يتحرَّك كلُّ شخصٍ مِنَّا ضمن شبكةٍ من التَّرابطات الاجتماعية؛ لذلك، لا يأتي أيٌّ منَّا إلى ذاكرةِ الآخر فردا، بل يتداعى إليها معه في ذاتِ الوقتِ نَفَرٌ ذوو صلةٍ بالدَّائرة المشتركة. على أن الأمرَ لا يخلو من تدافعٍ وتزاحمٍ جائرٍ على مدخل الذَّاكرة. وما يدخلُ إليها أولاً، ليس هو دائماً ما يستحقُّ احتلالَ المقاعد الأمامية منها. فهناك اعتباراتٌ تخرج عن سيطرة التَّقييم الموضوعي؛ منها، بسطةُ الجسم، وضخامةُ الجثَّة، وسماحةُ المُحَيَّا، وعُلُوُ الصَّوت، وكثرةُ الضَّجيج، وتميُّزُ المسكن، وأناقةُ الهندام (وكلُّنا يذكرُ مقولة الشِّيخ فرح الشَّهيرة: "أُكُلْ ياكُمِّي قُبَّالْ فمِّي" أو عدم تعرُّف حارس البوَّابة على البروفيسور عبدالله الطَّيِّب، ومنعه من الدُّخول، مع أنَّ صوته كان يأتي إلينا يومياً عبر المذياعِ في شرحِه المُيسَّرِ لما تيسَّرَ من الذِّكر الحكيم، بصُحبة الشِّيخ صدِّيق أحمد حمدون). تعرَّضنا في متن الرِّسالة، والمشاركاتِ التي جاءت في أعقابِها، إلى عددٍ من مشاهير المبدعين، على رأسهم الصَّديق عادل القصَّاص، إلَّا أننا قد حرصنا، إلى جانب ذلك، أن نفسَحَ المجالَ لعددٍ من المنسيينَ، على عِظَمِ مساهماتهم؛ والمهمَّشينَ، على مركزيةِ نتاجهم الفكري؛ والأخفضِ صوتاً، على ارتفاع هامتهم المعرفية؛ والأبعدِ عن دائرة الضُّوء، لأنهم قابعون خلف البؤر والكواليس التي تُحَدِّدُ في الأصل مساره وانكساره قبل سقوطه على الشُّخوص المتحرِّكة على الخشبة. وعندما تحدَّثنا عن الحركة البنيوية في السُّودان، حرصنا على أن نُلقيَ مزيداً من الضُّوء على مجهودات الأستاذ المفكِّر محمد عوض كبلو، قبل رسوخ المصطلح على كتفي الأستاذين الصَّديقين عبداللَّطيف علي الفكي وأسامة الخوَّاض؛ ولم يخطُر ببالنا قط -إلَّا بعد مشاهدة عمل الفنَّان التَّشكيلي أحمد عامر حول قصيدة سيدأحمد بلال عن المبدع عبدالواحد ورَّاق- أننا أغفلنا شخصاً لا يُمكِنُ فهمُ دورِ الضُّوء نفسِه دون الاستعانة باستبصاراته الحاذقة؛ وذلكم هو الشَّخصُ المهذَّب، الأخفضُ صوتاً، والأرفعُ مقاماً، والأَحَدُّ بصراً، والأنفذُ بصيرةً: الأستاذ الفنَّان التَّشكيلي محمد عبدالرَّحمن حسن. كان من روَّاد الحركة البنيوية في السُّودان، في مجالٍ فرَّ فيه النَّقدُ عن موضوعاته؛ فدعانا الأخ محمَّد في وقتٍ باكر، عبر محاضراتٍ عامَّة ألقاها في كلية الفنون الجميلة، إلى تأمُّلِ الأعمال الفنية ذاتِها، والنَّظرِ إلى اللَّوحة، على سبيل المثال، بوصفها نصَّاً تتشابكُ فيه علاقاتٌ متداخلة للشكلِ واللَّون، تشكِّل فيما بينها بنيةً قادرةً على استكناه الدَّلالات العميقة للعمل الفني، عوضاً عن الاكتفاء بالسِّيرة الذَّاتية للفنَّانين التَّشكيليين أو سرد مآثرهم أو التَّرويج لمذاهبهم الفكرية أو نسج أقاصيصَ لا تمِتُّ لأعمالهم الأصلية (أي "نصوصِهم" التَّشكيلية) بأدني صلة. وكان محمَّدٌ يجري تحليلاتِه العميقة بيُسرٍ مدهش، فلا تستعصي عليه حتى ابتسامة "الموناليزا" لدافنشي، أو "عبَّاد الشَّمس" لفان جوخ، أو أيٍّ من "تجريدات" موندريان، أو كلٍّ من "زنابق المياه" (أو "النِّيلوفر") لمونيه؛ ناهيك عن الفنَّانين التَّشكيليين الذين أنتجتهم بيئته المحلية، ومن ضمنهم أحمد عامر، صاحب اللَّوحة التي أمامنا، التي رسمها في توضيحٍ موازٍ لقصيدة سيدأحمد عن ورَّاق. [email protected]