الترابي والصفوية الانتهازية: كانت الديمقراطية الثالثة تسير إلى الهاوية بأزمات متلاحقة بعضها خلف بعض، واكتفت أحزاب الاستقلال الايدولوجية ونخبها بمصالحها الشخصية والكيد للأحزاب الأخرى ولم يكن هنالك من يلتفت إلى مصالح الشعب السوداني، بالإضافة إلى الحروب التي استعرت ووجود أزمات اقتصادية خانقة في الوسط. فلا يوجد لدي نخب وأحزاب الاستقلال من حلول لتقدمها فكل الحلول التي تقدمها مبنية على فكر لا علاقة له بالواقع ولذلك يزيد من تازيم الحالة السودانية فقط. انشغلت كل أحزاب الاستقلال ونخبها بذلك الكيد والمصالح الشخصية، ماعدا شخص واحد عمل بجهد ليصل إلى سدة الحكم بأي طريقة من الطرق، عمل في الخفاء استغل معرفته الدقيقة بنفسيات النخب السياسية وأصبح يوقع بعضها ببعض حتى تكتمل خطته ويستطيع الاستيلاء على السلطة. كان ذلك الشخص هو الترابي فقد كان ينظر إلى نفسه باعتباره المخلص أو المهدي المنتظر ولكن فقط من خلال السلطة، فكل فعل وهم الترابي طوال تاريخية السياسي قبل 89 هو الوصول إلى السلطة وفرض رؤيته التي يعتبرها الرؤية الأصلح للسودان، فناسب بيت المهدي وترك العمل بالجامعة من اجل التفرق للسياسية كل ذلك من اجل هم واحد هو السلطة. ورغم ان الترابي فكريا يمتلك مشروع مغاير لمشروع الإسلام السياسي ويتقاطع معه في كثير من الأحيان، الا انه استخدم مبدأ التقية وذهب حيث الأكثرية التي تستطيع ان تنقله إلى سدة الحكم أسرع من فكره، ولكن حتى بعد وصوله إلى سدة الحكم لم يستطيع الترابي ان ينشر فكره ذلك، فالترابي مع كل النخب الايدولوجية الأخرى لا تستوعب الواقع ولا تدرك اشتراطاته التاريخية والآنية. فهي تنظر إلى مجتمعاتها كما تنظر إلى تفاعل كيميائي مدركة نتائجه قبل التفاعل. فتخيل الترابي بان مجرد وصوله إلى السلطة سينشر فكره ذلك وبالتالي سيتحول المجتمع إلى المجتمع الذي يراه في خياله ويصبح هو المشرع الأوحد والرب الأعلى. وحسب الترابي كل ما يمكن ان يواجهه بعد الانقلاب ودرس التجارب السابقة اذا كانت الانقلابات التي حدثت أو الانتفاضات التي أعقبتها وخطط لانقلاب لا تعقبه انتفاضة، فعمل على إرهاب المعارضة والشارع بالأمن الذي أطلق يده تماما دون قيود، وحل النقابات واتي بنقابات موالية له واستحوذ على اتحادات الطلاب، وكانت المولاة هي الأساس في جميع المواقع إذا كانت العسكرية أو المدنية والهي المجتمع بالشعارات البراقة في الاقتصاد والسياسة. جزء صغير لم يحسب له الترابي حساب وهم أعضاء حركته التي حسبها دمي يمكن ان يحركها حسب مشيئته، ولذلك كان إحساسه بالغدر والخيانة كبير جدا عندما أتته الطعنة من الخلف ومن اقرب الناس إليه أتت من على عثمان ومن شايعه، فنسي الترابي ان كما تدين تدان وكما تغدر وتنقلب على من يشاركك السلطة ينقلب عليك. ولكن كان إحساسه اشد وطأة وجرحه أعمق فضاق طعم العلقم في أخر حياته فهو اخرج من السلطة من اقرب الناس إليه وليس من المعارضة واضطر ان يتعامل مع من أخرجه عندما وجد ان كل فكر الإسلام السياسي والذي هو جزء منه وقد وهب له حياته بداء أيضا في الخروج ولم يعد يشكل ذلك الحافز لدي المجتمعات بعد ان اثبت فشله. ولذلك كان الترابي يلهث في أخر عمره بين سلطة تسربت من بين يديه وبين فكر يتسرب من داخل جماعته وظل هكذا دون ان يدرك إحداهما. ومما يؤكد ان مشروع الإسلام السياسي هو مشروع مفاهيم يعبر من خلالها بعض الناس إلى السلطة ولا علاقة له بالحياة المباشرة هو عدم مقدرته على تغيير القيم، فلا علاقة لما يحدث في الشارع والقيم المجتمعية التي يداوم عليها المجتمع السوداني بقيم الجبهة الإسلامية أو الأخوان المسلمين. وحقيقة لا يوجد مثل المجتمع السوداني الذي يحافظ على نخبه ويمنحها الفرصة تلو الأخرى، ولكنها تقتل المجتمع مرارا وتكرارا. فهي لا ترى من برجها العاجي سوى ذاتها وفكرها. واتمني ان تلتفت النخب قليلا إلى هذا المجتمع وان تحاول استيعابه وان تترك مفاهيم الآخر الفكرية مثل مفهوم الشريعة العربية التي سميت زورا بالشريعة الإلهية أو مفهوم العلمانية أو ديمقراطية الفرد فكل تلك الأفكار لا علاقة لها بواقع وتحولات الإنسان السوداني ولن تسير به إلا في طريق الأزمات. الانتفاضة: تحدث الانتفاضة عندما تمثل السلطة الحاكمة الآخر الضد ويجب إزاحتها من اجل سيادة سلطة تعبر عن الذات، فالانتفاضة تمثل احتجاج فردي نتيجة لمظالم شخصية يتحول إلى احتجاج جمعي وتتحول السلطة إلى رمز يمثل كل المظالم الموجودة، ولذلك نجد في كل الانتفاضات التي حدثت داخل السودان وخارجه هو وضوح معالم الآخر الضد (السلطة) اما الذات فهي غير معروفة لتنوعها وغير مدركة تماما، لذلك تواجه الانتفاضات الأزمات قبل وبعد حدوثها. وتحدث الانتفاضة بعدة طرق وعلى حسب مرحلة التحولات ففي 64 كانت الكاريزما لقيادة الأحزاب تمثل الدور الأساسي، فقادت تلك الأحزاب الطلاب والشارع من اجل عودتها إلى السلطة، فاستغلت تلك الأحزاب بعض تصرفات السلطة وحولتها إلى غبن مجتمعي. وفي 85 كان هنالك خفوت لدور الكاريزما للأحزاب ولكن تم تعويض ذلك بالأزمات التي خلقها النظام بينه وبين المجتمع إذا كانت الأمنية أو المعيشية بالإضافة إلى عودة مفهوم الديمقراطية بقوة كحل لكل الأزمات السودانية. ان الانتفاضة القادمة (إذا لم تحدث ثورة قبلها) والتي هي في طور التكوين ستعتمد فقط على الأزمات بين النظام والمجتمع، فقيادة الأحزاب فقدت الكثير من الكاريزما التي كانت تتمتع بها وكذلك فقدت المفاهيم مثل الديمقراطية صورتها الزاهية باعتبارها تمثل حل لجميع أزمات السودان وذلك بعد تجربة ديمقراطية 86. فيمكننا ان نرى الانتفاضة تتكون من خلال أفعال النظام، فهو قد اخرج من يدافعون عن الفكرة واستقطب من يدافعون عن مصالحهم الشخصية، فأصبح عبارة عن قيادات تسعي إلى مصالحها وحل الأزمات الآنية التي تواجهها دون رؤية كلية وبين جهاز أمن يدفع المجتمع إلى الانتفاضة بأفعاله غير المسئولة داخل المدن أو في مناطق العمليات. فالانتفاضة إذا آتية نتيجة للغبن والظلم والأزمة الاقتصادية وكل المشاكل الأخرى التي تحيط بالأسرة السودانية حاليا، ما يؤخر الانتفاضة هو استهلاكها للمحفزات في الانتفاضات الأخرى إذا كانت الكاريزما أو وجود مفاهيم دافعة للتغيير، فيجب ان لا تفرح السلطة كثيرا ببقائها حتى الآن ففي ذلك تحويل الظلم الاجتماعي إلى ظلم شخصي وهو ما يحدث الآن من شخصنة القضايا بين الفئات الاجتماعية أو بين الفئة الواحدة، وكذلك على المعارضة أيضا ان لا تجلس وتنتظر حدوث الانتفاضة ففي ذلك زيادة في تعقيد المشهد السوداني وستورث دولة محاطة بالأزمات من جميع الجهات، فعلينا إذا استعجال حدوث الثورة قبل ان تداهمنا الانتفاضة وذلك لا يكون إلا ب. [email protected]