كان الوقت نهارا أو ليلا، وكان ثمة هدوء مشوب بتوتر غامض ظلّ يرمي بظلاله على كل شيء، عندما أقبل رجل في نحو الأربعين، ملامحه لا تشبه ملامح أهل المدينة: أنفه مستقيم وحاجباه مقرونان، بشرته بيضاء، ولا تبدو عليه آثار السفر الطويل. كان يرتدي جلبابا أبيض نظيفا، وحول عنقه تلتف مسبحة خضراء متدلية إلى أسفل صدره كثعبان ميت. طرق باب حوش الداية أم سدير، قائلا "سلام، يا أهل الدار". أخذت الحيرة ترتسم على وجه الداية ما إن وقفتْ في فراغ الباب. كانت تحاول جاهدة أن تتعرف على ملامح الطارق. عيناه واسعتان. حزينتان. وادعتان. ثمة دموع ظلّت تهمي منهما بصمت ولا توقف مبللة لحية مستديرة جاور بياضها سوادها تجاور الموت للحياة. تحركت عواطف الداية أم سدير، على حين غرة، وهي ترى قبالتها رجلا غريبا يبكي بصمت، حتى كادت أن تسأله إن كان جائعا أم أنه في حاجة ماسة إلى مساعدة، لولا أنه قاطعها، قائلا "لا هذا ولا ذاك يا أم سدير. لست جائعا. ولا أريد حاجة من بشر". بدأ عندها الخوف يتسلل إلى قلبها، خوف كوني عميق مطبق وشامل، وقد بدا كما لو أن مصدره بريق معدني صاف ما ينفك يومض خلل الدموع من داخل عينيه، بل من قدرته الخارقة تلك على معرفة الخواطر الصامتة وما تخفي الصدور. وكادت الداية أن تموت من ذعر، لو لا أن الطارق رفع يده البيضاء، وربت على كتفها، قائلا "لا تراعي يا أم سدير". كان يتفوه باسمها بحنو أعاد شيئا من طمأنينة إلى صدرها الذي أخذ يعلو ويهبط كما لو أنها تعاني من ضيق حاد في التنفس. قالت مغالبة نهري الدمع الذين طفرا من عينيها بينما تستند إلى جانب الباب المشرع كمن سيتداعى في أية لحظة "هل أنت سيدي ولي الله الشيخ الطيب راجل أم مرح"؟ قال الطارق "لا يا أم سدير. فذلك البدر الزاهي. نفع اللهُ العبادَ بجاهه. سيدي. قطب الأقطاب (أمدنا الله بمدده. وسقانا من كؤوس معارفه ورشده. وقد ظهر عند ولادته ما دل على ولايته من الروائح العطرية. والمنشرحات الصدرية). وما أنا سوى عبد فقير. أتيت لأخبرك فقط أنها إرادة الله، يا أم سدير". فجأة، كما أقبل الرجل الغريب، تلاشى، مخلفا على مجرى أنفها أثرا قويا كرائحة المسك. حين أفاقت الداية أم سدير من وقع الصدمة قليلا، وبدا لها لوهلة كما لو أنها كانت تخاطب شبحا، وقد أدركت أنّه لم يعد أمامها من شيء آخر لتبينه، سوى الشارع الذي تحول إلى نهير بمياه حمراء راكدة. هكذا، قبل نحو ثلاثة أشهر من ولادة الأمنجي السابق، ظلّ نفس الحلم يتكرر كل ليلة وبأدق تفاصيله في ثنايا منام الداية أم سدير. ما أخذ يثير روعها، لحظة أن تستيقظ، شاعرة في أعماقها بذلك الخوف الغامض، كان تحول الشارع أمامها إلى بركة حمراء تخترق سطحها دائما أياد توشك على الغرق بينما تمتد نحوها مستغيثة من وطأة شيء ضاغط لا مرئي على أرواحها. شيء لا فكاك منه، كالقدر. ثلاثة أشهر بالتمام والكمال. لم يغادر الحلم منام الداية أم سدير ليلة واحدة. إلى أن جاءها في ساعة قيلولة من يخبرها أن والدة الأمنجي السابق علوية التركية على وشك أن تخرجه إلى عالم يبدو من أحواله آنذاك أن خروج الأمنجي السابق إليه كان بمثابة الشيء الوحيد الغائب من مصائبه التي لا تحصى. على أن الداية أم سدير لم تفهم أبدا خلال تلك الأشهر ما الذي كانت تحاول أن تخرجه من جحر عميق مظلم لحظة أن طرق الرجل باب بيتها. بعضهم أخبر الداية أم سدير أنها ستحصل على كنز في القريب، وأنها لن تفتقر أبدا إلى آخر يوم لها "على ظهر هذه الفانية". آخرون نظروا إلى الداية أم سدير بجزع مؤكدين أن عليها أن تصلي وأن تصوم وأن تذكر الله كثيرا صباح مساء وأن تتصدق، لأن يديها هاتين ستجلبان إلى العالم مَن لا يخاف الله في عباده. وقد كان. [email protected]