرات اللاجئيين حيث المعاناة الأبدية وعصابات الإتجار بالبشر التي جعلت من شرق السودان سوقاً للجملة والقطاعي مع ظلم ذوي الجار من نظام الإنقاذ الذي لا يقل في ديكتاتوريته عن حليفه الأرتري في قهر وقمع شعبه وتعاون كل طرف منهما في التآمر على القضايا والحقوق العادلة للمطالبين بها من الطرفين وما المؤامرة المشتركة على قضية الشرق عبر الكسيحة إتفاقية السلام ببعيدة . ما يعانيه الشعب الأرتري من الظلم والاضطهاد والقمع والمآسي على امتداد التاريخ الطويل لقرابة الربع قرن من الزمان من قبل النظام الحاكم ، كان يستحق فيه أن تخرج ذات الرصاصة التي فجرها عواتي في وجه المستعمر الأثيوبي بعدد قليل من الرجال كانوا يمتلكون الإرادة والثقة بالنفس وبعدالة حقهم مجدداً في وجه الطغيان وتتصدى أكثر حدثاً لكل الممارسات والسياسات والتشريد . نعم هنالك أصوات أرترية نجدها تكتب هنا وهناك تحدثنا عن معاناة أو نضالات سابقة لكن الحقيقة الواحدة تبقى هي ( الفعل ) الذي ينهي كل هذا الطغيان حيث الإعادة المتكررة لسير التأريخ وعقد مؤتمرات تلي مؤتمرات وسمنارات يسبقها عشرات السمنارات دون صناعة أحداث حقيقية على أرض الواقع داخل العمق الأرتري لن يخدم معاناة الشعب بشيء فكل ما يحدث خارجياً يستحسن حدوثه بعد أن تنفض المعارضة ما تحت رماد الداخل . ضعف العمل المعارض للتنظيمات الأرترية بشتى مسمياتها التي فاقت بإنقساماتها عدد المدن الأرترية في دولة تعدادها قد لا يتجاوز العشرة ملايين يعود أولاً إليها كمعارضة بعد الإتكاء على عدو الأمس الذي بكل المؤشرات والقراءات لن يكون خادماً للقضية بمثقال ذرة ولن يسعى بجدية للوقوف خلفها و إن وقف لن يكون المولود سوى نسخة أخرى لواقع أكثر سوءاً بوجوه مختلفة تتبع لربيبها في أديس أبابا . عدم قدرة تنظيمات المعارضة على كسر الصمت وفك الحصار السياسي الديكتاتوري بالعمل من داخل أرتريا وفشلها في تقصي المعلومات بشتى أنواعها عن كل ما يحدث بالداخل خاصة في الجوانب السياسية والأمنية يثبت عجزها الدائم وإشتراكها في ظلم الشعب الذي ينتظر من المتحدثين بإسمه في ساحات وقاعات أثيوبيا وأوربا وأستراليا وكندا وأمريكا وتركيا ومصر للإنخراط بين حنايا أزقة المدن والقرى ملتحمين صفوفاً بين الجماهير في تحريك برك الوعي و إشعال ثورة حقيقية أخرى تقوم وتنتهي بأن أرتريا لكل الأرتريين تحقق طموحات وتطلعات المواطنيين التي ينتظرونها منذ رصاصة عواتي في 1961م . آخر المطاف : أتقدم بالتهنئة لكل أسر الشهداء والجرحى وللأمهات والآباء والأطفال والطفلات في معسكرات اللاجئين وللواقفين أمام البحر الأبيض المتوسط ينتظرون العبور للضفة الأخرى وتهنئة لكل شيخ كبير في السن أعجزته الحياة والسنوات متحملاً المرارات ولذات وجع الأمهات ومن ثم التهنئة لكل أحرار العالم وعشاق الحرية وسيبقى عواتي رمزاً يستحق دراسة تجربته الثورية على أمل أن تعود الذكرى القادمة وأرتريا وكل العالم خالي من الأنظمة الديكتاتورية . كفى ونلتقي في قضية أخرى وليس بعد الليل إلا فجر مجدٍ يتسامى [email protected]