(1) تنادى عقلاءٌ كبار في الولاياتالمتحدة، وبضمائر حيّة، لمعارضة ترشيح "دونالد ترمب" عن الحزب الجمهوريّ، منافساً على منصب رئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وأنا أكتب مقالي هذا، لعلّ مئات وربّما بلغوا الآلاف الآن، بادروا بالتوقيع على بيانٍ عام، يبدون فيه الرأي في ترشيح رجل أمريكي -وحتى قبيل اعتماده رسمياً من قِبل حزبه-معلنين عدم كفاءته للمنافسة على منصب الرئاسة الأمريكية. ذلك نهج جديد ومبتكر لم تعهده الممارسة السياسية في الولاياتالمتحدة. إنّ النظام الديمقراطي في الولاياتالمتحدة ينصّ على انتخاب الرئيس الأمريكي، عبر تصفيات غير مباشرة، تتمّ في مختلف الولايات، ووفق نظام فيدرالي متبع منذ قرابة الثلاثة قرون. على أنّ لذلك النظام تعقيدات، أطلت برأسها خلال الصراع المُحتدم بين اختيار المتنافسين من الحزبين الأمريكيين الكبيرين، على منصب الرئاسة الأمريكية هذا العام. . (2) لعلّ أول ما يؤخذ على أسلوب اختيار المتنافسين من الحزبين الرئيسيين "الديمقراطي" و"الجمهوري" -على عقلانية تطبيقه - هو حرمان المواطن الأمريكي الفرد من الإدلاء بصوته مباشرة، ليختار من يرتضيه رئيساً للولايات المتحدةالأمريكية. برغم رسوخ الانتخاب غير المباشر عبر عقود طويلة، يظلّ إحساس المواطن الأمريكي قائماً، كونه لا يدلي بصوته في المرشح المحدّد، بل ينوب عنه نواب آخرون، يمثلون ولايته في ذلك النظام الفيدرالي. ثاني الأمرين هو اقتصار الساحة السياسية في الولاياتالمتحدة على حزبين وحيدين حصرا، مما يضفي على التجربة الأمريكية مسحةً من الجمود، لا تتسق ومواصفات أبواب الديمقراطية المشرعة لاعتماد كيانات سياسية، تتنفس أجواء الحرية وتباين الآراء واختلاف التوجّهات. إن من ثوابت الوحدة والتماسك في الولاياتالمتحدة، ذلك التنوع الباذخ في كافة ولاياتها، وذلك التعايش بين مختلف الثقافات المحلية في بلاد هي قارة بمقاييس الجغرافيا. غير أن ذلك الواقع الاجتماعي والثقافي المتعدّد، لم يفرز في الساحة السياسية تنوّعاً في الكيانات السياسية، بل اكتفى بحزبين سياسيين. . (3) إنّ في ترشيح "دونالد ترمب"، وهو رجل لم يكتسب خبرة تذكر في السياسة، وثمة شكوك كثيرة حول ثرواته، ليكون الممثل الأوحد للحزب الجمهوريّ الطامع في الوصول إلى "البيت الأبيض"، لهوَ أمر يلفت النظر إلى خللٍ ما في الممارسات الانتخابية . ممّا يلفت الانتباه أيضاً، قيام عددٍ مُعتبرٍ من المثقفين الأمريكيين بإصدار ذلك البيان بتاريخ 24 مايو 2016، يندّدون فيه بترشيح الرّجل، ويعدّدون نواقصه، وينادون بقطع الطريق عليه، حتى لا يصل إلى "البيت الأبيض". يقول بيان المثقفين الموجّه للشعب الأمريكي العريض، أنّ التاريخ الأمريكي الرّاسخ في دعم التعايش بين مختلف الأقليات والثقافات، لا يناسبه مرشح يؤجّج الاختلاف بين مكوّنات المجتمع الأمريكي، ويعتمد لغة تعادي الأقليات، ويعكس جهلاً فادحاً بمقوّمات المجتمع الأمريكي وتوجّهاته الخارجية. وعبّر أصحاب البيان من المثقفين، وأولهم الكاتب والروائي الأمريكي الكبير "ستيفن كينج"، عن اقتناعهم أن الكذب وقلة الخبرات والديماغوجية، هي ممّا يمهّد لإحياء نمطٍ من الحكم الاستبدادي البغيض. ولأنهم يؤمنون أن الصدق والمعرفة والخبرة والمرونة، أمور لازمة لكل من يتطلع لقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأن اكتناز المال وقلة الخبرة وامتلاك لسان مستفز، لن تشكل معايير لاختيار مرشح للرئاسة، لذا فهم يعلنون معارضتهم لترشيح رجل مثل "دونالد ترمب"، رئيساً للولايات المتحدة. (4) على أنّ الأمر يكشف خللاً أعمق في أسلوب الترشيح والانتخاب في النظام الأمريكي. ولعلّ المتابع سيرى أنّ مذكرة المثقفين الأمريكيين، وفيهم أسماء يشار إليها بالبنان، قد تجاوزت معايير الديمقراطية الأمريكية، تلك التي تتيح لرجل أشبه بالمهووس، إن لم يكن مخبولاً بالكامل، يباهي بثروته ليؤثر على ناخبيه حتى يصل إلى كرسي الرئاسة في "البيت الأبيض"، بدعائيات فجّة، وبلسانٍ متردّد بين الادعاءات الممجوجة والكذب الصراح. يظلّ التساؤل قائما حول جدوى مثل هذا البيان، الذي لا يستهدف في نظرنا مرشحاً بعينه مثل "ترمب"، أو يؤيد مرشحاً بديلاً مثل "هيلري كلينتون"، لكنه يطرح تساؤلاً حول مصداقية النظام الانتخابي بكامله. (5) إنّ بيان المثقفين الأمريكيين، لا يستهدف المرشح الجمهوري "دونالد ترمب" وحده، بل هو بيان يقدح بقوّةٍ في مصداقية نظام الانتخاب الأمريكي، ويطرح تساؤلاً مشروعاً حول جدوى المعايير المعتمدة في النظام الأمريكي الذي يقوم على مبادئ دستورٍ، رسّخ نظاماً فيدرالياً، عمره قرابة 240 عاما . . إنّ "بنجامين فرانكلين" و"جورج واشنطون"، من مؤسسي الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكذا الفلاسفة الذين شكّلت أفكارهم أساس ذلك الدستور، مثل "جون لوك" و"جان جاك روسو" و "هوبز" وسواهم، يتململون في قبورهم إزاء رجل اسمه "دونالد ترمب"، يطمح أن يكون رئيساً للولايات المتحدةالأمريكية في مطالع الألفية الثالثة، بلا مؤهلات تذكر. . +++ [email protected]