في ذلك الصباح البعيد، من أوائل شهر مارس، غادر حسن الماحي البيت إذن، متوجها إلى العمل كسائق في مؤسسة التعاون التجاري لما وراء البحار السبعة، من دون أية إيماءة وداعية، وقد ضاق أيما ضيق بدفع زوجته شامة الجعيلة اليومي له نحو الهرب، إلى مدينة بعيدة تُدعى نيالا، حيث ثمة موته المتوقع، الذي نادت به أمّه خلال لحظات الغضب، وهو لا يزال ذلك الطفل العابث الصغير، ولم يكن هناك يومها، وحتى الأمس القريب، ما قد يدعوه، من واقع معيشته المعتادة الرتيبة المتوارثة منذ عشرات العقود، لرؤية تلك المدينة الواقعة عند أقصى الحافة الغربية للعالم. وقد حدث ذلك دائما، على الرغم من تحذيراته هو المتكررة على مسامعها، من خطر وجود ثعالب طائرة، على امتداد الطريق إلى نيالا، لا شغلة لديها، في هذا الكون الفسيح برمته، وهي تسنّ أسنانها عادة على الصخر تشذيبا وصقلا، سوى قطف رأس أقرب مسافر، وضعه القدر، أو ربما حظُّه السيئ العاثر، على طول تلك الطريق الصحراويّة الجدباء الخالية الموحشة والفارغة، مثل توقعاتِ قلبٍ خاب للتو في عشق. ما أن صفق حسن الماحي باب الحوش وراءه، في اللحظة نفسها التي خرجت فيها العصافير شادية من جوف ساعة قديمة معلّقة على حائط الفرندة المحمية بالنملي الناعم من هجمات البعوض ليلا، حتى رآه وهو يقف على ما بدا في انتظاره هو حسن الماحي شخصيا على الجانب الآخر من الطريق، عاقدا ذراعيه فوق صدره كملك العالم على العملات الورقية، مستندا على احدى تلك السيارات السوداء المتشابهة ذات الدفع الرباعي، ناظرا مباشرة إليه. وحدث أمر غريب وقتها. كان ثمة قوة جذب مغناطسيّة لا تقاوم، ظلّت تصدر عن عيني ذلك الرجل، الذي بدا بالضبط من وقفته، على ذلك النحو، كما لو أنّه جاء إلى الحياة الدنيا خصيصا لاعتقال حسن الماحي. قوة أشبه بالسحر. فاعلة محسوسة وغير منظورة. ظلت تشد حسن الماحي عبر نهر الشارع الصغير المترب، حتى شعر كما لو أنّه سمكة علقت بصنارة. ولما صار بين حسن الماحي والرجل خطوة، ابتسم الأخير، أما حسن الماحي فقد انحرف بنعومة قليلا، وقام بفتح أحد أبواب العربة الخلفية، من دون أن ينبس بكلمة واحدة، حيث جلس هناك في الداخل، واضعا طوعيا عصابة سوداء على عينيه كان أحدهم قد وضعها على المقعد المجاور، وقد بدا حسن الماحي في جلسته تلك على نحو عام مثل سجين ينتظر بيأسٍ مُشلٍّ عصا الجلاد لتقع بدقة على منتصف رأسه، مجردا تماما حتى عن سلطة ذاته الطبيعية على ذاته. لقد علق حسن الماحي وباختصار في حبائل شبكة، نسجها عنكبوت ذو ظهر أحمر سام وقاتل، محكمة، غير مرئية، أما قبضتها، فكأسنان معصرة، لا فكاك منها. ثم خطفا تراءى في سماء ذاكرته طيف ابنته سماح، أما رجاء شامة الجعيلة المتكرر صباح مساء بالسفر إلى نيالا، فقد بدا له وثمة أسى ناشف أخذ يسيل أسفل العصابة على عينيه كصيحة تحذير فات أوان سماعها، وذاك الغاضب في عهد طفولته السعيد كنبوءة بالهلاك فصوت أمّه: "إن شاء الله تموت في نيالا، يا كلب". هناك، بين جدران الزنزانة، وقد ابتعد وقع الأحذية العسكرية الثقيلة، التي استقبلته عند بوابة السجن، والتي ألقت به بعدها على أرضية السمنت المتسخة العارية مثل أي جوال من القش، قام بفك تلك العصابة السوداء على عينيه، وكان الصمت طوال ساعات النهار أكثر ثقلا من وطأة جبال العاديات على قدم. لم يقدم إليه طوال يومه ذاك داخل المعتقل طعما أو شرابا، لم يحدث معه أي تحقيق، ولم يسمع حسن الماحي بعد مغيب شمس يومه ذاك نفسه سوى صفير الريح وأصوات الجن الهامسة، ولا يدري حسن الماحي على وجه الدقة لِمَ أخذت تعاوده على حين غرة، ومن دون غيرها، ذكرى المزاج النزق لعمّال شارات المرور، وفكر "يموت السائق وفي نفسه حسرة من تلك". لما انتصف الليل، بدا كما لو أن الحياة أخذت تدب، على حين غرة، في الزنزانة المجاورة، وكان القمر مكتملا وراء نافذة القضبان الصغيرة قرب السقف البعيد، عندما أخذ نحيب رجل يتناهى من تلك الزنزانة، شاكيا بوضوح من سرقة آلة الكمان من البطين الأيسر لقلبه حين كان في التاسعة. هنا، هنا فقط، أحسّ حسن الماحي لأول مرة بفداحة ما هو مقبل عليه. قال في نفسه "لا تنصت إليه ثانية، يا حسن. لقد لحس التعذيب مخه. والكآبة تعدي"! لا بد أن أشياء تتسم بالرهبة وتصعب على الوصف حدثت لحسن الماحي، في أثناء سنوات الاعتقال تلك، لأنّه كان معنيا خلال سنوات حكم القرد الذي فك أسره لسبب من الأسباب، ومصمما حتى النهاية وبأكثر حتى من العودة لرؤية ابنته سماح وزوجته شامة الجعيلة ثانية، بمطاردة وتتبع أثر جلاد قام باقتلاع ومصادرة مخه واخفائه، في طيّات جدران قبو سريّ، لا يعلم مكانه إلا هو. [email protected]