الأرض هي روحك .. هي نصفك الآخر .. هي قطعة منك .. ما يربطك بها أقوى مما يربطك بالبشر من حولك .. قد تفرط في علاقة ما تجمعك بالبشر .. صداقة؛ حب؛ او حتى علاقة قربى.. لكن حتما لن تستطيع التفريط في شبر من أرضك.. لطالما رويت أراض بالدماء لنزاع طرفين عليها حينما يدعي كل منهما ملكيتها. آه .. ما سرك يا أيتها الأرض ليغرم بك أصحابك إلى هذا الحد.. (1) استوقفني وهو مشتت الذهن يتحدث معي وعيونه معلقة في مكان بعيد .. يمسح بنظره الأفق يمنة ويسرة كأنه يبحث عن شيئ اضاعه للحظة؛ عساه يجد عندي الدليل. - أسمع مكتب "حامد ممتاز" في العمارات وين؟ رمقته بنظرة ضيق من هذا السؤال؛ لكني ندمت عليها لاحقاً. - (لا ادري) .. هكذا أجبته وأنا أمضي في طريقي دون توقف .. لكنه مضى معي وسار إلى جواري وأخذ يهمهم ببعض الكلمات وعيونه لا زالت تمسح الافق البعيد. - قال لي تعال في مكتبي بالعمارات لكن الناس كتار ما خلوه يتم لي الوصف .. ثم يمسح رأسه بيده معتصرا كل معاني الحسرة والندم على الفرصة التي افلتها من يده قبل لحظات.. حتى هذه اللحظة كنت اظنه احد مدمني الوقوف على ابواب السلاطين لذلك لم اعر حديثه اي اهتمام. (2) شاب دون الأربعين إلا قليلا ولكن يبدو ان الدهر قد قسى عليه فبات يبدو كأنه يمشي فوق الخمسين.. أسمه "مرزوق".. جاء صدفة بجامعة النيلين فوجد جمهرة من الناس وحينما سأل علم أنها ندوة سياسية وبها احد مسؤولي الدولة او هكذا أعتقد .. فعزم ان يطرح عليه مظلمته.. فخفر مخرج الندوة حتى انتهت وخرج المتحدثين وبينهم المسؤول الذي ينتظره - حامد ممتاز - تمكن من الوصول اليه واخباره بالأمر ولكن لكثرة المتزاحمين حوله لم يتمكن من الظفر بكل ما يتمناه. وبما انني من بين الحاضرين للندوة وكنت خارج لتوي وهو كان قد اضاع فرصته لتوه ظن انه سيجد مبتغاه عندي.. فمثله كالغريق الذي يتمسك بالقشة. (3) سألته باستنكار - إن شاء الله حامد ممتاز بحل ليك مشكلتك. ضحك ضحكة من استبان السؤال فقال: والله كلامك صحي هو ما بحل مشكلة بس انا دايرو لي دليل. حينئذ بدأ شعوري يتغير نحوه ورغم استعجالي اوقفني الفضول لمعرفة حكاية هذا الرجل. - مشكلتك شنو انت ؟ أخذ نفس عميق وامسك بطرف يدي وبدأ يحكي.. عسى ولعل ان يجد من ياخذ بيده لاسترداد مظلمته.. عساه يجد من يشاركه حمل أرهقه كثيرا .. عساه يجد من يفهمه ويحسه.. - مشكلتي أرض نازعني فيها عمدة المنطقة واستحوز على اكثرها.. وووو.. - أين أرضك .. - في دارفور - وين في دارفور - في شمال دارفور .. - وين بالتحديد؟ اوصفها لي فعلمتها.. - كم مساحة الأرض ؟ وحينما لم يجد مقياس لتحديدها قال لي : الأرض كبيرة خلااااص تمشي فيها بالتاتشر ساعتين. اخذني الرجل على جنب واخرج لي من حقيبته اختام نحاسية تعود إلى عهد الاستعمار قال ان الإنجليز منحوها لجدوده تاكيدا لملكيتهم للأرض.. وأنهم ظلوا يستصلحونها لسنوات طويلةّ.. وحينما تساقط جدوده .. طمع العمدة في الأرض وظن ان الأجيال الجديدة التي آلت إليهم لا يدركون قيمتها كما لا يعلمون حدودها.. وضع العمدة يده على اكثرها ومنحها لآخرين يزرعونها وفق نظام عرفي يحصل بموجبه العمدة على الكثير من المزروع دون كد ولا جهد. ترك مرزوق عبد الله؛ مستقبله وحياته وعاد إلى أرض أجداده .. منحه إخوته توكيلا لمنازعة العمدة حتى استراد الأرض المسلوبة.. وبدأ رحلة البحث عن الحق .. ابتداءً من الجوديات ومحاكم الإدارة الأهلية التي لم تنصفه لجهة ان العمدة هنا يمثل دور الجلاد والحكم. طرق باب السلطات الرسمية بالولاية فاستسمحه الوالي بلطف أن يعفيه من هذه المهمة لأسباب بدت لي وجهية لكن ما هو غير وجيه ان يتركه هكذا دون إعانة. خرج مرزوق من لقاء والي شمال دارفور بخفي حنين .. مشتت الأفكار .. من سيجد عنده الإنصاف بعد هذا يا ترى .. يكاد لا يستقر على حال ولكنه حزم خيبته وذهب. (4) إلى القصر الرئاسي .. نعم لم يتبق له غير الجالسين في القصر؛ يجب مقابلتهم وعرض مظلمته عندهم فينظر ماذا هم فاعلون .. وحين وصل مرزوق إلى مقصده عقب خروجه من لقاء الوالي كان تفكيره قد دلاه على أحد من يعرفهم وتربطهم علاقة ما بمن يمت لنائب رئس الجمهورية حسبو عبد الرحمن بصلة قربى. اتصل مرزوق على من يعرفه واتصل من يعرفه بمن يمت لنائب الرئيس بصلة.. وهذا الأخير تعهد بإيصال مرزوق لنائب الرئيس.. كان ذلك قبيل عيد الأضحى بأيام والحجاج يعيشون انضر ايام الصفاء الروحي وهم في شعائرهم هائمون.. كان نائب الريس من بينهم .. وكان على "مرزوق" ان يستعد لمقابلته في الخرطوم حين عودته التي ستكون بعد العيد بأيام.. هكذا ضرب له الموعد. (5) تمضي الأيام والناس تسابق بعضها هربا من الخرطوم باتجاه الولايات حيث العيد مع الأهل.. كان "مرزوق" قد حزم حقيبته وألقى تحية العيد على أهله مقدما ثم يمم وجهته شطر الخرطوم. دخلها قبيل القروب بساعات من يوم (الوقفة) فوجدها كأن الناس قد هجروها .. طرقاتها المكتظة دائما اضحت خالية .. لا ضوضاء ولا زحام .. الناس قد ذهبوا إلى دفء الأهل في هذه الأيام وانت يا "مرزوق" آتي إلى وحشة الغربة.. لكنها الأرض لو احتاجت دمائك لرويتها بها فهل تغلى عليها بضعة أيام من الوحشة والوحدة. (6) انقضى العيد وعاد الحجاج وكان نائب الرئيس قد سبقهم في العودة.. ورغم ان "مرزوق" قد أعلن الطوارئ منذ أيام حيث كثف الإتصالات بمن يعرفه.. ومن يعرفه كثف بدوره الإتصال بمن تربطه صلة قربى بنائب الرئيس.. لكن الاخير فشل في الإيفاء فتبدد حلم "مرزوق". لم يكن امام "مرزوق" إلا ان يمدد إقامته في الخرطوم فلا يمكن ان يعود وليس بيده حلا لمشكلة أرضه.. وهكذا ظل في كل صباح يحمل حقيبته وبداخلها كل ما يثبت ملكيته للأرض.. وآماله معلقة على من يسهل له طريق الوصول إلى القصر الرئاسي. أحمد حمدان [email protected]