المتابع لسير اتفاقية السلام الموقعة بين اطراف الصراع في جنوب السودان المعروفة باتفاقية (اديس - جوبا) ودون الخوض في تفاصيلها وبنودها الشائكة لانها كثيرة، والابحار فيها لا شك سياخذ منا الكثير من الوقت ، ولكن لا يخفي على احد ان السلام استنفد وقت اطول مما كان يتوقع للبت في تنفيذه ، ولو نفذ حسب الوقت المضروب له لكانت البلاد في بداية الفترة الانتقالية لحكومة الوحدة الوطنية، اذ تنص الاتفاقية في بندها الاول في الفصل الاول تنشأ في جنوب السودان حكومة انتقالية للوحدة الوطنية تكلف بتنفيذ هذه الاتفاقية، وتفيد الفقرة الثانية منها: تبدأ الفترة الانتقالية بعد 90 يوما من التوقيع على هذه الاتفاقية تكون ولايتها (30) شهراً تسبقها (90) يوما وهي فترة ما قبل الانتقالية التي يفترض ان يشارك فيها حزب الحركة الشعبية جناح الحكومة و الذي يتزعمه الرئيس الحالي سلفاكير ميارديت، وحزب الحركة الشعبية جناح المعارضة المسلحة الذي يقوده زعيم المعارضة ريك مشار تينج بالاضافة الي جناح ال (10) المعروف اعلاميا بالمعتقلين السابقين بقيادة الامين العام لحزب الحركة الشعبية السيد باقان اموم اوكيج ، وتجمع احزاب المعارضة ويتزعمه حزب التغيير الديمقراطي الذي تخلى تواً من اسم الحركة الشعبية في مؤتمره الاستثنائي الاخير، و يرأسه الدكتور لام اكول اجاوين، كل هذه المجموعات هي المكونة لحكومة الوحدة الوطنية الانتقالية التي سيشارك فيها جميع المذكورين بنسب مضروبة ومتفق عليها بنص وثيقة اتفاقية السلام. تأخر وقت تنفيذ الاتفاقية لاسباب كثيرة تعددت وتفرعت ولكن الثابت واحد وهو انه لا شيء ملموس على ارض الواقع يدل على ان السلام في طريق التفيذ ، ومن ضمن الاسباب علي سبيل المثال لا الحصر، قضية تقسيم البلاد الي 28 ولاية بالقرار الرئاسي رقم 36 وما صاحبه من ضجة حيث ترى الحركة الشعبية في المعارضة المسلحة ان تقسيم البلاد بهذا الشكل وفي هذا التوقيت مخالف لبنود اتفاقية السلام التي صممت علي 10 ولايات وليس 28 ولاية وتطالب بسحبه قبل الشروع في تنفيذ اتفاقية السلام الموقعة بينها والحكومة، بينما تقدم حزب التغيير الديمقراطي نيابة عن تجمع الاحزاب برفع دعوة قضائية امام المحكمة العليا يطالب فيها بالغاء القرار الرئاسي الذي قسم البلاد الي 28 ولاية بدلاً من عشرة ، ويقول حزب التغيير في عريضته ان القرار يفتقر الي السند الدستوري ومخالف ايضاً لاتفاقية السلام ولا تزال القضية في اروقة المحكمة الي اليوم، ورد الحكومة كان سريعاً فلقد اردفت قرارها الاول بقرار رئاسي اخر قضى بتعيين 28 حاكماً لتلك الولايات المقسومة ، وصرح وزير اعلامها مولانا مايكل مكوي في ندوة نظمتها صحيفة الوطن بتاريخ 14 فبراير، قائلاً ان قرار تقسيم الولايات الي 28 ولاية قرار نهائي لا رجعة فيه واضاف مكوي ان القرار وجد قبول واسع في الشارع الجنوبي وهو التطبيق الفعلي لفلسفة نقل المدينة الي الريف وهي فلسفة يتبناها حزب الحركة الشعبية الحاكم وقال ان القرار لا يتعارض مع روح اتفاقية السلام كما يشاع، لان القرار يعطي المعارضة المسلحة 6 ولايات بدلاً من والولايتين اللتين كانتا من نصيب المعارضة بنص الاتفاقية واضاف ان القرار اتخذ لاسباب ادارية بحته وليس لاسباب سياسية، وطالب مكوي من المعارضة ان تكون موضوعية في مطالبها وان تنظر الي مصلحة البلاد بدلا من التمسك باشياء لا تقدم الي الامام، بينما فضل جناح المعتقلين السابقين الناي بنفسه بعيداً عن صراع تقسيم الولايات وفضل الصمت. اما مجموعة الايغاد الراعية للاتفاقية ايضاً تدخلت في القضية ممسكة بالعصا من النصف وطالبت في بيان منسوب لها الشهر الماضي الحكومة بسحب القرار حتي تتيح المجال للتركيز في تنفيذ الاتفاقية ولكنها اكدت في نفس الوقت ان القرار لا يتعارض مع اتفاقية السلام . وما ان خفت وتيرة الصراع حول قرار الولايات حتي طفحت الي السطح قضية آخرى وان كانت اخف قدراً من الاولي لكنها لا شك قد عطلت عجلة تقدم اتفاقية السلام الا وهي القضية المعروفة ب(وسيلة نقل جيش المعارضة المسلحة ) التي تندرج في بند ترتيبات الامنية، ومن المعروف ان مجموعة الترويكا التي كانت جزء اساسياً وراعية للاتفاقية ايضاً هي من تقع على عاتقها نقل قوات المعارضة التي يبلغ قوامها 1300 جندي ونقلهم من مواقع تواجدهم الي عاصمة البلاد جوبا كحراس للنائب الاول لرئيس الجمهورية المرتقب الدكتور ريك مشار الذي طال انتظار وصوله، والترويكا تقول انها لا يمكنها نقل قوات تحمل اسلحة وعتاد حربي بهذه الكمية ، ولكنها تراجعت وقبلت بنقلهم بشرط ان تكون الاسلحة التي علي ايدي القوات المطلوب نقلها اسلحة خفيفة فقط ، في حين صرح الناطق باسم المعارضة المسلحة الدكتور ضيو مطوك في تصريح خص به راديو تمازج في يوم الاثنين الماضي ان وصول الدكتور ريك مشار الي جوبا للبدء في تنفيذ الاتفاقية مرهون بوصول آخر جندي من قواته التي تآخر وصولها حتي اليوم . حيث تتحجج المعارضة بان الوضع الامني وسلامة النائب الاول للرئيس غير مضمونة بدون وصول قواته الي العاصمة جوبا والتي ستتكفل بحمايته، ومن جهة اخرى يرى المحللون وبعض المراقبين ان في امر التاخير اسباب ودوافع غير معلن عنها لكنها واضحة وضوح الشمس لكل متابع ، ومن بينها الثقة المتباعدة بين اطراف الاتفاقية انفسهم، حيث يرى البعض ان اطراف الخلاف الموقعين على الاتفاقية لم يكون في بادئ الامر على قناعة بوجوب احلال السلام لدولتهم، وانما فعلوا هذا تحت ضغوطات دولية واقليمية التي كانت تهدد بفرض العقوبات عليهم ان لم يسرعوا للتوقيع ، وقد اجبرهم تفادي سيف العقوبات المسلط على رقابهم للتوقيع على سلام لا يومنوا به ، وكان هذا واضحاً في التحفظات الحكومية على بعض البنود التي وردت في مسودة اتفاقية السلام، فضلاً عن بعض المواقف المتحجرة التي كانت تتمسك بها المعارضة المسلحة، ويرى المراقبون انه كان لابد توقع بعض العراقيل قد تصاحب تنفيذ الاتفاقية بناء على مواقف سابقة لهذه الاطراف حول الاتفاقية المفروضة عليهم، ومن جهة اخرى ترى بعض الاوساط المقربة من الحكومة ان الحكومة رغم تحفظها الباين حيال بعض بنود الاتفاقية الا انها سلمت امرها الي الواقع واصبحت ترى في تنفيذ الاتفاقية بعلاتها امر حتمي لا مفر منه، وقد اصبحت جادة في تنفيذها اكثر من اي طرف آخر من اطراف الاتفاقية، وهذا يتضح من خلال الخطوات التي اتخذتها الحكومة وقبولها ببعض اشياء سبق ان رفضتها على سبيل المثال قبولها الاخير بترحيل جزء من قوات المعارضة التي تاخر وصولها الي جوبا بعد ان تخلت الجهات التي تكفلت بترحيلها عن التزامها بحجج واهية، وفي ذات السياق يرى هؤلاء ان المعارضة المسلحة وخلفها مجموعة الترويكا والايغاد وكل الاطراف التي تتقاطع مصالحها في ازمة جنوب السودان، كل هؤلاء كانوا يراهنون على رفض الحكومة في جوبا التوقيع على الاتفاقية، نسبة لما يعتقدونه مفخخات وضعت داخل الاتفاقية يصعب على الحكومة القبول بها، وبالتالى يستطيعون تمرير مخططهم بعد رفض الحكومة للتوقيع حسب توقعهم، والهدف الاساسي لهؤلاء هو ازاحة نظام الرئيس سلفاكير عن الحكم وتبديله بنظام موالي يحقق رغباتهم وينفذ مخططاتهم ويرعى مصالحهم في جنوب السودان بالانابة وهي شروط تتوافر في المعارضة المسلحة التى يقودها ريك مشار، طالما فشلت هذه الجهات في تحقيق حلمها بالحرب فهي تسعي لتحقيقها عبر اتفاقية السلام، ولكن الحكومة قطعت الطريق عليهم ووقعت عليها بكل ما تحملها من علات، لتظهر في الافق مطبات اخرى ما كانت تتحسب لها تلك الجهات ما عدا المعارضة التي كانت على دراية بطبيعة الامور على ارض الواقع ان وقعت الحكومة كما فعلت، وهذه المطبات تتمثل في الاستحقاق الانتخابي الذي سيعقب نهاية الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام، فحكومة سلفاكير لها الغلبة ونفوذ لا يستهان به في مناطق الثقل السكاني، وخاصة مناطق قبائل الدينكا وبعض القبائل الموالية للحكومة التي لا شك تمثل الاغلبية المطلقة في الساحة السياسية لدولة جنوب السودان وستكون لها الكلمة الفاصلة في الانتخابات المزمع اجرائها بعد ثلاث سنوات حسب الاتفاقية، فضلاً عن ان الحكومة في امر الواقع في يدها المال الذي سيسمح لها بتمويل حملاتها الانتخابية، كل هذه الاشياء غير متوفرة للمعارضة التي يتزعمها ريك مشار، ولهذه الاسباب تريد المعارضة التنصل من الاتفاقية ولو مؤقتاً كي تكسب بعض المكاسب ولا سيما الضائقة الاقتصادية وتردي الوضع المعيشي في البلاد اصبح يرمي بثقله على الشعب ومن شان هذا ان يخلق تذمراً واسعاً بين المواطنين تجاه سلطة الرئيس سلفاكير وبالتالي تخصم من رصيده وثقله الجماهيري الانتخابي، والمعارضة تريد ان تصل الضائقة الاقتصادية الي ذروتها، لتاتي متاخراً وتروج لنفسها على انها المنقذ للشعب وتشق بالتالي صفوف مؤيدي الحكومة والبعض الاخر وخاصة الذين يحسبون على تبني خانة رأي المعارضة يرون العكس، وشيئاً مغايراً تماماً للتحليل السابق ويرون ان التحليل الاول فيه قصر نظر وقفز فوق الحقائق، ويحملون تاخير تطبيق الاتفاقية على الحكومة، وان المعارضة المسلحة جادة في تنفيذ اتفاقية السلام بدليل تواجد وفد مقدمتها في عاصمة البلاد جوبا، ويرى هؤلاء ان بداية تملص الحكومة من الاتفاقية كان واضحاً في قرار ال 28 ولاية التي قسمت البلاد على اسس اثنية وقبلية، على حد وصفهم ، ويعتقدون ان للحكومة اكثر من سبب يجعلها غير جادة في تنفيذ الاتفاقية . اما على الصعيد الامني والميداني فهنالك خروقات امنية تحدث في اماكن مختلفة في البلاد ينسب بعضها الي جهات مجهولة والبعض الاخرى يتبادل فيه الاطراف الكثير من الاتهامات فيما بينهم، حيث يحمل كل طرف الطرف الاخر مسئولية الاحداث، اخرها الاحداث الدامية التي شهدتها مخيمات الاممالمتحدة للنازحين في مدينة ملكال وبالاضافة الي احداث واو الدامية والتي حدثت يومي 22 و23 و24 فبراير من الشهر الماضي والتي تزامنت مع زيارة الامين العام للامم المتحدة السيد بان كي مون الي البلاد وقد حث كي مون خلال زيارته كل الاطراف بالاسراع في تنفيذ الاتفاقية وتنزيلها على ارض الواقع . وبين هذا وذاك سيظل المواطن الجنوبي هو من يدفع الثمن الي حين اشعار اخر . [email protected]