غادرت الداية القانونية أم سدير عربة أجرة قديمة متهالكة أمام بيت التاجر غندور الجمر. وفي يدها عدة الشغل. شنطة حديد صغيرة بمقبض وأقفال جانبية من الألمنيوم. كانت زوجة التاجر علوية التركية، وقد كسرت مياهها منذ نحو الساعة، تغالب أوجاع الطلق في حجرة داخلية، بمعونة محاطة بما بدا شفقة مبالغ فيها من جارتها شامة الجعيلة، التي أعدت قبيل وصول الداية قدر المياه الدافئة وطست النحاس الصغير الجديد وبعض الفوط الصحيّة، وقد قامت قبل كل ذلك بنثر حفنة رمل جلبتها هي بنفسها منذ نحو الشهر من ضريح الشيخ الطيب حول سرير المرأة الحامل، قائلة في الأثناء "بركة وفزعة". وكانت علوية التركية كما يقال "بكريّة". أي أنّها على وشك أن تضع المولود الأول لها. ما إن وقع بصر شامة الجعيلة على شبح الداية، وهي تتخطى العتبة المرتفعة قليلا للغرفة، حتى سارعت إليها، وأخذت تهمس في أذنها، قائلة: "إنها تعاني، يا أم سدير". غسلت الداية يديها قبالة سرير المرأة الحامل. مسحتهما بزيت طعام. قالت عبارات مطمئنة. ثم بدأت تفحص المرأة المتوجعة. لم تمر سوى دقيقة، لتدرك أنها بالفعل أمام إحدى تلك الولادات العسيرة. وقد تأكد لها أن فتحة عنق الرحم لا تكاد تتجاوز العشرة سنتميترات. قالت تخاطب علوية "الله المستعان، يا بنتي. كل شيء يهون". بعد مرور نحو الساعتين، ومع محاولات الداية المتكررة، ظلّ وضع الجنين المستعرض محل عناية الداية الأول والأخير، وقد بلغ الألم بالأم مداه، قالت الداية "الأمر لله من قبل ومن بعد"، نافضة بذلك يديها، ومسلّمة على نحو ما بالهزيمة. هكذا، خرجت إلى الحوش، لمقابلة غندور الذي ظلّ يراوح غير بعيد من باب الغرفة كبندول ساعة، حيث أوضحت الداية له أبعاد الموقف على عجل، طالبة منه أن يذهب بزوجته حالا إلى المستشفى. فكر غندور في الأثناء وهو يرمق السماء الجرداء خطفا "ما خشيت منه وقع". وكان غندور فرض حصارا ضاربا على حدث الولادة منذ الأيام الأولى للحمل تجنبا للحسد. ولم تنجب له زيجاته السابقة على مدى العقدين سوى قبض الريح. ثم رأت أم سدير ظهره، وقد عارض مقترحها ذاك، قائلا إنه ليس من المروة أن يعرض رجل زوجته على رجل غريب يحمل حتى "رتبة أخصائي نسوان وتوليد". لما عادت الداية أخيرا إلى الغرفة، قالت تخاطب شامة الجعيلة "المهم"، كتعبير عن لا جدوى التعليق على الطريقة التي يفكر بها "عادة" كما تقول "رجال هذه المدينة". عند حلول الغسق، استحالت آلام الطلق إلى أنين خافت كظيم. والظلام يتكاثف وراء نوافذ الغرفة المشرعة، ويزداد ضراوة وكثافة، واصلت المرأتان تطلعهما إلى المرأة الحبلى، كمن ينتظر وقوع معجزة، قد تنهي ما بدأ يتحول إلى كابوس، في أية لحظة. وقد أيقنتا وآذان فجر اليوم التالي يرتفع من غير مكان أن عملهن قد لا يتجاوز كثيرا الدعاء أو على الأرجح القيام بعمل كمادات ملطفة. ولما كاد قلب شامة الجعيلة أن يذوب بحلول الشروق حزنا على وضع جارتها، التي بدا كما لو أنّها تحتضر، رأت الداية أم سدير أن تشغل شامة بشيء آخر جرى التثبت من قوة فاعليته أثناء ولادات أخرى تمت على الجانب الآخر من المدينة، فطلبت منها أن تقوم بتعليق راية خضراء أعلى باب الحوش لتضليل ملاك الموت، بينما تتلو تلك الآية الكريمة من سورة يسن: "وجعلنا من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سدا، فأغشيناهم فهم لا يبصرون". وتابعت الداية كمن يكلم نفسه هذه المرة، قائلة: "لعل المعجزة تحدث، يا شامة". كانت أم سدير تحاول في الأثناء بالكاد إخفاء فرحتها لتوقف تفكيرها فيما اعتبرته أحيانا "كوابيس النوم تلك". وقد أجهدت نفسها منذ الظهور الأول للحلم في السعي بين مواقع مختلفة للتأويل. إلا أن الداية القانونية أم سدير أخذت بعد منتصف ظهيرة اليوم التالي تواجه بمشكلة لم تكن في الحسبان ما إن تذهب إلى المرحاض. أم سدير ردت المسألة للوهلة الأولى (ربما) إلى التعب وقلة النوم. لكن ما حدث تاليا جعلها تفهم على نحو غامض لماذا كانت تنقب في جحر أثناء ذلك الحلم. ربما لذلك شرعت تفكر على نحو لا يخلو كذلك من غموض في أيام الصوم والصلاة القادمة لا محالة. وإن كانت أم سدير في قرارة نفسها لاتزال تحلم بالشق الثاني من تفسير الحلم المتمثل في عثورها على كنز ستره الخفاء منذ مائة عام. لاسيما وأنها قد أعدت نفسها جيدا وتخيلت ذلك في شكل حقيبة من الحديد ملأى بالذهب كان قد طمرها وزير مال الخليفة عبد الله التعايشي بعد هزيمته في موقعة كرري مباشرة. لقد كان الأمل متمكنا منها إلى الدرجة التي فكرت معها في الذهاب إلى بيت الله الحرام أكثر من مرة. بل قامت في خيالها حتى بزيارة ميدان العتبة في القاهرة لشراء وشاح ذهبي يلتف حول قبة الشيخ الطيب في العيدين الكبيرين على وجه الخصوص. إذ ذاك، وما إن تهيأت لقضاء حاجتها، ومن حيث لا تدري، بدأت تصطف أمامها في خط أفقي، مجموعة صغيرة من السحالي، التي أخذت تتابع النظر إلى الداية القانونية بعيون حزينة دامعة، لم تنفع محاولات رشقها بالماء في جعلها ترمش للحظة، ناهيك عن الدفع بها للهرب، أو حتى للتزحزح جانبا. الحال تلك، لم تجد الداية أمامها من مخرج، سوى القفز إلى خارج المرحاض، من دون أن تشرع فيما كانت بصدده، وقالت الداية القانونية ترد من بين أنفاسها اللاهثة على شامة الجعيلة وقد نسيتا على ما يبدو أمر المرأة الحامل "في مثل تلك الأحوال لا شيء يعوقني عن الجري بعيدا. حتى لو كان هناك جيش من الرجال ينتظر في الخارج". ويبدو أن شامة الجعيلة كانت تأخذ مسألة السحالي تلك على سبيل المزاح، إلى أن بدأ الخوف يدب في أوصالها، عندما صاحت أم سدير التي امتلأت مثانتها عن آخرها قبيل آذان المغرب، وأخذت تدق بقدميها على الأرض مثل طفلة، وهي تطلب منها مرافقتها إلى المرحاض، "الآن ودونما تأخير"، مع أن شامة الجعيلة لم تكن دائما تلك المرأة التي يمكن أن يعتمد عليها في وجود الخطر خاصة وأنه لم يخطر ببالها أبدا و"طوال حياتها" أن سمعت أو تخيلت وجود سحالي في هذا العالم يمكن أن تتجرأ، وتقتحم خصوصية النسوان في المرحاض هكذا، بعيون حزينة دامعة، ولا حياء. الأكثر مدعاة للحيرة أن أم سدير وجدت أمام وضعها الحرج والمتفاقم ذاك وقتا لإجراء مفاوضات تقنع شامة بالوقوف أمام باب المرحاض المفتوح لمنع أي رجل يمر من هناك، وقد كان أن نفذت شامة بنود الاتفاق، ولكن في وضع الاستعداد للهرب عند سماع أول صرخة قادمة من الداخل، وقد رسخ في ذهنها المشوش من قلة النوم والتعب ما قالته أم سدير من أن النطق باسم الجلالة في مكان قذر قد يحولهما معا إلى جنيتين ويبعدهما بالتالي عن عالم الإنس مرة وإلى الأبد، ويبدو الآن أن محنة المرأتين تتم في وقت بدت معه آلام الحامل من الأمور العادية الأخرى لتفاصيل يوم عادي آخر. لقد عبرت شامة الجعيلة وقتها عن الموقف برمته وهي تنظر إلى جارتها على بعد ساعات من الولادة، قائلة "كان ينقصنا بالفعل وجود سحالي الشيطان تلك". عبدالحميد البرنس [email protected]