ذهب رئيس آخر، وقد بدا الأمر بالنسبة لأولئك الذين وطنوا أنفسهم ربما منذ الميلاد على العيش في ظلّ الكارثة، كما لو أن البرق حط برحاله خطفا، على قمة الأرض، ورحل. وهذا ولا مراء ما يدعو في عرف هؤلاء وهم كُثر للحزن، أو الأسى، أو الحيرة، أو حتى للقلق، فكما جرت عادة حيواتهم الرتيبة الخانعة المفخخة بالرعب والضياع في أية لحظة، لا يعقب الكوارث سوى ما هو أشد نكالا وأعنف بأسا منها، وذلك بالضبط ما حدث. إذ جيء برئيس آخر، مختلف تماما، وقد انحدر، هذه المرة، يا للغرابة، من سلالة قرود المانجا، تلك المستوطنة في غابة الطلح الممتدة غربا بمحاذاة نهر صالحين ذي المياه الفوّارة العكرة، وسيبقى قائما على سدة الحكم هناك، ناهيا وآمرا، كما تمّ تداول الأمر سرا، إلى حين تصفية الخلافات القائمة داخل النظام وقتها، ما بين مختلف مراكز القوى. وكانت فترة حكم الرئيس السابق تلك جدُّ قصيرة، مقارنة بسلفه واهب البسمة وصانع البهجة وموزّع نكات السعادة على الشعب يمنة ويسرة، إلى درجة أن غندور الجمر غريق أحزانه وجد صعوبة بالغة لاحقا في تذكر ملامحه، وبالتحديد عند سقوط دولة القرد الممتدة نسبيا. وكان غندور الجمر، وإن افتقر للحماس اللازم تجاه التغيير الذي تزامن وقتها مع هجرانه لعلوية التركية وطفل الشيطان اللعين ذاك: حمو، إلا أنّه بدا مستبشرا خيرا بمقدم ذلك الرئيس ذي الملامح الهادئة الوادعة والطيبة، كدعوة والدته حليمة الأنصارية له في تلك الأيام بالتوفيق والسداد والبعد عن دروب أولاد الحرام، خاصة بعد أن طالع صورة له في صحيفة "الغد المشرق"، وهو يفتتح نهر العسل المكتشف حديثا وقتها ناحية سواكن، في شرقي البلاد. على أي حال، شهدت فترة الرئيس العابر تلك مساجلات بدت في أحيان كثيرة كما لو أنها خارجة للتو من رأس شيطان مسطول. خاصة وأن تلك المساجلات كانت تستهدف ذلك النفر من صانعي المشاكل من العامة ممن فهموا في الأيام الأولى للثورة على حكم الرئيس موزع النكات أن الحرية هي أن تفعل حرفيا ما تراه أنت مناسبا. كأن تقف أنت عاريا في ميدان عام قريبا من القصر الجمهوري وتقوم بتوجيه السباب إلى الرئيس الأمريكي نفسه. أو ترى بضرورة أن يستضيف رئيس البلاد خاصة في الأعياد وأيام الجمعة المباركة المئات من أفراد الشعب، ممن يواجهون عسرا في الحصول على طعام، على مائدة الغذاء الخاصة بسيادته. لقد كان من المتعذر تماما تجنب احتواء مثل تلك السجالات والثورة طازجة، والحماس في عنفوانه، لا يزال. وحدث أن التلفزيون تبنى على غير المعتاد تلك المساجلة. وكان غندور الجمر ينصت بكلياته بين جدران غرفة الفندق، في أيام وحدته تلك، والجو الخانق مشبع برائحة خمر بلدية تدعى "العرقي"، درج غندور الجمر على جلبها بعد أداء صلاة العشاء، متخفيّا بالظلام وتغيير مشيته المعتادة وتبديل نبرات صوته في أثناء رد تحية الغرباء العابرة على الطريق، من قاع أكثر أحياء المدينة فقرا وسوء سمعة، وخلال المشي ذاك، تتضاءل مع كل خطوة جبالُ مأساة ما آل إليه حبّه العظيم لعلوية المحكوم بالموت منذ حتى ما قبل ميلادهما. وقال أحدهم أنتم تدعون هذا الشعب الكريم الأبي لحضور مائدة الرئيس في القصر من باب العدل. وهذا في تصوري الشخصي يمثّل قمة الحرية ولكنها حرية مهددة بالزوال وهي تقف وفق هذا النحو على شفا جرف هار. إذ تقررون ذلك على الأرجح من دون إيلاء العناية الكافية لتلك الملاحظات، والتي قد تفيد بوجود جماعة من اللصوص في صفوف العامة، قد يقومون خلسة بسرقة تلك "الفوط"، التي درج الوجهاء على وضعها على حجرهم، في أثناء الوجبات تجنبا لما قد يحدثه "فتات" الأكل المتساقط خلال الرحلة من المائدة إلى الفم، على ثيابهم الأنيقة. هزّ غندور الجمر رأسه كالمتفهم. ورأى محللون على درجة من الألمعية في أثناء حديثهم وقتها إلى التلفزيون عبر الهاتف أن تلك الحجج "لا تستند في مجمل التحليل على حقائق واقعية أو أساس من الصحة". ذلك أنه يمكن الاستغناء عن "الفوط" خلال تلك "الأكلات" تماما لعدة أسباب "أهمها" أن أولئك البؤساء لا يدعون "أصلا" لأدنى "فتات" يسقط من أفواههم لأنهم دائما "ينظرون إلى ما أمامهم من أكل ومهما كان نوعه كآخر وجبة طعام لهم في هذا العالم"، ناهيك عن كون تلك الوجبات تدخل "في إطار مصطلح الوجبات الرئاسية"، كما أن الرئيس نفسه ومعاونيه يظلون وقتها واقفين، وهم ينظرون من دون حول ولا قوة، إلى ما ظلّ يحدث في قعر دارهم من دون أن يمتلكوا حياله شيئا. مع ذلك، انصب جام غضب المظاهرات العفوية، التي نشبت صبيحة اليوم الذي أعقب المساجلة، على أولئك النفر من لصوص الفوط المحتملين، الذين بدوا كعقبة كؤود تقف بين العامة وحضور مائدة الرئيس. وقد تساءلت سماح وقتها بدهشة بنت في نحو العاشرة مخاطبة شامة الجعيلة وهي ترى مشاعر الغضب المحتدمة تلك على وجوه أولئك المتظاهرين، قائلة: "ولكن من هم أولئك اللصوص، يا أمّي؟". شامة الجعيلة، التزمت الصمت، ولم يعد منذ أمد بعيد يهمها شيء من أمر هذا العالم، سوى الهروب إلى نيالا، خاصة بعد اختفاء زوجها الغامض حسن الماحي، وفي ظلّ تناقص مدخراتها المالية القليلة، والتي إذا ما تناقصت أكثر، فقد لا يتبقى أمامها سوى بيع خاتم الزواج والسلسلة الذهبيين وأساور الفضة، وربما يرغب أحدهم في شراء ساعة الحائط، التي تخرج العصافير شادية من داخلها على رأس كل ساعة. ولما تكرر السؤال، قالت شامة الجعيلة وهي تجيبها باقتضاب مخندق بالفتور: "اللصوص هم اللصوص، يا سماح". كان جدول عمل الرئيس العابر ذاك ينطوي على العديد من الحيل الجماعية المتقنة. والأهم ليس أن ينخدع الشعب المسكون بروح الثورة وحده بتلك الحيل، بل كذلك أُعد الأمر على نحو ينطلي على الرئيس نفسه، حتى لا يفسد بعقليته الحالمة تلك كل شيء ويضيع الجهد. ومن ذلك أنه، وتحت تغطية كثيفة من الاعلام، كان يتفقد الجماهير في منطقة تشابه مدينة واقعية، ذلك أن مجريات ما بعد قيام الثورة الأخيرة، التي سبقت حكم القرد مباشرة، قد كشفت أن للنظام مدن سرية تشبه المدن التي يراها التلاميذ بخيالهم، في أثناء حصتي الجغرافيا والتاريخ. كان يُدفع إلى تلك المدن بالكثير من رجال أمن النظام البائد وأسرهم الذين تجاوز عددهم ثلث المجموع الكليّ لقاطني أكبر مدن البلاد قاطبة ليلا ليستقبلوا الرئيس في الصباح كسكان أصليين على وجوههم آثار النعمة وبهاء السرور. حتى أن بعضهم لا يني يهتف بملء حلقه "الله. الرئيس. وبس". وكان الرئيس لعدله يتجول بينهم دونَ حراسة إلى الدرجة التي كان يجلس معها على الأرض بين عمال الميناء بهيئاتهم النظيفة وأحذيتهم العسكرية السوداء اللامعة. ولأن الرئيس ظلّ يُذكِّر شعبه دائما بأفضال الحرية وما تخلقه من وضع حسن ما بين الحاكم والمحكوم، وهو الشهير بحب السيجار الكوبي الفخم، فقد كان هؤلاء العمال المزيفون يقدمون له سيجارا ثم يوقدونه له بقداحاتهم الماسية، وقد أعطوا الانطباع أنهم يقدمون بذلك صورة جذابة للعالم في الداخل تعكس مدى حجم الرفاهية، التي وصلت إليها البلاد في ظل حكومة السيد "الرئيس الديمقراطي"، وتقوم كذلك بتبشير مدن البلاد الأخرى، بالوضع الذي ستكون عليه مستقبلا، لحظة أن يحين دورها على جدول تحقيق الرفاهية. وكان لتلك المدن الوهمية أهداف أخرى خارجية متمثلة في استخدام سلاح الغيرة لزعزعة استقرار ما أسمته الصحيفة الوحيدة في البلاد "البلدان الأخرى المعادية". إذ لا بد أن يثور عمال المدن الساحلية في تلك البلدان حين تنقل إليهم أجهزة التلفزة مشاهد من داخل ميناء البلاد تصوِّر عمالا بوجوه سعيدة حول مائدة رئاسية لا يرغب من شدة التخمة في ديكها الرومي أحد. بعد أن فقد زوجته وولده، ليهرب بجلده، حار غندور الجمر، بعد مضي بعض الوقت، في معنى وجوده النهاري كتاجر مثقل بالحزن وغم التخلي عن شيء غال ونفيس لا يقدر بثمن كالحبّ، وفي معنى وجوده الليلي حبيسا بين جدران غرفة عند مدخل بهو فندق "السعادة"، مواجهة لمكتب الاستقبال الصغير، لا يُزار ولا يزور. ولا يكاد ينقطع عن شرب خمر بلدية تدعى "العرقي"، محاطا بالذكريات والقهر والحنين إلى ما لا يمكن مصالحته، غارقا فيما بدا ندما من دون مركز، فما أن يركز على شيء، حتى يجتذبه شيء آخر، ليزيد من مساحة التمزق في داخله، وقد استهلك مخزون ذكرياته، الذي توقف بعد ولادة حمو عن النمو، محاولا الوصول، في الأخير، ودائما على نحو غامض ومبهم، إلى مغزى رحلة حياة الإنسان القصيرة الموسومة بالكوارث والأسى، من دون جدوى. ولما سمع غندور الجمر هتاف الثورة، على الرئيس العابر هذه المرة، كان لا يزال حبيس جدران غرفة الفندق يستعد للذهاب بمليون سبب للتردد والتقاعس إلى دكانه في السوق الصغير، والذي أخذت محتويات رفوفه الداخلية تتضاءل، ولم تعد البضاعة تمتد من أمام عتبة بابه إلى الخارج، شأن تلك الأيام. قال إذ ذاك في نفسه وهو يسمع صوت لغط يتناهى من البهو القريب وأقدام تتراكض في غير اتجاه وصراخ هادر في الخارج لا مصدر محدد له "ذهب الملك. جاء الملك". ومن بين ستارة الدموع الخفيفة، التي أخذت تغطي عينيه في عتمة الغرفة الضيقة، أخذ يتذكر ولا يدري لماذا أن خاله حسين كان يهمس في تلك الأيام، داعيا الله أن تدركه نكات الرئيس الهالك ذاك في البيت لا في مكان عام. لكن حظّ الخال الأكثر سوءا فيمن عرف ابن الأخت من بين حظوظ أفراد العائلة الأخرى كان يقوده دائما إلى سماع نكات الرئيس المباغتة في مكان عام. وعلى أية حال، لا شيء هناك قد يدعو للخجل، إذا ما تمعنا المسألة بعيدا عن إحساس غندور الجمر المرضي بالعار ونزعة تضخيم ما هو خاص وشخصي لديه، فقد وُصِفت نكات الرئيس تلك، كخطوة عبقرية، "في واقع ذي أحزان قدرية"، وقد نمت في موازاة ذلك الكثير من الدراسات الأكاديمية الرصينة والأبحاث العلمية الدقيقة، على مستوى المعاهد العليا والجامعات، مثل "المظاهر الصحية لجرثومة السعادة- بحث نظري وتطبيقي في كون الضحك عدوى حميدة- نكات السيد رئيس الجمهورية الفذ نموذجا". ثم تتضاءل صيحات الثوار في الخارج أكثر فأكثر. ليتصاعد صراخ الذعر الممتزج بالرائحة الكثيفة الحارقة لمسيّل الدموع. والآن، لا يرغب غندور الجمر بعد في الذهاب لفتح الدكان. هكذا، متوجسا من تصاعد الخطر خارج جدران غرفته، وعلى صوت ارتطام الذكريات الصامت المكتوم، يتسلل النعاس حثيثا إلى عينيه، والجراح القديمة لا توقظ. كان الخوف المرضي دفع بالخال حسين في ذلك اليوم إلى ارتداء ملابس نسائية قام بشرائها ضمن أمتعة أخرى خلال فترة تلك الخطوبة تمهيدا لبدء طقوس زيجة لم يُكتب لها النجاح بعد أن سألته العروس المزمعة أخيرا في أعقاب صمت امتد طوال زياراته الأسبوعية المتعاقبة إلى بيت أهلها عن الكيفية التي خرج بها رأسه "الكبير" من بطن أمّه وقد أدرك لحظتها وبجلاء ذلك الوضوح الحزين أن الجمال الخارق لخطيبته يخفي في طيّات صمته ما قد لا تُحتمل معايشته من أصناف القبح فخلع مصدوما وقد صار بيت الحبشيات منذ ذلك الحين مستودع فورانه ومصبّ أحزانه والعزاء. إلا أنّ الخال احتفظ بتلك الملابس النسائيّة على سبيل التضليل حتى لا يركبه كما زعم هو شخصيا ذلك النوع من الجنّ الذي لا يطيب له سوى غشيان بيت يخلو في العادة من سيدة. وفي ذلك الصباح، ارتدى بعض تلك الثياب النسائية متنكرا، والخوف غلّاب. حلق شاربيه وذقنه جيدا. وقد ظنّ أنّه صار بذلك بمنجا وملجأ آمن من نكات السيد رئيس البلاد المفدى. هكذا، حمل القفة وذهب إلى سوق الخضار واللحوم كسيدة. وعندما مد يده ليعطي الجزار نقوده، قال الراديو "السيد الرئيس يلقي الآن على شعبه الطيب نكتة'. عندها ضحك الخال بأدب. أي مثل أي مواطنة عادية. ثم غفل راجعا إلى البيت في أمان الله. وفجأة، ومن حيث لا يعلم، توقفت أمامه عربة قاطعة عليه الطريق بعنف. وانتهر السائق ما بدا للعيان سيدة في يدها قفة بذلك الصوت الجهوري المدجج بعماء السلطة والمذيب لمفاصل الحديد، قائلا "إنت. يا النعامة دا. يا الاسمك حسين. يا سجم. لماذا لم تضحك زي زمان"؟ الخال حسين في التو واللحظة انفجر ضاحكا بأثر رجعي، وقد رمى القفة بمحتوياتها التي تناثرت في غير اتجاه، ناسيا تماما أنّه كان قد خرج إلى السوق متنكرا في ثياب امرأة. ومع ذلك، صرخ سائق العربة، الذي يمكن أن يكون بأي رتبة عسكرية لعينة، مخاطبا الخال الغارق لا يزال في الضحك بأثر رجعي، قائلا "الكلام دا هنا (ياحسين) ما بينفع لازم ترجع سوق الخضار وتضحك هناك، من مصارينك". عبدالحميد البرنس [email protected]