لم يكن أكثر المتشائمين بما بلغه حالنا من سوء وتردٍ طال كل شيء، يتصور أن تصل بنا غلظة القلب والتجرد من الإنسانية والشراهة لكنز المال إلى الدرجة التي تجعل بعض المستشفيات تحتجز جثامين من يتوفون داخلها، إلا بعد أن يسدد ذووهم فاتورة العلاج، آسف أقصد فاتورة الموت على داير المليم، أو أن يقدم ذووهم أحدهم رهينة يتم حبسه داخل المستشفى لحين السداد، ولنا على هذين المسلكين الشائهين البشعين مثالين، ففي أنباء اليومين الماضيين أن أحد مستشفيات العاصمة لم يفرج عن جثمان رجل تُوفيَ بداخله إلا بعد أن حصل على ما يضمن له سداد متبقي فاتورته البالغ فقط خمسة آلاف جنيه لا غير، ولكم أن تتخيلوا بشاعة المشهد اذا علمتم أن ذلك (الضمان) كان هو ابنة المتوفى التي حجزها المستشفى وأبقاها رهينة داخله مقابل جثمان والدها ليضمن سداد ذلك المبلغ التافه، غير أن الأتفه من المبلغ هذا السلوك القبيح المشين الذي لا يليق بالمشافي وإن جاز في كناتين الأحياء التي تتعامل ب(الأمنية)، والمثال الآخر كان لرجل معروف ومشهور ومقتدر هو القاضي صلاح حسن - رحمه الله - صاحب واحدة من أشهر السوابق القضائية في السودان، هي قضية طرد الحزب الشيوعي من البرلمان والتي ظل دارسو القانون يستلهمون منها الدروس والعبر عن كيف تكون النزاهة والعدالة في إصدار الأحكام القضائية، فرغم شهرة الرجل وقدرة أسرته المالية، ورغم تعهد ذويه وتقديمهم للضمانات الكافية لإدارة المستشفى الذي تُوفيَ فيه بسداد فاتورة العلاج الذي لم يكن سوى (دربات وجهاز تنفس) في اليوم التالي، حيث تصادف أن كان يوم وفاته يوم الجمعة الذي لا تعمل فيه البنوك، ولكن إدارة المستشفى التي عماها حب المال عن استبصار ما عدا الاستثمار من عوائد أخلاقية وإنسانية ومهنية، احتجزت الجثمان ورفضت تسليمه لذوي المتوفى حتى يسارعوا بإكرامه بالإسراع في دفنه إلا بعد أن يسددوا فاتورة العلاج على داير المليم لا تنقص ولا فرطاقة، ولم تشفع لهم لا الضمانات والتعهدات التي قدموها ولا العذر الذي طرحوه ولا حتى آصرة الزمالة التي تجمعهم بكريمته الطبيبة التي كانت في رفقته. ولك بعد ذلك وحدك - عزيزنا القارئ - حق تقدير ما بلغته سياسة خصخصة الخدمات وانسحاب الدولة منها من استهانة بالإنسان حد المساومة بالجثامين، ولك أيضاً - عزيزنا القارئ - أن تقدر حجم النصب والعذاب الذي يكابده المرضى من الفقراء وذوي الدخل المحدود والحيل المهدود بعد أن علمت بالمعاملة التي وجدها هذا المتوفى ذائع الصيت وأسرته المقتدرة. لا شك أنهم يلقون معاملة أسوأ من ذلك بكثير وكأنما كُتب عليهم أن لا يمرضوا، وإذا مرضوا فما عليهم إلا أن يتحملوا مسؤولية مرضهم كاملة في انتظار إحدى الحسنيين، إما شفاءً يهبط عليهم من السماء بقدرة العزيز المقتدر الشافي من كل وباء والكافي من كل بلاء، أو يسلمون الروح إلى الرؤوف الغفور الرحمن الرحيم، ولا عزاء للتراحم والتكافل. ولا حول ولا قوة إلا بالله. [email protected]