السودان وفكر الآخر: طوال تاريخ السودان الحديث وتحديدا فترة ما بعد الاستقلال انقسمت النخب الفكرية والسياسية إلى ثلاثة مدارس فكرية، فنخب المدرسة الأولى تبنت الفكر العربي وتقول بالدولة الدينية المستمدة من رؤية الفكر العربي للدين، اما المدرسة الثانية فهي التي انتمت إلى الفكر الغربي مثل الحزب الشيوعي الذي يقول بالاشتراكية والعلمانية أو بعض الأفراد الذين يقولون بالليبرالية والعلمانية، اما المدرسة الثالثة فهي التي مازجت بين هذا الفكر وذاك. وكل ذلك الفكر الذي كان سبب في الأزمة السودانية منذ الاستقلال والى الآن لازال يمارس سطوته ويفرض ذاته دون ان يجد له مكافئ من جانب النخب السودانية. ورغم ان كثير من النخب تدرك اثر الواقع على الفكر، وان الفكر هو نتاج تفاعل بين الواقع والنخب، وان الفكر في ذاته عبارة عن رسم صورة ذهنية تطابق الواقع ويمكن تفكيكها وتركيبها بسهولة دون التأثير على المجتمعات، فيفترض في الصراع والجدل الفكري هو عدم وجود كلفة اجتماعية وان لا تستغل المجتمعات داخل الصراع، ولكن نتيجة لاختلاف الصورة الذهنية عن الحقيقة المجتمعية تحولت النخب إلى استخدام المجتمعات في صراعها الفكري، فانعدم الجدل الفكري وتحول إلى حرب فكرية نتيجة لسيطرة ايدولوجيا لا علاقة لها بالمجتمعات وتحولاتها الاجتماعية. الحلقة المفقودة في الواقع السوداني: ان الحلقة المفقودة لحل الأزمة السوداني هي النخب، فلا وجود لنخب سودانية تسعي لرسم صورة ذهنية حقيقية لمجتمعاتها وتساعدها بالتالي على خلق التكامل والتجانس والاتزان، فتلك النخب اما إلى الفكر العربي هروبا أو إلى الفكر الغربي استلابا أو إلى فكر توفيقي تلفيقي كسلا، وقد أدمنت النخب دائرة تلك الأفكار فهي من قوس فكرى إلى أخر، يحركها برجل مصالحها الشخصية وتهرب من التواجد في نقطة ارتكاز محددة لترى ماذا فعلت أو ماذا ستفعل وأين هي من أنين ومواجع المجتمع السوداني، ولا تصرخ إلا حين تدور الدائرة عكس اتجاه مكان تواجدها وهي التي من المفترض ان تتألم مع كل طلقة تخرج من سلاح إنسان سوداني ليقتل بها سوداني، ومع كل قنبلة تسقط على أجساد أطفال أبرياء يلهون في هيبان أو على نساء في دارفور أو على شيوخ في النيل الأزرق. الطريق الثالث: يبدأ الطريق الثالث بوجود نخب سودانية حقيقية تسعي إلى استيعاب المجتمع السوداني كما هو وتساعد في التحولات الاجتماعية وعملية التكامل والاتزان، ولابد ان تتكامل الأدوار بين النخب فعهد انتظار المخلص والمهدي وغيره قد انتهي وجاء عهد النخب التي تعتمد على استيعابها وعلى مجتمعاتها فقط. وكما المجتمعات تختلف النخب في أدوارها ولكنها تتكامل في استيعابها للمجتمع ومساعدته، فهنالك نخب الرؤية الكلية التي تعيد تعريف الذات الكلية والانا والأخر المختلف والأخر الضد والإله، وعلى تلك الرؤية حتى تصبح صورة ذهنية تعبر عن المجتمع كما هو وليس عن مجتمع متخيل عليها ان تستوعب المجتمع وقيمه كمجتمع إنساني وكقيم إنسانية، وكذلك إدراك الآخر المختلف والآخر الضد فهما يوضحان الأنا بصورة اشمل، وعلى مفهوم الإله ان يتكامل مع تلك الرؤية لا ان يتناقض معها، فالإله يستوعب المجتمعات كما هي ويساعدها بالإرشاد لبلوغ حالة الاتزان والتكامل، ويجب ان نبعد عن استيراد مفهوم الإله من المجتمعات الأخرى التي حملته بكل قيمها وتاريخ تحولاتها. وتحتاج الرؤية الكلية إلى نخب أخرى تحولها إلى مفردات بسيطة تستوعب المجتمعات وتستوعبها كذلك المجتمعات وتساعدها في مراحل تحولاتها، وتأخذ من قيم المجتمعات مفاهيمها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فإذن بدون رؤية كلية ترسم صورة ذهنية حقيقية للمجتمع السوداني وبدون نخب سودانية تنتج المعرفة من داخلها وليس باستيرادها، بدون ذلك ستستمر الحلقة المفقودة وحالة البيات الشتوي للنخب السودانية، وتستغل تلك الحالة نخب أخرى تسعي إلى مصالحها ولا يهمها انفصال الجنوب أو الحروب الدائرة أو حالة الجوع والعطش والفقر التي تعترى الكثير من الناس، فهي تعتمد على استيراد أفكار الآخر ولا علاقة مباشرة لها مع المجتمع ولا تستطيع استيعابه أو المساهمة معه في أزماته التي يواجهها، بل هي في ذاتها المسبب الأول لكثير من الأزمات الاجتماعية، ولن تتحرك خطوة إلى الأمام أو الخلف ولكنها ستبقي كما الببغاء يردد ما يقوله الآخرون. [email protected]