كتبت اسماء محمد جمعة تقول انه وخلال 27 وحتي اليوم لم يشهد السودان فترة استقرار تُذكر ولو لشهر واحد. في واقع الأمر السودان لم يشهد استقرارا سياسيا منذ ان غادره الانجليز عام 1956 اذ اندلعت حرب الجنوب اثرها مباشرة لتستنزف موارد خزينة ضخمة في عهد الحكومات الوطنية الضعيفة سواء اكانت حكومات ديمقراطية كسيحة، او حكومات ديكتوريات عسكرية قادها حفنة من (الجياشة) المغامرين. وليس الاستقرار السياسي وحده، بل حتي الاستقرار العام في جوانب الحياة المختلفة اختل بسبب الاخفاقات التي صاحبت الحكومات المتعاقبة وهي تغير وتبدل في التركيبة الادارية للمناطق والتركيبة الذهنية للمواطنين خاصة بتبادل طائفتي الختمية والأنصار للمواطنين وتغييب ذهنياتهم بامور السيادة والمشيخة والتي تستمد من الدين منهاجها وحيث اُستغل الدين اسوأ اِستغلال ليخدم مصالح سادة معينين. هذا تقريبا نصف استخدام الدين من طرف الاخوان الشياطين في السودان. وهذا ما رأته الديكتاتوريات العسكرية فحاولت طمس هذه القيادات الطائفية، الا انها بدورها اُبتليت باحلال القائد الانقلابي محل شيخ الطائفة ومجدته وذهبت نفس المذهب الفردي الذي تفرضه القيادة الديكتاتورية وجاهدت ايضا في تغييب ذهنية المواطن بموضوعات ثورية زائفة هي في ظاهرها شعارات لا تتعدي اللافتات التي كُتبت عليها او كتب التربية الوطنية، وتعميق التغييب الذهني بتربية وطنية تمجد الزعيم الانقلابي. هذ الصورة لا تكتمل الا في ذهن الانسان العاقل الذي مرّ بهذه التجربة وليس بطبيعة الحال في ذهنية الاجيال الجديدة التي تربت في ظل الدكتاتورية الراهنة وحتي في ظل الديكتاتورية السابقة لجعفر النميري والذي انتهي عهده بالاستسلام للكيزان بتطبيق ما سُمي بقوانين الشريعة في عام 1983 وقبول التخدير الديني له باعلان امامته علي شعب امعن في تعذيبه وتشريده من دياره. وفي زمنه بدأ الهروب من الوطن يتعاظم وهو امر لم يشهده عهد الديكتاتور الاول ابراهيم عبود. وهنا تبدأ تداعيات الذاكرة وحيث كنت في ذلك الوقت وقبيل ثورة اكتوبر في الصف الرابع الابتدائي. وبطبيعة الحال كان جيلي الممثل في زملاء الدراسة الاولية في ذلك الوقت جيل لا يعرف وقتها الكثير عن الامور السياسية، الا انني اذكر اننا وقفنا جميعا وطلبنا من الاستاذ ان نخرج من الصف عندما سمعنا طالبات المدرسة الوسطي المجاورة لنا يهتفن داخل حوش مدرستهن القريب من مدرستنا. وهرولنا الي الجدار المواجه لحوش البنات لنتسلقه ونراهن في الداخل يهتفن وكان من ضمن الهتافات هتاف ينادي سكينة بان تطلق عبود من المخبأ الذي ادخلته اليه. من هنا يمكن القول ان وعيا سياسيا انساب الي عقلية ذلك الجيل... قبلها بشهور علي ما اعتقد كنت قد عدت الي المدرسة بعد الافطار وبيدي جريدة الثورة علي ما اعتقد والتي كنت اقرأ بها "احكموا علينا باعمالنا" وربما "جئتكم بصداقة كل الشعوب" ايضا وكانت الجريدة قد نشرت صورا صاحبت اغتيال جون كنيدي. وفي ذلك الوقت والزملاء التلاميذ يحيطون بي ونحن نقرأ ونتفرج علي الصور طافت بذهني سطور قصيدة "اغتالوك جون كنيدي... اغتالوك يا حبيب بلدي". الا ان هذا التوّجه العاطفي الطفولي المبكر نحو اليمين لم يكن مبدأ اذ انه وبعد سنين قلائل واثناء المرحلة المتوسطة اسعدتني هواية المراسلة بالعديدين من اصدقاء المراسلة من داخل السودان ومن مصر وغيرها وبهذا بدأت مرحلة اخري من المعرفة. ووصلتني حتي من ضمن الرسائل رسالة من الفنان عبدالحليم حافظ بتوقيعه ما ازال احتفظ بها. وكان من اصدقائي من يكبرني سنا ومنهم استفدت كثيرا من المعارف ومن بينهم كان بعض الشيوعيين من طلبة المعهد الفني ووادي سيدنا الثانوية. وبفضل صديق منهم تعرفت علي كوادر شيوعية راقية من الجيل الاول في الفترة التي اعقبت عام 1969، منهم احمد خليل وكان يدير اعمال مرمادي التجارية في عمارة اولاد تبيدي خلف البنك الصناعي القديم كما اعتقد والتي كان من ضمن اعمالها توزيع الادبيات الشيوعية وتجهيز قوائم البعثات للاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية. وكان المكتب في نفس العمارة التي يقع فيها مكتب مجلة المرأة. وكان احمد خليل شخصا شهما واريحيا يمتاز بحس مرهف وروح مرحة للغاية. ومن بينهم ايضا علي بخاري القائد النقابي وساعد الشهيد الشفيع احمد الشيخ الايمن وبعض الاخوة في اتحاد عام نقابات عمال السودان وفي نادي العمال بالخرطوم من بينهم ناشطين احدهما يُدعي ابوالسِمِح والثاني التاج بحيري (التاج احمد عمران) الذي اصبح لجان ثورية عندما قابلته بعد ذلك بسنوات في اعقاب الانتفاضة في 1985 عندما عدت من الكويت لاتولي مراسلة الوطن من الخرطوم. ومن المدهش هنا في تداعي الذاكرة انني عندما رأيت عبد العزيز دفع الله في قوات التحالف السودانية في اسمرا وعملنا معا لاِنجاز التحالف الوطني كفصيل سيلسي تذكرت انني رأيته ايضا في وقت سابق هو هذا الوقت الذي اتحدث عنه في نادي العمال بالخرطوم وحين كنت اشارك الزملاء العمل في اللافتات التي كتبها الصديق كمال عبدالمطلب وغيرها للمشاركة في استقبال عبدالناصر والقذافي للاحتفال باول عيد لثورة مايو (عندما كانت ثورة). اتمني ان اواصل وان يعودني النفس الطويل. [email protected]