بسم الله الرحمن الرحيم بادرني بعض الأصدقاء بحميمية السوال عن سبب طول الغيبة والإنقطاع عن كتابة المقالات الصحفية والبحوث البيئية التي إعتادوا على الإطّلاع عليها بشغف حسب وصفهم في الصحف السيّارة والمواقع الألكترونية بين الفينة والأخرى، معظمها تتعلّق بقضايا شمال كردفان، العالقة كسائر قضايا ولايات بلادي العزيزة وإن جارت علينا وهموم قومي الكرام وإن ضنّوا، فكانت إجابتي المقرونة بجزيل الشكر والعرفان، بأني وبجانب القطوعات المتكررة للكهرباء في صيفنا الماضي، وضعف شبكة الأنترنت، كنت مشغولا بعض الشيئ بحلول ميدانية لعدد من التصميمات المعمارية للطالبين لها بإلحاح، على مساحات محجّمة للغاية تصل إلى 216 مترا مربعا في الكثير من مدن هذا السودان الوسيع، تفرغها من محتواها البيئي وغايتها في إيجاد المأوى الرحيب، اللائق والمستوفي لمطلوبات المباني الأرضية والمتعددة الطوابق، من حيث المساحة القانونية التي ينبغي ألا تقل عن (450 متر مربّع)، لإستيفاء الحد الأدنى من الفناء اللازم للإرتدادات المجاورة والصرف الصحّي، بجانب إعداد الملحقات الوصفية وحساب الكمّيات وتقييم الأسعار التصاعدية، في خِضمّ فوضى المواصفات الفنية والنوعية الفالتة لمواد البناء، في غياب التخطيط الحضري والإستراتيجي المواكب لنظم ترقية وإدارة المجتمعات، في ظلّ إنعدام اللوائح والضوابط الإجرائية الملزمة، المقيّدة بدستور فيدرالي دائم لحكم البلاد وإحتكام العباد، والتي تحيل تلك المساحات المحجّمة وتلك التصاميم والحلول إلى مباصرة شاقة وممتعة، وذلك في سبيل تلبية مطلوبات الزبون الغلباوي، والمتراجع في آخر المطاف عن حماسه وجدّيته في إنجاز ذلك الحلم الجميل (المأوى) وذلك المشروع الحضاري الحيوي الهام، ومن ناحية أخرى كنت منهمكاَ في مطالعة مجلة (عالم المعرفة)، العدد 175 بفصولها الإحدي عشر، مستغرقا في قراءة متأنية لكتاب البروفيسر مايكل آر مانجل، أستاذ علم النفس التجريبي بجامعة أكسفورد المتخصص في تشريح العلاقات الإجتماعية، مع الباحثة المخضرمة مونكا هندرسون، وعنوان موضوعه (سيكلوجية السعادة المجتمعية) موضوع هذا المقال وقد تناول فيه النقاط المحورية التي تدور في فلكها الرؤى التحليلية للسعادة من منظور إستبياني سيكلوجي محض، والذي خلُص إلى تعريف السعادة بأنها ذلك الإحساس بالمتعة والنشوة والشعور بالرضا الإرتياح العارم عند الناس، وفي ذات السياق تساءل الفيلسوف أرسطو عن : ما هو أرقي وأعظم خير يمكن للإنسان أن يجنيه ويبلغه بنفسه ؟ ويجيب : يتفق عامة الناس وصفوتهم على أنها تلك (السعادة)، ولكنهم يختلفون في تحديد كنهها بناء على المفاهيم والقيم والمعتقدات التي ترسم مسار السلوك والمعاملات البينية بين المجتمعات المتباينة، محتسبا في ذلك البحث الظرف الزماني والمكاني ومدى ديمومة ذلك الشعور بتلك السعادة المجتمعية الراسخة عند الناس (الأسرة وذوي القربى، زمالة دور العلم والعمل، الروايط الثقافية والفكرية والرياضية ، الصداقة، الحياة الزوجية والعلاقات الإجتماعية وماشاكلها) بإعتبارها أهم الروافد السعادة المستدامة، خالية من شوائب الظلم والتطفيف وكدر المحاباة والتحامل وشظف العيش كما هو الحال بدول الخليج وكثير من بلدان العالم. وكل ما يسترعيك في ذلك البحث الشيّق، الذي لا يعدو محتواه مجرّد لفت إنتباهتنا إلى إعوجاج أعناقنا وتطاولنا القزم على موروث ثقافتنا السامقة وتنكّرنا لتعاليم عقيدتنا السمحاء الموجبة لطمأنينة العيش الكريم والتعايش السلمي المفقود، والحافلة بالمفاهيم والقيم العليا والفضائل ومكارم الأخلاق الحميدة، التي تفضي إلى إستتباب الشعور بالرضا لحياة هانئة ومستقرة مفعمة بكنوز تلك السعادة الراسخة التي لا ينضب معينها، كتلك التي قرنها سيد الوجود بكمال الإيمان، بأن (تحب لأخيك ما تحبه لنفسك)، والتي تخلّى عنها الناس في هذا الزمان، أولئك المعرضين عن ذكر الرحمن، الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم وقيّض لهم معيشة ضنكى، وكتلك التي لخصها الإمام علي كرّم الله وجهه : بمطابقة وتطبيق العمل بالتنزيل وليس مجرّد الصلاة والصيام والقول غير المقرون بصالح ذلك العمل التطبيقي بالتنزيل المشار إليه، كقولهم هي لله لا للسلطة ولا للجاه، وذلك التهليل والتكبير المقرون بالخوف من الجليل، (كبُر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، ثم الرضا بالقليل والإستعداد ليوم الرحيل والحساب بالثواب أو العقاب، الذي أسقطه وإستبعده ولاة أمور أمّتنا الإسلامية اليوم، كما أسقط الوهابيون (البسملة الشريفة) سابعة أم الكتاب في الصلاة المكتوبة وإعادة ترقيم آياتها السبع المثاني بخلاف ما هو مدوّن بمصاحف القرآن المجيد، وبخلاف ما هو مثبت في كتاب (الأذكار) للإمام النووي في طبعته الأصلية الأولي وبخلاف ما دوّنه شيخ الإسلام عبدالقادر الجيلاني في مدوّنته (الغُنية في الفقه الإسلامي) اللذان طالتهما أيادي الوهابية بالتحريف والزيف في النسخ المعروضة في الأسواق، كما تعرّض كتاب (قصص الأنبياء) المعروف بمجالس الأنبياء وكتاب (تفسير الأحلام) للإمام محمّد بن سيرين للتفريغ التام من المحتوى، وتبقى الحقيقة الأزلية هي قدرية سائر بني الإنسان المحتومة في الكدح والشقاء وسعيها الدءوب لبلوغ الأمن المعيشي وتلك السعادة الأبدية التي فاتها، بإختياره مفارقة الجنان والإعراض عن ذكر الرحمن، بظلمه وجهله وسبق إصراره . دعونا عن كل ما ليس لنا فيه ذنب إلى ما يعنينا في واقع الحال الآني، كم هي المظالم ومنغصات السعادة التي تحدق بنا في كل آن وحين؟ في ظلّ فوضى الأسعار والثراء الفاحش والجباية القسرية وتجفيف الجيوب والبطون والحرمان من أبسط مقوّمات العيش الكريم في (المأوى، العمل والإكتساب الحرّ والتحصيل العلمي والعلاج المكفول مجانا)، إذ تفرز مرارة كلّ هاتيك المآسي التي يتجرّعها المواطن على مدار الساعة ولا يكاد يسيغها ولا يطيقها، إحساسا مريرا وكمّا مهولا من الغبن جراء ذلك الإستهداف والتهميش والمحاربة التي لا يخبو أوارها، في ظلّ صراع البقاء المستميت على النفوذ والسلطة لحماية المصالح الفئوية وإحتكار المناصب والثروة، والتي تلقي بظلالها القاتمة على مكانة السودان بين دول العالم الخارجي وإهتزاز ثقة وإحترام العالمين، وإنعدام طمأنينة الأمن المعيشي والمجتمعي والثقافي والإقتصادي، وتعميق الإكتئاب والإحباط في النفوس، في غمرة ذلك الإستثمار الإستحواذي الذي إبتلع موارد ومكتسبات الشعوب المحتسبة، في غمرة إستفحال الأمراض غلاء العلاج والدواء والكساء وشجّ وتلوّث المياه وشبح المجاعة، أمام خصخصة التعليم وتعميق هوّة الجهل والأمية لدى عامة النشئ، أمام تبديد المال العام والإرتخاء العدلي، والركود القضائي والنيابي، وذلك التطفيف المستشري في البيوع والوظائف، وتلك المحسوبية المستفحلة، التغوّل الجرئ والحيازة العدوانية الجائرة علي إرادة وسيادة ومنافع الشعوب المحتشمة، فضلاَ عن إستشراء الفساد والتحلل منه والتجنيب والإستبداد الذي ترعرع في كنف الحصانة والمحاباة وإحتماء أئمتة ومدراؤه من وراء جدران (تلك الخطوط الحمراء) التي لاينبغي لأحد من الرعية تخطيها أو يخوض فيها، وإنعدام المحاسبة، وحتّى التوبيخ ومجرّد الإستنكار، مضافاَ إلى تغييب حرية التفكير والتعبير، وتجاهلها إن وجدت، في ظلّ التخلّي عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا الشهر، وإنحسار مدّ الحوار الوطني المرتجى الفضيل، أمام إعجاب كلّ ذي رأي برأيه ! أمام ذلك التشنّج والتمنّع غير المبرر بمخرجات ذلك الحوار إلى سعة الإسماع والمداولة والتصويب والإجماع، المفضي إلى دستور فيدرالي دائم لحكم البلاد وإحتكام العباد، والخروج من دائرة الإعسار والإفقار والإجهاد والنفوق المجتمعي المغلقة، وإعصار تفريغ القيم المحدق بالناس، الذي يتحمّل وزرها رئيس الجمهورية وحده المشير عمر البشير إذ لا هو أطعمنا ولا تركنا نقتات من خشاش الأرض، فمن أي النوافذ والأبواب يأتينا مجرّد الأحساس تلك السعادة المجتمعية المفقودة؟ في ظلّ إنعدام ذلك الحافز على البذل والعطاء، الذي ينجب الولاء والوطنية والإنتماء لهذا الوطن المستباحة هويته؟ أنا شخصياَ أكاد لا أصدّق بأني المحروم الوحيد من المأوى، من العمل الوظيفي، ومحروم من المشاركة الندية في الحوار الوطني، وقد حرمت من الترشيح لإنتخابات الولاة من قبل، ومن الإسهام بأطروحة توفير وتوصيل المياه لإنسان كردفان وترفيع إدارة وتنمية موارده البيئية المترعة وتلك البشرية المبدعة، محروم حتّى من التمتّع بخدمة شبكة سوداني منذ 22 ديسمبر الماضي إلى ما شاء الله، ومحظورة هي أرقامي المسجّلة بأسمي، كأني عامل في الدنيا جنيّة ! وبالتالي فأنا محروم من تلكم السعادة المحجوية ومعزول مجتمعيا من سكينة العيش الكريم والإستظلال بعش الزوجية الهانئ والإستقرار المجتمعي، بعدما عجز سعادة وزير العدل وسيادة النائب العام لدولة بحالها عن حماية مواطنها الأعزل ؟ والبت الناجز في الدعوى المدوّنة تحت الرقم (98/20016)، التي قدمتها بتاريخ 16/2/20016 الماضي ! فماذا بعد ؟ م. علي الضو تاور ، المكاشفي الكردفاني ، ضاحية البِرْكة (تونس) بمحلّية شيكان ولاية شمال كردفان [email protected]