احتج أحد المنتمين إلى السيد محمد عثمان الميرغني- وقد كان سليط اللسان ..يجزي السيئة بأسوأ منها- عدم ترشيحه لأي منصب وزاري، عندما قرر مولانا المشاركة في السلطة، وهو الذي قضى عمراً بين المعتقلات لدفاعه ومنافحته عن مولانا وعن حزبه. وكان مولانا وقتها يريد سياسيين متروين، لا نقابين متهورين. إلا أن بحر السياسة الذي ظنه مولانا سيصفو لم يزدد إلا كدراً وطيناً ... خروج المسؤولين لإلقاء نكاتا في غاية التهكم والسخرية، عميقة الوخز والألم، أصبح أمراً اعتيادياً لشعب أدمن الضحك على الخيبات والجراحات. والمهندس إبراهيم حامد ليس بدعاً منهم. لكن محاولة إعادة تعريف الرجل باعتباره منتم إلى جهة أخرى غير الجهة التي أطلق فيها لسانه بالهجاء الخشن، وبخاصة إذا كان التعريف ذا مدلول سلبي يرمي إلى التقليل من شأن الآخر، ويحط من قدره، باعتباره أدنى شرفاً، وأضعف نسبا، هي الخيبة الأكثر أثراً وخطراً، والجرح الأشد عمقاً وخبثاً، على الهوية السودانية. والهوية السودانية ما تزال محل تنازع واختلاف. ومحاولة إعادة تعريفها لأمر جد عسير. ويأتي عسر تعريفها لتخلى المثقفين المؤرخين عنها، وتركها بالكلية لأهل السياسة، والسياسة لا تؤرخ إلا لذاتها المنتفعة. وعلى الرغم من الجهود الجبارة لمدرسة (الغابة والصحراء) الأدبية والتي أسست في أوائل الستينات من القرن الماضي، في إعادة تعريف وتشكيل الهوية الثقافية السودانية باعتبارها العتبة الراسخة التي يقف عليها السودانيون الذين يجمعهم هذا الاسم الرمز: الغابة الافريقانية، والصحراء العربية، ليشكل هذا التمازج العربي والأفريقي طينة العتبة وأصل الانتماء... إلا أن العتبة أصابتها الهشاشة، فتحركت والتبست على واطئيها بعد أن تكاثرت عليها رماح الخصوم ممن يعرفون بالعروبيين، أو من يدعونها. وهناك من يظن أن وجوده في السودان لحظي رغم مرور مئات السنين، فهو آت من الجهة الأخرى، حيث الأمجاد الأثيلة والأنساب الأصيلة. يذهب ابن خلدون إلى القول بأن (النسب أمر وهمي)، وإنما المعتبر في النسب فائدته أو ثمرته، وهي الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة وما فوق ذلك مستغنىً عنه. وتحدثنا قصة سيف بن ذي يزن الذي أخذ على عاتقه طرد الأحباش من أرض اليمن وراح يجول جولاته المكوكية على قادة زمانه طالباً عونهم على مهمته، غير أن قيصر الروم يرده مبيناً له أن الأحباش نصارى وهو لن يحارب إخوانه في الدين، وهذا درس تعلم منه سيف في أن العصبية ودواعيها ضرورية للنجدة، وهنا راح يبتكر نوعاً من العصبية تجمعه مع ملك الفرس، وتأهب لذلك حتى إذا ما طلب من كسرى أن يمده بالعون لطرد الأحباش السود، وسأله كسرى عن القرابة التي تجعله يدلي إليه بها، فيرد عليه سيف قائلاً: أيها الملك الجبلة، وهي الجلد البيضاء، إذ كنت أقرب إليك منهم، فوعده أنو شوان بالنصرة على السودان. وأرض الحبشة كانت جزءاً من السودان الكبير. يرى الصحفي الأمريكي الألمع، توماس فريدمان أن أعظم مصادر القوة الأمريكية هي ثقافة ريادة الأعمال، وأخلاقيات التعدد، وجودة مؤسسات الحكم. والسودان كما يرى الكثيرون فيه ثروة من التعدد الطبيعي، مقابل التعدد المصنوع أو الصناعي في أمريكا. ويمكن لهذا التعدد أن يكون مصدر قوة السودان إذا انتفت الممارسات الكامنة والمضمرة للتقليل من شأن السوداني الآخر، أيا كان انتماؤه إن كان آتيا من شبه الجزيرة العربية غازياً أو جاء من بلاد الرافدين باحثاً عن رزق، أو خرج من أدغال أفريقيا مهاجراً إلى الله. السودان للسودانيين الذين يحملون ألوان طيفه بسمرتها الفاقعة، أو سوادها الداكن، أو بياضها المخطوف على سحناتهم، وفي أعينهم (الثبوتية). [email protected]