بسم الله الرحمن الرحيم الناظر إلى حال الأمة السودانية أمس اليوم وغدا لا محال ستعميه مباشرة الظلمات التي يتبع بعضها بعضا ، ظلمات الماضي الممتد سنين عددا ، تنوعت وتعددت فيها الأزمات ، الحروب بين أبناء الوطن الواحد المستمرة بلا توقف وتقلبات الحكم بين ثلاثة ديمقراطيات و أخرى مثلها دكتاتورية عسكرية ، وظلمات الحاضر لوطن ممزق يهيم أبناءه في العالم يسألون الناس المأوى هربا من جحيم الفقر والموت والعذاب ، ومستقبل تبعا لذلك قاتم بلا أمل . كل ذلك يجبرنا على النظر بتمعن وتدقيق على الحالة السودانية ، حالة الأزمة المزمنة التي تأبى أن تغادر جسد السودان ، ولأن لامجال لحل المشكلة أي مشكلة كانت ، بدون التعريف الواضح والتفصيل الدقيق لها تكون المهمة الأولى والأساسية لكل من يبحث عن أوضاع أفضل وتغيير للواقع الحالي هو وصف وتحليل هذه المشكلة . وفي حقيقة الأمر لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقول أن مشكلة واحدة هي التي تسبب الأزمة بل هي مجموعة من القضايا المتشابكة والمرتبطة رباطا وثيقا والتي تشكل في مجملها أزمة السودان ، وبطبيعة الحال هذه القضايا يوجد منها ما هو قديم بقدم تشكل الوطن ومنها ماهو حديث متصاعد ومتطور يوما بعد يوم سنحاول عبر سلسلة مقالات متتالية تعريف وتوصيف هذه الأزمة بتفصيل مختصر لمكوناتها المختلفة . ** أزمة الهوية :- ماتزال قضية الهوية تشكل أزمة عصية على الحل الجذري في السودان وماتزال المدارس السياسية الفكرية في السودان تقدم أطروحاتها المختلفة بين السودان العربي والسودان الأفريقاني وبين أخرى تطرح السودانوية كخيار جامع لكل السودانيين ، وتكمن الأزمة أن قضية كهذه ماتزال مثار لجدل سياسي بين النخبة الفكرية والسياسية بعد أكثر من نصف قرن على استقلال السودان وذلك لأن انعكاسات هكذا أزمة هي في صميم الشعور الوطني والقومي لأفراد الشعب السوداني ، فالتعبير المضبوط من قبل مؤسسات الدولة المختلفة باعتباره منحازا لهوية متناسيا لأخرى يخلق بل خلق فجوات كبيرة ومسافات شاسعة بين الوجود السوداني المتنوع والمختلف ، بالإضافة لتعامل المجتمع الذي يمكن أن نعتبره مايزال بدائيا بعيد عن الإحساس القومي منغلق تماما في ذاتية الهويات والثقافات الضيقة ، عوامل شكلت وتشكل أس التفكك المجتمعي والذي يمثل علامة فارقة وفي غاية الأهمية للدلالة عى فشل أي مجتمع . تطبيقات هذا الفشل تظهر عبر التاريخ في كثرة التكوينات القبلية والجهوية السياسية ، واستسهال وجودها كمكونات سياسية ، تكوينات تنادي بحقوق ومطالب تخص هويات وثقافات محددة وفي معظم الأحيان تستعين على ذلك بالسلاح ، وبالتأكيد أن تحركات كهذه لايمكن أن تبرر إلا بمفهوم واحد وهو أن الوجود المؤسساتي لايمثل هذه المكونات وربما لا يريد أن يمثلها أو أن يجعلها تشارك في حكم نفسها والاستفادة من الثروة والحصول على حقوقها ، تكوينات ظلت تتحرك في إطارها الذاتي لحلحلة قضاياها بمعزل عن بقية قضايا السودان ، موجودة منذ بدأ الدولة السودانية الحديثة عبر التمدد الجغرافي ، شرقا غربا جنوبا أو شمال ، وهو الأمر الذي وإن دل فإنما يدل بوضوح على فشل عملية الانصهار القومي وتشكل الهوية الوطنية المشتركة ، الهوية الوطنية المشتركة التي تجعل المواطن الفرد جزء من الكل الوطن وبالتالي تحركه الفردي أو الجماعي يكون في إطار هذا الكل . تمتد أزمة الهوية لتشمل تطبيقاتها في الواقع السوداني المضطرب مسألة العنصرية التي تحيط بكافة جوانب المجتمع ، فالعنصرية في السودان مسألة كبيرة تحتاج لمساحات واسعة ولايمكن الاستفاضة فيها هنا ولكن تجب الإشارة إلى دور أزمة الهوية كعامل من عوامل استدامتها وتصاعدها ، فالهوية ترتبط ارتباط وثيق بالانتماء الوطني ، والحالة السودانية العامة التي تفضل هوية على أخرى تفضل بالتالي انتماء محدد على آخر وتجعل البعض يشعرون بالانتماء لهذه الهوية وهذا الوطن أكثر من غيرهم الأمر الذي يخلق حالة التفاضل والتمايز الاجتماعي والذي يؤسس لمفاهيم العنصرية . يتواجد سؤال الهوية بصورة كثيفة في معظم أدبيات السياسة السودانية بمختلف تكويناتها وعناصرها ولكنه وكالعادة ظل غائبا عن مؤسسات الدولة وظلت الحلول والمعالجات الممكنة غائبة عن مناهجها التربوية ومؤسساتها الاجتماعية والثقافية لتتفاقم وتبعا لتعقيدات الفقر والحروب والنزوح مسألة الهوية وتأخذ أبعادا جديدة سياسية مفصلية ، إلى أن وصلت إلى مرحلة التفكك والانقسام والذي بدأ بجنوب السودان وهنا يجب استحضار مقولة رئيس دولة الجنوب إبان فترة استفتاء تقرير المصير ( لايمكن أن يختار أحدهم بارادته أن يظل مواطن من الدرجة الثانية ) مقولة بمكن أن يستلهمها العديد من أبناء الشعب السوداني للدلالة على حالة التمايز الاجتماعي والثقافي التي يشعرون بها . أزمة الهوية أزمة حقيقية ، وليست كما يتم تداولها في غالب الأحيان كنوع من الترف الثقافي والفكري ، لها انعكاساتها وتطبيقاتها الخطيرة والمتصاعدة على الواقع السوداني . تعامل الإرث الثقافي الشعري السوداني ومبكرا مع أسئلة الهوية فمدارس كالغابة والصحراء وأباداماك حاولت الإجابة عن هذه الأسئلة بصورة أو بأخرى وتنبهت مبكرا لهذه الأزمة ، واليوم ماتزال السياسة السودانية تقف بعيدا ولم تستطع بعد أن تطرح الحلول خاصة التطبيقية والعملية منها ، فهي مهتمة وكما يبدو بالمعالجة الآنية والمباشرة لما يطرأ من أحداث دون البحث الدقيق لأصل المشكلات وأساس تفاقمها . وربما يبدأ الحل وكما طرح من قبل بالتراضي أولا على التحديد الدقيق لهذه الهوية وهي ببساطة الهوية السودانوية أي أن ما يمثل الجميع وماينتمي إليه الجميع هو السودان وبالتالي يكون هو الهوية التي يمكن أن تعبر عن الجميع ، الأمر الذي لابد أن تتبعه آلة إعلامية وتربوية ضخمة تسعى بصورة حثيثة لنشر هذا المفهوم مع مراعاة التعبير العادل والمتساوي لكل مكونات المجتمع السوداني الثقافية والاجتماعية باعتبارها سودانية وأنها مجتمعة تمثل وتعبر عن ماهية السودان . [email protected]