تخيل انك تجلس على أريكتك بالمنزل، تشاهد بعض البرامج التلفزيونية مع زوجتك وأبنائك. حصل وان تم عرض إعلان لمنتج ما، فتهلل وجه أبنائك فرحاً ثم هرعوا يطلبون منك أن تشتري لهم هذا المنتج؛ أو تطلب زوجتك أن تشتري لها منتج آخر تم عرضه أعجبت به وفقاً لطريقة عرضه ... وقد يتكرر معك الأمر كثيراً فماذا ستفعل حينها!! أعتقد بانك ستكون مجبراً بصورة أو بأخرى على تلبية هذه الطلبات رغماً عنك .. ما يجعلك تفكر جدياً في إيجاد حل لوقف تأثير تلك الإعلانات، وقد لا تسلم أنت من الوقوع في فخ أحد الدعايات. * هذا ما يعرف بسطوة الآلة الإعلامية - أو ما يمكن أن يطلق عليه مجملاً التقنية الحديثة - على المجتمع. لتعيد إلى أذهاننا عهد الإمبراطوريات البائد وعصور الإقطاع القديمة ولكن بشكل أكثر حداثة . ولكن كيف ذلك!!! فبينما كانت السيطرة في الماضي تقتصر على السطوة المادية الظاهرة على الفرد والمجتمع، إلا انها أضحت أخطر وأعمق أثراً في عصر المدنية الحديثة؛ إذ أنها اتخذت طابعاً عقلانياً تتوجه بموجبه إلى عقل وفكر الفرد والمجتمع وتحاول الاستحواذ عليه ومن ثم توجيهه كيفما تريد، فأصبحت الآلة الإعلامية هي من تخلق رغبات الناس ومن ثم تقوم بتلبيتها لهم - أي انها تفكر نيابة عن المجتمع وتخلق رغباته من خلال ما تعرضه - ولكن هذه الرغبات ليست رغبات حقيقية وإنما هي رغبات وهمية مزيفة من صنع الدعاية والإعلان . رغم ان هذه السطوة تبدو عقلانية إلى حد ما، إلا أنها في الحقيقة ليست كذلك. إذ انها سيطرة (غير عقلانية) تؤدي إلى واد وقمع أي محاولة لتفكير الفرد فتجعله في حالة بيات وعدم فعالية. ومعلوم ان الفكر هو قوة العقل النقدية السلبية وعند تحطيمه أو توجيهه فلا يكون هناك أي مجال للنقد أو المعارضة الأمر الذي يقود في خاتمة المطاف إلى بروز (مجتمعاً ذو بعد واحد) وما المجتمع ذو البعد الواحد إلا ذاك المجتمع الذي استغنى عن الحرية بوهم الحرية. والأخير كان عنوان لكتاب قيم ل (هربرت ماركوز). حيث يسلط عبره الضوء على الحال الذي آل إليه المجتمع الأوروبي من مجتمع منتج إلى مجتمع مستهلك مقاد بواسطة الآلة الدعائية والتقنية الحديثة التي يقف خلفها أشخاص يوجهون سياسات الدولة. *في السابق كان أمرا سهلاً للمجتمع ان يستبدل حكوماته أو يطالب بتغيير سياساتها، لوجود ذاك الفكر النقدي الموجه لأي ممارسة خاطئة أو غير معقولة للسلطة التي تكون مرئية للمجتمع وهذا سبب كثره الثورات المطالبة بالتغيير في العهود السابقة. أما الآن فصارت السلطة التي تقود المجتمع الصناعي أكثر قوة وسيطرة وتحتكر كل شيء بما في ذلك فكر الفرد الذي تقوم بتلبية حاجاته وحاجات مجتمعه كلها بكل سهولة ويسر وبصورة مستمرة .. فصار من الصعب بروز معارضة لهذه السلطة و(اللامعقول) هو الاعتراض فلا يجرؤ فرد على ان يبدل حياة الرفاهية هذه ويطالب بالمزيد منها وهو بإمكانه الحصول على كل ما يريده ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير..). *ويقف وراء هذه الآلات أساطين العصر الحديث أو أباطرة الزمن - ان صح التعبير - فالمجتمع الآن دمية في يدهم يتحكمون به كتحكمهم في آلاتهم يوجهونه أنى يريدون وهم في مأمن من أي معارضة، وهذا ما جعلها سطوة خطرة لان الفرد بدلاً من ان يكون ناقداً لعمل السلطة، فانه يصير داعماً لها ومدافعا عنها نتيجة تأثيره بالتكنولوجيا التي توجهها السلطة عن قصد. * مهما يكن من أمر، فان ماركوز حصر نظريته هذه في المجتمع الغربي المتقدم فحسب، وربما كان محقاً في هذا الجانب إلا انه ربما كان مخطئاً في جانب آخر. فينما يرى استحالة قيام ثورة في مثل هذه الظروف لغياب من ينادون بذلك بسبب أن الصراع الطبقي في المجتمع قد زال بعد ان أدمجت هذه الطبقات مع بعض لتكون مجتمعا واحدا لا فرق فيه بين أي فرد من أفراده فالسلطة تعمل على تحقيق رغبات الجميع بصورة متساوية فالحذاء الذي يرتديه العامل أو السيارة التي يقودها هما ذات ما يملكه الموظف أو رجل الأعمال. ومخطئاً من حيث ان الثورة الصناعية والتكنولوجية لم تعد حكراً على الغرب وحده بل امتدت إلى كل العالم الذي أصبح الآن قرية واحدة بفضل التطورات المستمرة التي يشهدها بين الفينة والأخرى. وبذلك فانه من غير المستبعد أن يكون للسيطرة الإعلامية في المجتمع النامي ذات التأثير والبعد كما في المجتمع الغربي، ما ينذر بظهور مستعمرات وإمبراطوريات تتخذ شكلا آخر من أشكال السيطرة والسطوة على المجتمع فتزداد شعوب هذه البلدان تدهوراً على ما هي عليه وتوقف كل نشاط للعقل. ولكن بسبب ان الاختلاف الطبقي لا زال يلقي بظلاله على مجتمعات هذه البلدان ووجود عقل ناقد للسلطة ولو في حدود ضيقة فان ذلك يمثل دافع دائم للثورات والمطالبة بالتغيير. ولكن المفارقة هي ان النتيجة النهائية التي تقود إليها هذه السطوة الإعلامية في الغرب هي إبطال الفكر وواد أي محاولة للإبداع، فيصير بذلك المجتمع الغربي كالمجتمع النامي. والوحيدون المسموح لهم بالتفكير هم من يقودون هذه التكنولوجيا التي تعتمد على الواقع المتاح ونبذ أي محاولة نقدية ذات بعد آخر تهدد بالكشف عن حقيقته وفضحه. وتكون المحصلة النهائية هي أن إيديولوجيا( Ideology)المجتمع وفكره لم تمحى من الوجود، وإنما استبدلت بتكنولوجيا المدنية الحديثة التي تقود المجتمع وتسيطر عليه بصورة كلية وصارت بذلك هي إيديولوجيا المجتمع. محمد خرطوم الخميس 11 أغسطس 2016م [email protected]