لم يكن "التسول"، أومد اليد، والرمي إليها بصدقة أو عطية عطفا، قد تطور في تلك الأيام بعد، مثلما يحدث في أيامنا الآن، وقد صار مهنة، لها بيوت ومدارس ومذاهب ونظريات علمية وحيل تدهش الشيطان الرجيم نفسه. كان "الشحاذون" وقتها واضحين في عرف المجتمع. أي كالشمس في رابعة النهار. لا يكاد يخطئهم أحد. يجلسون عادة بعد صلاة الجمعة مباشرة، بأسمال مرقّعة في غير موقع، عند جانبي بوابة مساجد وآخر، وهم يحنون رؤوسهم ربما لكرامتهم، أو يمدون أياديهم مظهرين عاهاتهم في صمت ومسكنة. وكان هذا ذكاء صاغه بعناية رهقُ المعاناة في مخاطبة أناس خرجوا للتو مشبعين بكلام الله والأجر العظيم للصدقات وإعانة الضعفاء وأبناء السبيل، وربما كذلك المؤلفة قلوبهم إذا ما وجدوا آنذاك، ناهيك عن الوعيد بكنز الذهب والفضة و"نسيان المقابر". أما في سائر الأيام الأخرى فقد كان الشحاذون يتفرقون بين الأحياء السكنية. وكان هذا ذكاء آخر منهم بعد أن أدركوا مدفوعين بغريزة البقاء هذه المرة أن الشياطين ترافق المحسنين في الأسواق والذين قست قلوبهم كذلك يسدون منافذ البيع ويهيمون مفرّغين تماما من رحمة عند كل ركن دكان وحجر، بينما النساء والأطفال والمتقاعدون الذين ينتظرون الموت بوجوه خانعة طيبة ومسالمة يهيمون بعواطفهم بين البيوت كرحمة منزّلة من الله على عباده الضعفاء. هكذا، كان أولئك الشحاذون في أيام الله الأخرى، يطرقون أبواب البيوت، أو يجلسون قرب سبيل أو أسفل ظل شجرة نيم وارفة، ويرفعون على فترات عقيرتهم بتلاوة آيات الترغيب والترهيب تلك، من قبل أن يتوقفوا فجأة للدعاء لمحسن أو محسنة أو زهرة من بستان الطفولة. وقد بدت سحناتهم ضاوية وبشرتهم متسخة وأسمالهم بالية ورائحة أجسادهم كرائحة جلود بقر مشدودة في العراء منذ فترة في انتظار الدبغ. ولعل كل هذا لم يدفع الناس في يوم من الأيام إلى الوقوف عندهم قليلا أو كثيرا ليعيدوا النظر ولو من باب الفضول وحده في حقيقة وجودهم كمتسولين جعلوا من الناس واسطة للأرزاق بينهم وبين الله، عدا طفل الشيطان اللعين ذاك: حمو. كانت تشير إلى نحو العاشرة صباحا، عندما تسلل حمو، ابن السادسة وقتها، تاركا أمّه علوية التركية تواصل الحديث إلى أشباحها في المنزل الخالي، عسى أن يلتقي بمن يقبل باللعب معه، فقد كان جلّ أترابه يفر من أمامه، كما لو أن عاصفة تدفع بأقدامهم الخفيفة كريشة، وما تبقى منهم لم يكن يمنعهم على الأرجح من الهرب سوى الرعب، تاركين أمرهم بذلك لرحمة ظهور الكبار، ومن ثم الشروع في الشكوى ولا بد أو البكاء، وما زاد من مأساة العصافير الصغيرة أنهم كانوا يتلقون أحيانا لجبنهم ضربا مبرحا من أهاليهم، الذين ما كان بوسعهم تصديق تلك الروايات المسرفة في الخيال، والذين كان أغلبهم قد أدرك منذ بعض الوقت أن الحال العقلية لشامة الجعيلة لم تعد على ما يرام، وقد أضحت تهاب في الآونة الأخيرة ظلّها نفسه، وقد تهكموا قائلين في مناسبات عديدة ودائما من وراء ظهرها: "لا يمكن للشيطان الرجيم أن يسكن قطّ في جسد طفل بمثل تلك البراءة". ولما كان البعض يحتج أن الداية القانونية أم سدير توافق شامة الجعيلة سرا على ما شهدتاه معا أثناء ولادة حمو، كانوا يعزون ذلك بدوره إلى خلل شخصي، أي إلى ما تمّ اعتباره علامات خرف مبكّر ألم بالداية القانونية، عدا زمرة جدّ قليلة مثل سائق الحافلة حسن الماحي، الذي رأى ما كان أكثر قربا من الكذب، بعينيه "اللتين سيأكلهما دود القبر يوم لا ينفع مال ولا بنون". الحق كان حمو على صغر سنه على درجة من براعة أتاحت له دائما إمكانية العودة إلى وضع العيون الطبيعي للناس، في اللحظة المناسبة، ومتى ما أراد. وكان تمّ تعليم حمو عن طريق منهج سريّ في التنشئة يدعى "التخاطر"، ولسبب من الأسباب ظلّ في البدء مجهولا، أن الأسطورة يكمن سحرها أكثر ما يكمن في غموضها، وأن الأقسى من توقيع العقوبة هو التلويح بالعقوبة. والأكثر إثارة للدهشة هنا، كان يتمثل في تلك الدهشة المتجددة لحمو نفسه. كما لو أنّه لم يكن يعي بالفعل لا تخمينا حجم ما أخذ وجوده يبثّه في قلوب الناس حوله من خوف ورعب لا يحتمل، وقد كان التخاطر (كوسيلة عُدت من قبل الخبراء أكثر فاعلية ومضاء حين يتعلق الأمر بصياغة وإعادة صياغة الذاتية الإنسانية) يستهدف لا وعي المرء بأكثر من وعيه. كان الشارع يخلو إذن في تلك الساعة من أي أثر لقدم متحركة. ولم يكن ثمة من أثر كذلك لوجود أطفال في الجوار. ولم يدر في خلد "الشحاذ" عوض الكريم ذي الخمسين عاما الذي ظل يجلس أسفل شجرة نيم على الجانب الآخر من الشارع مرتلا سورة (ق) أنها ستكون الساعة نفسها التي سيرى خلالها الجحيم نفسه، في هيئة طفل. بهدوء شديد، وضع حمو يديه داخل جيبيه الفارغين، وأخذ يتلفت يمنة ويسرة، وبالفعل لم يكن هناك حتى مجرد كلب ضال يمكن قذفه بحجر قتلا للملل، ولم يكن هناك سوى شخص واحد وحيد يجب الاتجاه إليه رأسا وبلا هوادة. أجل.. إنه عوض الكريم.. الشحاذ الأعمى. وقد قال حمو في نفسه: "ذلك الوغد يظن نفسه ذكيا". وهو يقترب من عوض الكريم، بتلك الرغبة الجارفة في الأذى، التقط حمو بعد أن تجاوز باب حوش بيت شامة الجعيلة حجرا، ثم توقف على بعد خطوات قليلة، تماما قبالة رأس عوض الكريم الأعمى، حيث لبث ساكنا هناك لبعض وقت كان خلاله عوض الكريم الأعمى قد وصل في تلاوته إلى الآيات "وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد*ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد*وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد*لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد". وما أن وصل عوض الكريم الأعمى إلى ختام تلك الآية الثانية والعشرين من سورة (ق)، حتى أحدث حمو أمرا أخرس لسان عوض الكريم الأعمى دفعة واحدة. إذ أخذ يصوب الحجر باتجاه رأس الأعمى هكذا مباشرة، حجر مدبب مسنون وحاد، ثم ما يلبث أن يتراجع في اللحظة الأخيرة، مبقيا الحجر في يده. وكان حمو في كل مرة يسقط يده اليمنى إلى ما وراء ظهره، ثم ينقلها إلى الأمام بقوة وسرعة مصوبا بدقة إلى ما بين عيني الأعمى، فعل ذلك نحو سبع مرات، وفي كل مرة كان الأعمى يرفع كلتا يديه لحماية رأسه دافعا بظهره كله إلى الوراء متمايلا بجسده ذات اليمين وذات الشمال كما لو أنّه بندول ساعة على حائط في بيت شامة الجعيلة، وكان عوض الكريم الأعمى يتجنب بذلك ما وسعه الجهد ألا يصيبه الحجر الحاد المسنون الحواف بين عينيه في مقتل، فيفقد بصره عن حق مرة وإلى الأبد، وفي كل مرة كان عوض الكريم الأعمى يتحاشى فيها أمرا مثل ذلك، كان حمو يخاطبه قائلا بذلك التهكم والجدية الكبيرين: "ألم تقل إذن إنك (يا ابن الكلب) أعمى؟" ما حدث بعد ذلك بدا كأمر سيرسخ في ذاكرة عوض الكريم الشحاذ ما بقي على قيد الحياة. إذ ما لبث أن جلس حمو إلى جواره، لا كحامل مشروع صداقة من بعد عداوة، أو مبتزٍ جديد ظهر في المدينة وقد وُلِدَ بأسنان عقرب جبلي فحسب، بل كذلك كقائد منتصر في حرب وضعت أوزارها للتو. وقد أخذ يملي على عوض الكريم شروطه، من غير تردد، بالنبرة القاطعة لصوت مفاوض محنك يعلم جيدا أن خصمه لا حول له ولا قوة، لقد انتهى، وهذا بالضبط ما دفع عوض الكريم من دون تقصد إلى قول "البسملة" في سره عشرات المرات، وقد أيقن أن الشيطان يتحدث إليه ولا محالة شخصيا متخذا هيئة طفل وصوت رجل عركته السنوات، ومع ذلك كان المفاوض القوي يواصل حديثه وكأن شيئا لم يكن من بسملة عوض الكريم الأعمى قائلا بصوت بدا وكأن مصدره ذات العينين الجنيتين: "أسمع يا أخينا.. إما تديني "أبو قرشين" كل يوم.. إما أكلم أمي والناس وأخليك تتمنى العمى، عن جد". وفي أثناء وعيده ذاك، لم يتوقف حمو عن مسح المكان، بعينين بنيتين هذه المرة، وكان عوض الكريم الأعمى يلاحظ أن نفس العينين حين تقعان عليه تتحولان إلى حمرة قانية كالدم، وهذا بدوره ما أكد له أن الشيطان نفسه بشحمه ولحمه وقرونه يكلمه لحكمة لا يعلمها سوى الله، وحكاية القرون هذه كان يصر عليها عوض الكريم الأعمى على وجه الخصوص، ذلك أنه لم تؤتيه الجرأة بعد ذلك أبدا على الحديث مرة أخرى عن العيون التي لسبب ما قد تحولت إلى الأزرق في لحظة أن وضع حمو داخل جيبه الشمال "أبو قرشين"، وهو ما يعادل في أيام كثرة المحسنين والمحسنات حصيلة أربع ساعات متواصلة يكون عوض الكريم قد أنهى خلالها قراءة البقرة وآل عمران وغافر والحجرات حسب برنامجه اليومي ، كشحاذ محترف. مع ذلك، لم يفكر عوض الكريم الأعمى قطّ في مغادرة المكان. ولو فعل لعُدّ أمره من قبل أولئك المسؤولين كالهرب من ساح المعركة. ذلك أن عوض الكريم الأعمى لم يكن، في نهاية المطاف، سوى رجل أمن متنكر في ثياب مدنية، وقد تم ابتعاثه لمراقبة تلك الظاهرة التي تدعى "حمو" عن قرب، ثم البدء تاليا بصقلها "حين يتهيّأ الظرف"، وقد حدث ذلك، بمجرد أن تنامى إلى علم جهاز أمن الدولة العام نبأ وجود طفل في المدينة تم تصنيفه، بحسب المعلومات الواردة، تحت مواصفات القائمة المسماة "رجل أمن طبيعي بالولادة". قال عوض الكريم مخاطبا نفسه بعد أن غادره حمو لتوّه: "ثم ماذا نفعل مع ضرائب المهنة الباهظة؟". هكذا بدا عوض الكريم، أستاذ كرسي التخاطر الأعلى بجهاز أمن الدولة العامة، من شاكلة ذلك النوع من الناس، الذين يطيب لهم أكل الخراء نفسه للإبقاء في الأخير على وظائفهم، ولم يفكر مطلقا في المغادرة، على الرغم من شدة بأس ومراس التلميذ، الذي وجد حقل تطبيقات ما تعلم وقتها، إلى جانب الحسين نفسه، في أمه والجارة شامة الجعيلة، فعبر الأم، أجاد حمو طريقة مخاطبة رؤسائه وتلك الصيغ المعتمدة للتقارير الرسمية، وقد أوضح له الحسين وقتها أن "جنابكم" كلمة تركية في الأصل، تعني "الباب العالي"، بينما أجاد عبر تلك التطبيقات على شامة الجعيلة خاصة، كيف يمكن لرجل الأمن أن يبرع في تعذيب الناس من غير أن يصيبهم بلمسة واحدة، إلى الدرجة التي يفكرون معها في الهرب إلى نيالا، من دون أدنى اعتبار حتى لوجود مثل تلك الثعالب الطائرة على الطريق. [email protected]