بسم الله الرحمن الرحيم إننى لمدين بجزيل الشكر للأخ العزيز عبد السلام عبد المحمود الذى أهداني سفرا رائعا خطه قلم البروفيسور / ابوالقاسم سيف الدين سمين أسماها ( لمحات من الحياة الإجتماعية للفور)...وساحاول سبر غور ماكتبه البروف..ولكن لابد من الإشارة في البدء بكلمة عن الأخ الباشمهندس عبد السلام متعه الله بنعماء الصحة فما شاهدته يوما قط عابسا أومتشائما وغالبا ما يكون مبتسما متفائلا يروى الملح والطرائف، يتثر الدعابة بوقار شديد بين الناس، غارق في حبه لمدينته أو لقريته (كاس) فهى تجمع الصفتين وربما أكثر، لا يفتأ يذكر ناسها وجوها سيما في فصل الخريف حين يعانقها الواديان ( قندى) و ( قرعة) يودعان سفوح جبل مرة منحدرين في سرعة جنونية نحو الجنوب لتكوين الأراضى الفيضية جنوب كاس في ( داورة) و ( كرندى) و (سنقدا ) وغيرها من القرى المتناثرة علي إمتداد الوادى. منظر الواديين حين يلتقيان وسط كاس تحفهما البساتين الغناء وتبدو أشجار المانجو والموالح والحراز كانها تتسابق لتعانق السماء، لتخترقها أشعة الشمس وينعكس شعاعها الفضى علي المياه المنسابة تتلوى مع منحنيات الواديين. ولكن المدينة / القرية تحبس أنفاسها في الخريف، فالمياه المنهمرة تطفح وتغمر البساتين المجاورة وأحيانا تهدد المساكن وتعلو أصوات طلب النجدة وأصوات الضفادع والماشية في مزيج فريد ليختلط مع خرير المياه المتدفقة بعنفوان شديد خاصة في الليل، وهي تشكل فرصة للصغار للهو واللعب، فهم لا يعبأون إلا بهما، وكانما الله لم يخلق هذه الدنيا إلا للعبهم. عبد السلام يرويها وهو يعبر الأزمنة والأمكنة في رحلة الحياة المديدة بإذن الله . ندلف لكتاب البروف/ أبوالقاسم وفيه يجوب بنا أضقاع شتى من الدنيا، وقد تفتحت عيناه في قرية جلدو الصغيرة الوادعة بين جداول المياه وعبق الزهور وصياح القطعان العائدة مساءا بعد جولة متخمة في مراع علي السفح الغربى لجبل مرة، وعندما يولد الأنسان في سفح هذا الجبل فإنه بالضرورة ينظر لهذا االكون بنحو مختلف بل ويحيا حياة مغايرة، في مجتمع القرية حيث يكون كل فرد فيها ذا صلة قربي فلا أحد ينادى الاخر إلا ومسبوقا إسمه بعبارة توحى بقدر من الإحترام والتبجيل . يعقد الصبية جلسات السمر البرئ في (جلدو)، إلي ما بعد منتصف الليل سيما في الليالي المقمرة، التي تكسب حتى ظلال الأشجار رهبة خاصة، فما أعظم هذا القمر يمدنا بالضياء والصفاء ...وعجبى لاطفال المدن وهل لهم قمر يشبه القمر في جلدو.....البروف قاسم يروى قصة حياته في سفر جميل، عبارته جزلة، جمله قصيرة بسيطة، وهو يسترجع ذكريات القرية والتى لا تؤرخ إلا بالمناسبات والأحداث، فالقرية ليست مهمومة بضغوط الحياة، ولا يسود بين أهلها الهلع والطمع، فالطبيعة حولها توفر ما يكفى ويزيد، والجبراكة خلف البيت تمثل شريانا سريعا لتوفير القوت ومواد الغذاء خلال فترة الندرة في فترة f بعد الخريف إذ الحصاد لم يدن بعد. الترحال من جلدو إلي زالنجى الأولية للدراسة مغامرة تثير الدهشة ولعل الأكثر إثارة كانت المدرسة الصغرى أو المجلسية ومعها تعلم العربية ومهارات الكتابة، نعم كانت حلقات القران الليلية علي ضوء نار الحطب أمرا جاذبا ولكن سياط الشيخ أحيانا تضفي عليها شيئا من الرعب، الشيخ كان أقوى شخص في ذهن الصغار، فهو الذى يامر فيطاع ويطلب فيجاب، فهو يؤدى رسالة لا يفهما الصبية جيدا، والأهم لا أحد يعلم في تلك السن، اللغة التى كان يتلو بها القران.والمشقة تبلغ مبلغها لقرءة سورة (المسد). منطلق الرحلة علي ظهر دابة لصبيين هما أبو القاسم سيف الدين ( البروفيسور الجهبذ لاحقا) والأستاذ المربي المغفور له محمد سعيد عبد الله ( ولا عجب فقد صار أحد أشهر معلمى اللغة العربية فيما بعد )، نبغا في قرية جلدو وأريد لهما مواصلة التعليم في المدينة التى لم يتصورها أى منهما أبدا، لتبدأ مرحلة جديدة في حياتهما في المجتمع الجديد، الناس والأشياء، كل شى حولهما يلفت الإنتباه، سوق المدينة خاصة يومى الخميس والإثنين، حين يفد القرويون المجاورون محملين بشتى صنوف البضائع ويعودون بما يحتاجونه من سوق زالنجى، لم يفارقهما شعور التوهان وسط الزحمة (lost in the crowd). مدرسة زالنجى الأولية ذات الراسين، كانت خطوة عملاقة في رحلة الصبيين القادمين من جلدو، مدرسة مبانيها بالطوب الأحمر، بميادين وفصول وداخليات متنوعة، علي مرمى حجر من مكتب ومنزل مفتش المركز، وشارع طويل ترابى يجه شرقا حتى مركز الشرطة، والتى كان مجئ أحد أفرادها للقرية نذير شؤم يثير أكثر من سؤال، ولكن لا أحد يجيب. كان المعلمون في المدرسة نموذجا فريدا، يؤمنون برسالتهم ويقدمون الأمثلة لمجتمع المدينة في سلوكهم، وبكل تأكيد كانوا خير أسوة لتلاميذهم والذين تفاوتت أعمارهم بشكل واضح وتراوحت بين السادسة والعشرين من العمر، وقد تصادف أن أحد التلاميذ قد زامل أباه في المدرسة بل تقدمه في الصف. ينتقل البروف أحيانا عائدا ملتاعا بذهنه إلي جلدو متذكرا قريته وقد غلبه الشوق إليها ويحن لشلالات المياه والقفز بين صخور الجبل والإختباء بين البساتين يركض جذلا، وهو يلتهم مما جادت به تلك الجناين، يجتر ذكرى رفاق الصبا ممن تركهم وهم يستمتعون بكرنفالات الفرح التى أعقبت مواسم الخصب والخير الوفير في جبل مرة. القرويون هناك لا تغليهم الحيلة في خلقها للترويح عن أنفسهم فكل مناسبة تستحق البهجة والسرور، لذلك كان بناء قطية أو ميلاد طفل دعك من مناسبات ختان الأولاد أو الزواج أو عودة غائب كل هذه وغيرها مناسبات تعد لها الولائم ويدعى لها الناس للابتهاج وتناول ما يعد من أطعمة وشراب.فما بالكم بمناسبات من وحى خيالهم مثل (كيف خرفنا)، ولا عجب فعندما تبرز حبات الذرة في القناديل فلا أحد يجرؤ علي الأقتراب منها إلا بعد أنقضاء الإحتفال بها. يعرج أبو القاسم مستذكرا بعض الأحاجى والأساطير والروايات حول أصول الفور وعلاقتهم بالحضارة النيلية الفرعونية ويورد بعض ما قيل عن شعوب (التورا) وعلاقتها بصحائف النبى موسي عليه السلام ومقابر التورا في جبل مرة والأثار الموجودة و منطقة ( اورى) في (جبل سي) وبقاع أخرى في شمال دارفور. وهنا يهتم الكاتب ويحاول تفسير بعض رموز الحضارة الفرعونية وقراءتها بلغة الفور ويميل إلي ترجيح الربط بين الإثنتين. تتواصل مسيرة حياة البروف ولا يزال يرويها في نسق روائى شيق منتقلا إلي الدلنج الأميرية الريفية الوسطى بكردفان بعد أن حالت الأحوال المادية دون اللحاق بمدرسة الفاشر الأهلية وهى مدرسة أنشاها الخيرون من موسرى المدينة، وكانت تفرض رسوما مادية علي الطلاب. وسوء حظ البروف قذف به بعيدا عن دارفور، ولكنه لم يكن يدرك ما يخبئه له الغيب. مدرسة الدلنج الريفية...ذائعة الصيت في المنطقة بل إن مدينة الدلنج كانت أحدى أشهر مدن السودان لأنها كانت مقر معهد التربية والذي كان مسئولا عن تخريج وتدريب معلمى المدارس الأولية، ومعهد التربية بالدلنج وصنوه معهد التربية بخت الرضا لهما الفضل الأكبر في تخريج أبكار أجيال من المعلمين السودانيين ممن نالوا العلم من هذين المنهلين العظيمين، وهم دائما ما يفخرون بان المناهج التى درسوها وضعت في بخت الرضا وتم تجريبها، ومن ثم تم تعميمها علي بقية السودان...,أضيف من عندى أن المعلمين كانوا يستحضرون دائما إسمى المستر ( قريفث) والمستر (هودجكن) عندما يتعلق الأمر بمناهج التدريس، والأخير هو ادوارد هودجكن، والد البروفيسور ( إليزابث هودجكن) أستاذة التاريخ بجامعة الخرطوم مطلع السبعينيات من القرن الماضي كما أنها عملت بمنظمة العفوالدولية، وتم إختيارها لحضور محاكمة الرئيس صدام حسين بعد الغزو الأمريكي وعقب الجلسة الأولي تقدمت باستقالتها مبررة ذلك بأنها لن تلوث سيرتها بالتغطية علي جريمة دبرتها قوى دولية طامعة في النفط وليست باحثة عن العدالة كما تزعم. البروف (ليز) كما يحب طلابها أن ينادوها كانت تفاخر بان أمها (دوروثي هودجكن) هى أول واخر سيدة بريطانية حازت علي جائزة نوبل في الكيمياء.وأذكر أن (ليز) زارتنا في فرنسا بمدنة أورليانز يونيو2005م وأقمنا لها حفل استقبال بهمة عالية من الصديقين الفنانين هاشم ود كبوش وحاتم غانم رد الله غربتهما، وقد دعيت بعض الأسر الفرنسية في الجوار، و قدمت (ليز) لمخاطبة الحضور وإذغ بها تفاجئ الفرنسيين وهى تقول لهم بلغة فرنسية ذات لكنة إنجليزية بأنها عاشت فترة من عمرها ودرست بعض مراحلها بالسودان وأن كل صفة إيجابية في حياتها استمدتها من السودانيين وضربت مثلا بانها سافرت من الخرطوم إلي تمبكتو بمالي علي ظهر جمل وان دليلها السودانى لم يحدق النظر إليها طيلة مدة السفر وظل يخدمها بكل همة ولم يحدث أن أوى قبلها للفراش وعلي مسافة منها تحفظ خصوصية اى منهما. إنتقل البروف قاسم من الدلنج إلي خورطقت الثانوية.....الله الله من ذلك الإسم الفخيم (طقت) في أيامها الزواهر وينشد طلابها من كلمات شاعرها الفذ أبوذكرى: من نقطة فيحاء في افريقيا البلد العتيد من طقت الكبرى سأعكف معلنا هذا النشيد منها سأعلن للدنا للعالم الرحب المديد هذا النشيد الحلو رمزا للسلام والخلود انا عالم تنضم تحت لوائه كل البنود لا اعرف الحقد المرير أسوقه فوق الوجود من حاضري وفتوتي من وجه ماضي التليد سيقودني قلبي الفتي لابنتي الأمل الجديد.. يروى البروف فصول الدهشة في (طقت) المدرسة ، الأستاذ ، السكن، المطعم الميادين، قرى الداجو والدونكى والبوبايا وهناك هيئة العاملين وعم مدنى وعم عربان وعم جقران والعم خالد صول التوقيت بجرسه العتيق...( رحم الله الأحياء منهم ومن رحل وبارك في ذرياتهم ) كراسات الرسم وفصول الموسيقى والعزف في الهواء الطلق..كم هى ملهمة تلك المدرسة فقد كانت مع نديدتيها حنتوب ووادى سيدنا أعظم المدارس الثانوية في السودان. قصة طويلة متشابكة حلوة مثيرة ..إذ وجد العم ابو القاسم في طقت وفي مدينة الأبيض ( اب قبة فحل الديوم ) عالما اخر يموج بالحيوية والتنوع والأبداع...عالم يزرع الثقة والأمل والطموح. كتاب البروف أبو القاسم سفر ياخذ بلا جدال حيزا مهما في المكتبة السودانية، فهو ليس كتابا تقليديا يتعرض لملامح من حياة قبيلة الفور الإجتماعية فقط، إنما في حقيقته سطور تحوى الكثير من تفاصيل تعرجات الحياة في مسير الكاتب، وبذاكرة وقادة تسترجع التفاصيل الدقيقة لوقائع عدة، ولأشخاص ممن كان لهم الأثر القوى في دروب حياة الكاتب والتى أمتدت من جلدو الصغيرة إلي كلية الغابات في جامعة (إدنبره) مرورا بلندن وكانت يومها تميل شمس امبراطوريتها للغروب... ولعله من جميل الصدف أن البروف أنطلقت ذكرياته من محطة (كنجز كروس ) الشهيرة مثلما بدات قصة موسم الهجرة إلي الشمال للطيب صالح طيب الله ثراه. وأخيرا فإن معرفتي بالكاتب وبكل المناطق التى أوردها في كتابه وحتى بعض الأسماء الواردة فيه إضافة إلي جمال السرد جعلنى أكتشفها مرة أخرى. وشكرى لا ينقطع للكاتب علي إحيائه فضيلة التدوين التى أسقطها معظم من لعبوا دورا في حياتنا، لكنهم وللأسف الشديد أثروا الذهاب بما في صدروهم إلا قليل منهم، ولعل البروفيسور أبو القاسم سيف الدين سمين لايزال في كنانته الكثير كما أننا لن نمل الإنتظار ريثما يتحفنا بالجديد ودعواتنا له بموفور الصحة والتوفيق. اخر الكلام: أستمع إلي المرحوم خليل إسماعيل وهو يشدو برائعته ( لو شفت مرة جبل مرة ...إلي أن وصل ل.. يعاودك حنين طول السنين تتمنى تانى تشوفو مرة... ضحك ووقع علي قفاه وقال ..لو أبوك راجل كدة الليلة حاول أطلع الجبل دا السفير/ جعفر منرو الخرطوم12 سبتمبر 2016م [email protected]