دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أصداء وأحداث غزو السودان ببريطانيا في عام 1898م

The Sudan Sensation of 1898
ريتشارد فيلتون Richard Fulton
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لشذرات مما ورد في مقال طويل لريتشارد فيلتون عن الاستثارة الإعلامية التي سبقت وصاحبت الغزو البريطاني للسودان في عام 1898م (والذي شارك فيه بريطانيون ومصريون وسودانيون)، وطرق تعبير الاعلام والجمهور عن "أشواقهم" في الثأر من قتلة غردون. ونشر المقال في العدد الثاني والأربعين من مجلة الدوريات الفيكتورية Victorian Periodicals Review الصادر في عام 2009م.
وأنقل هنا تعليقا حصيفا وصلني من صديق عن هذا المقال:
"وكان ضابط المخابرات ونجت يدرك تماما ابعاد هذه الاستثارة التي بلغت بغردون مبلغا لم يبلغه غيره من جنود حتى فاق في نفوس الناس ما كان لنيلسون قائد معركة ترافلغار (الطرف الاغر) من مقام، فغدا شهيد الامبراطورية وايقونة المسيحية وقديسها!! وربما استفادت البلاد على نحو مباشر من هذا بتخليد ذكرى غردون بالكلية التذكارية التي تدافع الجميع بالمناكب من أجل بنائها، واقامة تمثاله الذي بقيت صورته لزمن طويل بعد الاستقلال على فئات عملتنا المعدنية والورقية !!
وأفلح ونجت الذي كان متمرسا بألاعيب المخابرات في الإمساك بتداعيات تلك الاستثارة وراح يزكى نيرانها باستكتاب سلاطين باشا للسيف والنار، وتوفر على تحريره بلغة رصينة لا تشبه ما كانت عليه لغة سلاطين التى كانت محور تندر الضباط الانجليز الذين كانوا يصفونه بأنه outsider أو (واغل متطفل)!
وحفز القس اهورولدر الإيطالي (لغة وعرقا) ليكتب "عشر سنوات من الأسر في معسكر المهدى " الذى سرعان ما ترجم للإنجليزية إلى جانب كتب أخرى. وأردفها ونجت نفسه بكتابه الضخم المعروف من بعد، وكذلك الضابط الصاعد تشرشل ب "حرب النهر"!
وهنالك مقال مشابه لهذا المقال من تأليف فيرقس نيكول بعنوان"حول مقتل غوردون وتأثير يومياته (journals) على الثقافة الفيكتورية" يمكن مراجعته في الشبكة العنكبوتية.
المترجم
***** ***** ***** ****
في فجر الجمعة، الثاني من سبتمبر 1898م قام جيش الجنرال هيربرت كتشنر المكون من 24000 من الجنود البريطانيين والمصريين والسودانيين بمواجهة 60000 رجلا سودانيا من أنصار المهدي بقيادة زعيمهم الديني والسياسي الخليفة عبد الله. واستغرقت المعركة بين الطرفين أربع ساعات في كرري بشمال أمدرمان عاصمة دولة الدراويش، وانتهت بالقضاء المبرم على جيش المهدية، وإعادة ضم السودان للسيادة المصرية، وبصعود نجم كتشنر لقمة قادة جيوش بريطانيا. وصاحبت حملته تلك، ولمدة خمسة شهور قادمة، صرعة أصداء إثارة غير مسبوقة سادت، بطريقة من الطرق، في ضمير وإحساس وعقل كل بريطاني تقريبا.
وظهرت آثار صرعة واستثارة تلك المعركة جلية في عدد من المواقف والأحداث. ففي عامي تلك الحملة الحربية ظهرت حملة إعلام موازية ومنظمة شملت مقالات وتقارير مصورة تابعت عن قرب تقدم الحملة عبر النيل، بجنودها من البريطانيين و"الأهالي" ضد عدو شرس وقديم (رغم أن عمر المهدية كان حينها 16 عاما فقط!). ودخلت حملة كتشنر في معركتين كل عام، كان النصر هو حليفها في كل واحدة منها، ودون التعرض لخسائر تذكر. وبذا لم يكن هنالك من داع حقيقي يدعو الصحافة البريطانية للتحسر على "خسارة أرواح الشباب البريطاني الشجاع". وطفقت تلك الحملات الصحافية في تصوير كتشنر باعتباره قائدا مغوارا وليثا هصورا، وتحتفي كثيرا وطويلا بجنوده الأبطال الأشاوس، خاصة عند تسجيل وقائع معركتهم الأخيرة في أمدرمان، والتي تبارت كل الصحف البريطانية في نشر تقاريرها كما وصلتها من مراسليها الحربيين، دون أي تصحيح أو تدقيق لغوي. ووصفت تقارير تلك الصحف معركة كرري بتفصيل شديد، وأسهبت في ذكر أنواع الأسلحة الحديثة الفتاكة العجيبة التي يمتلكها الجيش البريطاني، من المدافع القادرة على حصد المئات من على البعد، إلى القذائف المتفجرة وغيرها من حديث الأسلحة، ووصفت أيضا تفاصيل الهجوم الأخير لسلاح الفرسان على من تبقى من جيش الدراويش. وكانت تلك الحملة العسكرية هي أول حملة في التاريخ تصور بكاميرا صور متحركة. وقد تولى تنفيذ ذلك الجزء أحد الصحافيين المصورين الهواة اسمه جون مانتاجيو بينيت – ستانفورد. وسجل التاريخ لمعركة كرري (بحسب ما جاء في صحيفة التايمز في 6/9/1898م) أنها كانت أول معركة في العالم تستخدم فيها الأشعة السينية (إكس) في المستشفى الميداني المرافق.
وأثارت حملة استعادة السودان انقساما حادا في بريطانيا بين كانوا يؤيدون غزو السودان ومن كانوا يعارضونه. وتبادل الفريقان الأوصاف المسيئة، فوصف مؤيدو الحرب الفريق الآخر بأنهم "عصابة الحي" وبأنهم "ثلة محتالة". ووصف معارضو الحرب مؤيديها بأنهم من القوميين المتعصبين الذين يؤمنون بقدسية المدافع أكثر من قدسية الإنجيل، وبأنهم "أكلة النار". ولما أتت أخبار الانتصار النهائي من أمدرمان، عمت البلاد موجة عارمة من الاحتفالات الصاخبة، والمواكب المبتهجة، والرقص في الطرقات، وانتعشت الأسواق، وشمل هذا من كانوا يؤيدون الغزو، وللغرابة، من كانوا يعارضونه أيضا. وانعكست أصداء ذلك الانتصار على كثير من مناحي الحياة بين كل طبقات بريطانيا في نهايات عهدها الفيكتوري في مجالات الإعلام والدعاية والترفيه والتجارة والفنون والآداب، وأيضا في فن جديد هو فن "صناعة النجوم المشهورين ومتابعتهم". وتبنت "الثقافة الشعبية" سريعا تلك الصرعة المبتكرة وأشاعتها بين الناس.
وظل السودان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر يظهر ويخبو بصورة دورية في مخيلة وضمير عامة البريطانيين. وكان الجنرال غردون قد بعث للسودان (عندما كان إقليما تابعا لمصر) في عام 1874م للقضاء على تجارة الرقيق من العاصمة الإقليمية الخرطوم. ونجح غردون في مهمته تلك لدرجة كبيرة، إلا أنه أفلح أيضا بعمله هذا في استبعاد وتنفير عدد من زعماء القبائل وأفرادها، الذين كانوا يعتمدون بصورة كبيرة في شئونهم المالية والحياتية على الرقيق والمتاجرة فيه. وتم سحب غردون من العمل بالسودان في عام 1880م. وفي العام التالي لذلك ظهر بالسودان رجل صالح اسمه محمد أحمد زعم أنه "المهدي المنتظر"، ودعا لمحاربة الحكم المصري القائم بالبلاد لعظيم فساده، وقاد أنصاره بين عامي 1881 و1882م في عدد من المعارك الناجحة ضد جيش الحكومة البائس قليل الكفاءة، وأفلح في القضاء المبرم على الجيش المصري بقيادة البريطاني هكس باشا، حيث قتل في تلك المعركة قرب الأبيض نحو 5000 كان هكس نفسه أحدهم. ونجحت قوات المهدي أيضا في الانتصار في معركة قرب سواكن قادها من الجانب المصري الضابط البريطاني فلانتين بيكر باشا (يمكن مراجعة المقال المترجم "مذكرات جندي سوداني – علي أفندي جفون" لمزيد من التفاصيل حول تلك المعارك. المترجم). ومن المعارك الأخرى التي خاضها المهدويون في شرق السودان معركة تماي، والتي خلدها شاعر الإمبراطورية البريطانية كبلينغ في قصيدته المشهورة "فيزي ويظي Fuzzy Wuzzy"، والتي نجا جنود الحكومة فيها من مقتلة عظيمة بفضل المدد الذي وصل لها في اللحظات الأخيرة. وأعادت الحكومة البريطانية، وبضغط شديد من الصحافة البريطانية غردون مجددا للخرطوم في 1884م للقيام بإخلاء المدينة التي يحاصرها المهدي وجنوده من سكانها الأوربيين. ولما تبين للبريطانيين أن غردون لا يرغب أو لا يقدر على الخروج من الخرطوم قاد محرر صحيفة Pall Mall Gazette مع آخرين حملة لحث الحكومة البريطانية على إرسال حملة عسكرية لإنقاذ غردون. وتردد رئيس الوزراء البريطاني اللبيرالي ويليام قلاديستون في الأمر متأثرا بما ذاقه من قبل من هزائم في السودان والمستعمرات الأخرى، ولكنه رضخ أخيرا للضغوط فأمر بقيام حملة لإنقاذ غردون على رأسها الجنرال جارنت وليزلي في أخريات عام 1884م. غير أن بواخر تلك الحملة وصلت للخرطوم في 28 يناير 1885م لتجد أن جنود المهدي قد سبقوها واقتحموا المدينة وقطعوا رأس غردون، وذلك قبل يومين فقط من وصولها.
وصورت الصحافة البريطانية لقرائها غردون شهيدا للمدنية، بينما صورت قلاديستون وغدا ضحى بغردون من أجل سياسات بيروقراطية ومالية بائسة، ووصمت المهدي بأنه "شيطان رجيم". وبعد نحو نصف عام من ذلك توفي المهدي، وأندلعت حروب إمبريالية في الهند وبورما شغلت الحكومة والرأي العام البريطاني، واختفى تبعا لذلك السودان من ضمير البريطانيين وذاكرتهم، إلا في مرات قليلة، حينما كانت تستخدم "ورقة السودان" للنيل من قلايدستون.
غير أنه كان هنالك من لم ينس غردون مثل الجنرال جارنت وليزلي وبعض ضباطه الأصغر مثل هربرت كتشنر، والذين انصرفوا للتخطيط للانتقام من قتلة غردون ومن دولة المهدية (والتي صار فيها عبد الله خليفة للمهدي). وكان من أنصار ذلك التوجه الكثير من كبار الشخصيات المصرية، والذين كانوا يتشوقون لاسترداد إقليمهم المفقود. وفكر اللبيراليون الاستعماريون في أن خطط فرنسا لاحتلال الأجزاء الشمالية من النيل تجعل من الضرورة القصوى لبريطانيا القيام باحتلال السودان حماية لمصر ولمعبرها إلى الهند. وما أن أتى عام 1892م حتى كان لورد كرومر (حاكم مصر البريطاني) والسردار كتشنر يضعان سويا خطط حملة ضد الدراويش عندما يحين الوقت المناسب.
وأعلنت حكومتا بريطانيا ومصر في ربيع 1896م عن دخول قواتهما لشمال السودان بذريعة حماية حدود مصر الجنوبية من خطر الدراويش. ودخلت تلك القوات المشتركة بقيادة كتشنر في معارك مع جنود المهدية في فركة (6 يونيو) ودنقلا (19 سبتمبر). وقتل في المعركة الأولى من الدراويش 800 وجرح 500 وأسر 600، بينما خسر الجيش البريطاني – المصري 20 قتيلا و83 جريحا. وقتل أو جرح 5600 ممن شاركوا من جيش المهدية في معركة دنقلا وتم أسر 900، بينما قتل من الجيش الغازي رجل واحد وجرح 25 جنديا. وظهرت في كثير من الصحف البريطانية (مثل Black and White وGraphic وIllustrated London News) ، وعلى مدى أسبوع كامل، تقارير ومقالات مدعمة بكثير من الصور شديدة الإثارة عن المعركتين.
وأجاز وزير الماللية البريطاني (هكس بيتش) في بدايات 1897م قرضا بمبلغ 800 الف جنيه استرليني لمواصلة حملة "استعادة السودان"، وذلك بعد إجازة مجلس العموم لذلك القرض بأغلبية ساحقة (ولم يمتنع عن التصويت إلا 57 نائبا فقط). وصرم كتشنر النصف الأول من ذلك العام في بناء خط للسكة الحديد من الحدود المصرية إلى دنقلا وما بعدها. وجرت في تلك الأثناء معركة في "أبو حمد" بقيادة اللواء ارشيبالد هنتر قتل فيها 500 من جنود المهدية، في مقابل 23 من جنود الجيش البريطاني – المصري. ولم يجد هنتر من وسيلة لإخبار قائده كتشنر بانتصاره في تلك المعركة غير قذف جثث جنود المهدي في النيل المتجه جنوبا ليراها كتشنر وجنده، وكان ذلك مؤشرا بينا لقسوة متزايدة الشدة في تلكم الحرب. وطفق المراسلون الحربيون البريطانيون يرسلون تقاريرهم عن تلك المعارك مستخدمين لغة إستثارة نابضة بالحيوية (colorful terms)، يشيدون فيها بإنتصارات الجيش البريطاني – المصري الباهرة، مع تحاش تام لذكر أي شيء عن خسائره. ومضى كتشنر قدما في مد خطه الحديدي عبر الصحراء.
وأفلح كتشنر في بدايات عام 1898م في إقناع الحكومة البريطانية بمده بتعزيزات من الجنود البريطانيين للإجهاز على "دولة الدراويش" تماما. وسرعان ما أستجيب لطلبه بجنود من مختلف المقاطعات البريطانية. وبتلك التعزيزات (والتي رفعت عدد جنوده إلى 18000) خاض كتشنر معركة أتبرا وكسبها بسهولة فائقة، وصار على بعد مئات قليلة من الأميال من عاصمة الخليفة أمدرمان. وخسر جيش كتشنر في معركة أتبرا 74 جنديا (مع 499 جريحا)، بينما خسر الجيش المهدوي نحو 3000 مقاتلا و2000 أسيرا، مع قرابة 3000 من الجرحى. وفي أغسطس من ذات العام أعلن كتشنر عن بدء زحف جيشه النهائي نحو أمدرمان. فتقاطر على أتبرا عشرات المراسلين الحربيين، وأنضمت لجيشه قوات إضافية مزودة بمدفعية محمولة على القوارب. وواصل المراسلون الحربيون في غضون الأسبوعين القادمين، وبكل لهفة وتعجل، إرسال تقاريرهم الحربية المثيرة خلال مسيرة الجيش البطيئة نحو أمدرمان. وبدأت تقارير اولئك المراسلين تبدو شيئا شيئا أقرب ما تكون إلى ما ينشر في مجلة Boys of England (وهي مجلة أطفال كانت تصدر بين عامي 1866 – 1899م) التي كانت تروي لقرائها قصة دائرية لا تنتهي، بل يعدهم كاتب القصة في كل مرة بمواصلة أحداثها في العدد التالي. وفي فجر يوم الجمعة 2/9 لاحت معالم المعركة النهائية، غير أن خط التلغراف – لسبب ما- تعطل فجأة في ذلك اليوم، مما أبقى كافة أفراد الشعب البريطاني في غاية القلق والترقب والتشويق لسماع نتيجة تلك المعركة الفاصلة في أيام الجمعة والسبت والأحد. وأتى – أخيرا - يوم الإثنين حاملا تقارير صحفية من أرض المعركة تبشر بالنصر المؤزر التام. وجاء في ثنايا الخبر أن الجيش البريطاني – المصري فقد في تلك المعركة نحو خمسين رجلا، وجرح فيها نحو 400. وكانت خسائر الدروايش – كما جاء في أخبار الصحف البريطانية – 12000 قتيل وعددا غير معلوم من الجرحى والأسرى. وختم أحد الصحفيين تقريره من الجبهة بالقول بأن النصر كان "مطلقا وكاملا".
لقد تعمدت هنا ذكر أعداد القتلى والجرحى والأسرى لأؤكد على أن تلك الحملة (الصحافية) كانت تفتقر إلى الشعور بتراجيدية الحدث التي عادة ما تصاحب مثل تلك الحروب الكبيرة. لقد كانت الصحافة البريطانية تمجد من قتلوا من البريطانيين وتؤبنهم فردا فردا، ولكنها لم تر داعيا حتى لذكر أي شيء عن الشجاعة التي أظهرتها الأعداد الكبيرة من جنود "الأعداء". وتفننت صحف الإثارة في تصوير الحزن الممض والألم الشديد الذي عم أسر ضحايا تلك الحرب من الجنود البريطانيين، فنشرت صحيفة Pall Mall Gazette هذه القصة القصيرة المؤثرة في يوم 7/9 بعنوان "حادث حزين مثير للشفقة Pathetic Incident" :
"عقب هجوم الفرقة 21 Lancers قبيل معركة أمدرمان، ذكر مراسلنا في ساوثهامبتون أن والدة االجندي ساكتارقوود الذي استشهد في ساحة المعركة (ضد الدراويش)، وفور سماعها للخبر الأليم، أسرعت بالخروج للشارع وهي تنتحب وتفرك يديها من فرط الأسى والألم وهي تصرخ بحُزنٍ وصياح وعويلٍ:" يا حبيبي الصغير ... لقد قتلك (هؤلاء) وأنت لم تتعد السابعة عشر. لقد قطعوا ولدي الحبيب قطعا". وتدفقت الدموع الحَرَّى من عينيها، إذ أَمَضَّتها الصدمة.
وعقب مجزرة الدراويش (البيضاء تقريبا للجانب البريطاني) انتقل الرأي العام البريطاني للتركيز على أدلة تفوق البريطانيين وجيشهم الذي لا يقهر، وعلى نجاح الانتقام من قتلة غردون.
وتبارت الصحف البريطانية في تأبين غردون، تماما مثلما فعل الجنود والضباط البريطانيون (مثل بتلر وويزلي) والجمعيات الإمبريالية (مثل "رابطة زهرة الربيع "Primrose League) والكتب المدرسية المقررة، والنشرات الشعبوية عن القديسيين (hagiographies) كتلك المطبوعة التي صدرت بعنوان "غردون ذلك البطل المسيحي – كتاب للأطفال". وقامت الحكومة بتخليد ذكراه بوضع تماثيله الكاملة والنصفية، ورسم صوره على الأكواب والأوراق التي يستخدمها قراء الكتب لمعرفة الصفحات التي توقفوا عندها (bookmarks). لقد صار غردون محبوب الجميع من الملكة إلى أصغر طفل من عوام الناس. والتهم القراء يوميات البطل المسيحي فور نشرها في عام 1885م، وخلدت ذكراه بعدد من المسرحيات. وتواصلت الفتنة بأسطورة غردون لعشرين عاما تالية. وبعدها لم يكن لذكراه من أثر باق إلا الكلية التذكارية التي أقامها كتشنر باسمه في الخرطوم، والتي تطورت مع مرور السنوات حتى صارت "كلية الخرطوم الجامعية".
وبعد نكبة مقتل غردون في الخرطوم، أصاب الجيش البريطاني نجاحات كبيرة ومتتالية في جبهات عديدة في مختلف أرجاء العالم مثل كندا والهند وبورما والصين وأفريقيا وجنوب آسيا. وصارت ترافق الجيش البريطاني في كل مرة ثلة من المراسلين الحربيين المهنيين الذين داوموا على مد الصحافة البريطانية بأنباء انتصارات جيش الإمبراطورية على "الأعداء المتوحشين" بخطاب بالغ الرومانطيقية. وغدت تلك التقارير تشابه قصص المغامرات التي تنشرها مجلات الحكايات والمغامرات المثيرة (مثل Boys of England, Boy's Standard, and Young Men of Great Britain وغيرها من عشرات مجلات الصغار) والتي تربت عليها أجيال من الشباب البريطاني، والتي كانت تمجد ما يقوم به الجيش البريطاني من "تحطيم لأوكار ظلام الجهل والتخلف، ونشر نور المدنية والتحضر". وعمت موجة من التطوع للخدمة العسكرية بين أولئك الشباب (خاصة من أبناء الطبقة العاملة). وقدر أحدهم أن نسبة 22.4% من الذكور بين سن 17 و40 في المملكة المتحدة وإيرلندا عملوا في تلك الاعوام لفترة من فترات حياتهم في الجيش، أو على الأقل نالوا تدريبا عسكريا. وأدخل التدريب العسكري في المدارس (خاصة المدارس التي يرتادها الطلاب من أبناء الطبقة العالمية).
وسبقت معركة أمدرمان الفاصلة بنحو عامين نقاشات حادة بين مؤيدي الحرب ومعارضيها حول الكيفية التي بدأت بها تلك الحملة العسكرية، وما كانت تعنيه تحديدا. فقد كانت الحكومة تقول في البدء (ببعض الغموض) بأن غزوها لدنقلا كان القصد منه هو مجرد الدفاع عن حدود مصر الجنوبية، وشغل قوات "الدراويش" عن مهاجمة الجيش الإيطالي في كسلا. بينما كانت المعارضة ترد بالقول إن الحملة غير صحيحة عسكريا، وقد تجلب المشاكل دبلوماسيا (خاصة مع ألمانيا وفرنسا) وستكلف البلاد أرواحا عديدة وأموالا طائلة. ولكن من إن حل عام 1897م حتى صارت الحكومة تسوغ لحملتها العسكرية بأنها تستهدف تحرير السودانيين من طغيان وقسوة الخليفة عبد الله، وفتح وادي النيل في المناطق الجنوبية للتجارة. ولخص كتشنر سبب الحرب وهدفها ووضحه حين خطب في جنوده قبيل بدء معركة أتبرا وصاح فيهم: "تذكروا غردون".
ومهما يكن من أمر المؤيدين للحرب أو المعارضين لها، فالثابت هو أن الصحافة البريطانية قد اعتمدت الإستثارة وعملت على إثارة المشاعر والأشواق (القومية / الاستعمارية) لتعضيد ما كانت تؤيده أو تعارضه، وصاغ الكتاب والصحافيون كل ذلك في لغة خطاب قوامها المغامرة (adventure discourse).
وبلغت الإستثارة قمتها يوم المعركة الحاسمة صباح الجمعة، حين لم تصل أي أخبار عن نتيجة المعركة. وفي صباح يوم الأحد رابطت جموع البريطانيين حول دور الصحف ومكاتب الحكومة ودار التلغراف في انتظار سماع نتيجة تلك المعركة. بل وتجمعت أعداد قليلة منهم حول تمثال غردون. وأتت الأخبار من كتشنر أخيرا في مساء الأحد بأن النصر كان حليف القوات البريطانية. وهنا بلغت الإثارة والحماس قمتها عند الأعداد التي تزايدت حول تمثال غردون، فقام أحدهم في جذل بوضع لافتة ضخمة على التمثال كتب فيها "أخيرا! At Last" مشيرا لما ذكره كتشنر، ومبتكرا للشعار الذي ساد بعد الانتصار في معركة أمدرمان بأنه "تم الانتقام لغردون".
وتضمنت كل الصحف اليومية والنصف أسبوعية والأسبوعية، التي صدرت ببريطانيا في الأسبوع الأول من سبتمبر وصفا لمعركة أمدرمان كان يزداد تفصيلا وإثارة مع تتابع أيام الأسبوع. ولم تتخلف عن ذلك حتى الصحف المعارضة للحكومة وللحرب مثل القارديان عن نشر تاريخ الحرب ونوازعها، مع بعض القصائد التي ألفت فيها، مع بعض الخرائط التوضيحية لموقع المعركة. ولم تخل الصحف من إعلانات تجارية عن الأطعمة ومشروب الويسكي التي كانت تقحم في إعلاناتها جملا مثل "تم الانتقام لغردون" و"النصر التام".
وبعد أيام قليلة من تلك الحملة الصحافية عن نصر بريطانيا في السودان تواترت أنباء عن دخول الفرنسيين لفشودة، وعن تقدم كتشنر نحو "الغزاة الفرنسيين" وطردهم منها. وبعد أيام من ذلك أعلنت كريستال بلاس (Crystal Palace) أن يوم الخميس الذي أعقب معركة أمدرمان هو "يوم أمدرمان" (لعل كريستال بلاس المقصود هنا هو مبنى ضخم من الحديد والزجاج أقيم بحديقة هايدبارك للمعارض. المترجم). ورغما عن المهلة القصيرة لتلك الدعوة لحضور مهرجان كريستال بلاس ترك نحو 35000 فردا كل شيء وتجمعوا في إحتفال استعراضي ضخم بمناسبة الانتصار، أختتم برفع باقة ضخمة من الورود صنعت هذه الكلمات التي قابلها الجمهور بهدير عال: "التحايا للضباط والجنود البريطانيين والمصريين".
وعمت البلاد عقب الإنتصار في أمدرمان موجة عاتية من الاعلانات والتسويق commercialization بلغت درجة الهوس. وبيعت كل نسخ الكتب التي صدرت على عجل عقب ذلك الانتصار التام في أمدرمان. وأنجز أحد الفنانين عرضا لشرائح يمكن مشاهدتها على شاشة كبيرة تحت عنوان "أبطال السودان ومتعصبونه Heroes and fanatics of the Sudan "، وصنعت شركة السكة حديد قطارات خاصة أطلق عليها "أتبرا" و"كتشنر" و"الخرطوم" و"أمدرمان"، وتسابق المصورون والفنانون والمسرحيون والكتاب لتخليد إنجاز كتشنر، الذي غدا عندهم "رجل الساعة".
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.