هل نشر خبر الزيادة وتكذيبه هي خطة اتبعتها الحكومة لإدارة الازمة وامتصاص الاحتقان العام وارباك الشارع؟ في لحظات الرعب الماحق وعندما تبلغ الروح الحلقوم ويدرك السيل الزبى لا تخلو جعبة الحكومة من حيلة اذ ان سحرة الفرعون على أهبة الاستعداد لإلقاء عصيهم لتسعي بين الناس افاعي تنفث السم الزعاف. بينما الناس يكاد ان يفتك بهم الغل والحنق من استبداد الحكومة وقمعها الوحشي لحركة الطلاب في الجامعات وتصريحات المسؤولين المستفزة و الوضع المعيشي البائس و الانقطاع المتكرر لإمدادات الكهرباء مع ارتفاع درجات الحرارة, وبينما الرأي العام يغلى و الشارع على وشك الانفجار , فجأة تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بخبر صاعق عن قرارات اصدرها مجلس الوزراء بزيادة كبيرة في رسوم استهلاك الكهرباء والمياه و فرض حظر التجوال في مدينة الخرطوم الامر الذى أدى الى توجيه كل طاقة مواقع التواصل و بشكل مكثف طغي على كل ما سواه لمناقشة هذا الامر الطارئ حتى وقت متأخر من ليلة امس , هذا التغيير و الانحراف المفاجئ في المزاج العام ادى الى اذكاء مشاعر الغضب التي كانت تسري في عروق المدينة و فجاجها البائسة... لكن تم صباح اليوم تدمير و سحق هذا الزخم تماما و انفجر مثل بالون في يد طفل عابث إثر تصريح مقتضب من مجلس الوزراء كذب فيه هذا الخبر الذى تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي بالأمس بالقول ان الخبر عاري من الصحة و ان جدول اعمال مجلس الوزراء لم يتضمن مناقشة أي موضوع اقتصادي و بان المجلس لم يوجه بفرض حظر التجوال في مدينة الخرطوم "التي يشهد العالم كله بأنها أكثر العواصم أمناً", النزق و التكلف و الغرور في العبارة المقوسة موحي و يتضمن تلميحات لا تخفي على احد. لماذا؟ إطلاق الاشاعة ثم تكذيبها الغرض منه لا يخفي على كل ذي عقل وهو يخدم عدة اغراض منها بث روح الشك والتردد في تصديق الاخبار السالبة عن الحكومة بين الناس والثاني ضرب مصداقية المعارضة التي هي ضمنا المستفيد الوحيد من مثل هذه الاشاعات , هذه هي الرسالة. إطلاق هذا الخبر الصاعق ومن ثم تكذيبه والذي لأهميته شغل الناس واستنفد قواهم وأنهك طاقاتهم طيلة الليلة السابقة يبدو ان الغرض منه هو احداث صدمة لأيقاظ الناس من حالة سوء الظن المرضي (بفتح الضاد) بالحكومة وبعد الافاقة حتما لن يستطيع الناس وبنفس الزخم السابق مواصلة ما انقطع من سيرة قتل طلبة الجامعات وقمع المظاهرات والمحاكم الهزلية للمناضلين الشباب. الدولة تملك الموارد البشرية والتكنلوجية والمادية (تكريس جهاز الدولة بقضه وقضيضه) التي تتيح لها الاستفادة من وتطبيق أحدث نظريات الاتصالات والعلاقات العامة و إدارة الازمة , أولاً لسبر وتحديد اتجاهات الرأي العام وتصنيف مجموعاته المختلفة ومن ثم التأثير عليه وتغيير مواقف و توجهات الجمهور المستهدف وهي تستخدم في ذلك عدة أساليب وأدوات وتبث رسائل متنوعة. الان أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ومن أهمها واوسعها انتشارا الواتس اب من اهم المنابر والساحات التي تستخدمها الحكومة لتوصيل الرسائل ذات الأغراض المحددة للفئات المستهدفة. مثلا نشر صورة تقشعر لها الابدان لشخص يتعرض للتعذيب يكون نصيبها عادة الاستنكار والاستهجان والادانة من الجميع ولكن فجأة يأتي شخص ليقول يا جماعة "روقو المنقة الصورة دى من بوركينا فاسو عام 2004" وفعلا تكون من بوركينافاسو مع العلم هنالك كثير من الناس الذين يتداولون اخبار وقصص وصور بشعة زائفة بمعرفة او غير معرفة وليست للحكومة أدني علاقة بها، لكن وسط كل هذا الركام من الغث والسمين في الشبكة العنكبوتية والتي أحيانا تبدو مثل مقلب ضخم للقمامة تعرف الحكومة اين تجد ضالتها لتدس وتبعث برسائلها هنا وهناك. إذا مواقع التواصل الاجتماعي تمثل اهم وأفضل الساحات للحكومة لخوض معاركها مع المعارضة للانتصار فيها. مواقع التواصل تمثل سجل ضخم ومتفاعل يضم تقريبا كل افراد الشعب السوداني والحكومة تستخدم مؤسساتها المنضبطة والممولة والمجهزة جيدا لمواجهة شعب مشغول بمعاشه وغير منظم وافراد ناقمين من السهل تعميق خلافاتهم والزج بهم في صراعات جهوية ونرجسية وصرفهم عن التوحد في الرؤية والهدف او الهائهم بمواضيع انصرافيه خلال الازمات الخانقة. يستحضرني هنا تساؤل للصحفي الأمريكي المعروف توماس فريدمان الكاتب في صحيفة (نيويورك تايمز) وهو ,"هل مواقع التواصل الاجتماعي مخربة أم بنّاءة ؟" نشر في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 10 فبراير 2016. يقدم فيه توماس فريدمان صورة قاتمة عن الدور السلبي لمواقع التواصل الاجتماعي في احداث الثورة والمحافظة عليها حيث أورد إفادات مسجلة لوائل غنيم، الموظف المصري في شركة "غوغل" الذي ساعدت صفحته المجهولة على "فيسبوك" في إشعال ثورة ميدان التحرير في بداية عام 2011. الحكومة تكرث جهاز الدولة و موارد السودان للبقاء في الحكم فهي لا تجهد نفسها في الصرف على التعليم او الصحة او على أي خدمات أخرى , ومواقع التواصل أضحت الان من اهم رهانات بقائها وهي تملك جيش ضخم من المنتسبين الذين يعملون ليل نهار على رصد وتقفي وتصنيف ومجابهة اعدائها وابطال مساعيهم لان الساحة الافتراضية أضحت هي ارض المعركة الحقيقة. مواقع التواصل سلاح ذو حدين صحيح ان انها تساهم في رفع وعى الناس بقضاياهم وتشكل راي عام ربما رخو وسريع التبدل و تعمل كذلك على اصطفاف الناس خلف قضاياهم لكن من السهل اختراقها وتشتيت جهودها وتبديد طاقتها وحرفها عن مسارها وتعميق الخلافات بين افرادها. فيصل خليفة [email protected]