السياسي والسمسار وجهان لعملة واحدة. لم يكن هذا رأي (عبد الجليل) لكنها فكرة عامة يعرفها أهل الحاج يوسف، من بنايات الفيحاء المتراصة في انتظام، إلى أجداث كرتون كسلا التي يخرج منها عبد الجليل كل صباح كليلاً عليلاً يصارع من أجل البقاء ليوم آخر قد يأتي.. أو لا. عبد الجليل.. كيف أصبحت؟.. (الحمد لله ما دام النفس طالِع ونازِل ما في عَوَجَه). يسأله جاره عثمان سمسار الأراضي ورئيس اللجنة الشعبية بالحي. (تعرف يا عبد الجليل الجماعة ديل واعدننا بتسليم شهادات البحث. لكن الحكاية دي حتطوّل شوية.. وأنت كدا.. كدا.. حتبيع البيت عشان تحل مشكلتك.. وجارك القريب ولا ود أمك البعيد .. والنبي وصَّى على الجار .. وأنا أحق بالبيت من غيري .. وأنت محتاج للقروش.. وحأسيبك تقعد في البيت لغاية تلقى ليك صِرفة......). يدفع عثمان بهذا الطوفان من الكلمات إلى عقل عبد الجليل فيقتلع منه كل فكرة راسخة.. يأوي إليها عبد الجليل. يا...وليَّة. أنا قررت أبيع البيت خلاص .. ده آخر كلام. (يا حاج اصبر ..شوية .. الحكومة بدت تسلِّم الناس شهادات البحث .. واِحنا صبرنا الزمن ده كلو.. غالبانا سنة سنتين تاني. أنا عارفة عثمان لفَّ راسك ... الله يلعنو ..... الراجل الما بخاف الله ...خاتي عينو في بيتنا... شكيتو لي الله). يشرقها الدمع .. تأخذ بأطراف ثوبها البالي .. تمسح فيضان الدموع.. وبصوت متهدج مكسور .. تقول: (البيت ساترنا.. جيعانين .. عريانين ما في زول عارفنا وشايفنا.... حلَّفْتك بالنبي ما تبيع البيت). في سوق حلة كوكو.. يتدخل عثمان لحسم ثمن العربة (المازدا) التي يرغب عبد الجليل في شرائها. (عليَّ الطلاق يا عبد الجليل: العربية دي.. مكسباني دَهَب. يُقسِم ود العطا. وأنا لو ما عثمان ما حأبيعها ليك بالتمن ده. لكن المال كتيروا رايح وقليلوا رايح ... والخوة باقية...و الله يديك خيرها). في الهزيع الأخير من الليل.. قام عبد الجليل.. صلى ركعتين قبل الفجر.. ومن ثم انطلق إلى مصنع الثلج بالمنطقة الصناعية في بحري.. لجلب الثلج لعملاء ود العطا .. من أصحاب الكافتيريات ومحلات المرطبات في حلة كوكو. في طريق عودته انفجر الإطار الخلفي للمازدا .. نزل عبد الجليل .. واجف القلب.. مسبحاً ومحوقلاً .... قلَّب مقاعد (المازدا) باحثاً عن مفتاح العجل قبل أن يكتشف أن (المازدا) بلا عجل إضافي أو مفتاح عجل أو أي شيء من هذا القبيل. ولأن الوقت ما يزال باكراً .. والشمس الحارقة لم تخرج من مخبئها.. ولأن الأرض لم تعدم أولاد الحلال.. وقف صاحب بوكس اللبن لعبد الجليل.. فكَّ معه الإطار المخروم وأوصله إلى أقرب بنشر .. خرجت الشمس من مخبئها.. وما زال عبد الجليل يتجادل مع (البنشرجي) الذي طلب عشر جنيهات لأن الرقعة التي وضعها على الأنبوب المتهالك هي رقعة نار... ولأن عبد الجليل لم يكن معه إلا خمس جنيهات .. دفعها قاطعاً وعداً بأن يأتي بالباقي بعد توصيل الثلج .. والله بينه وبين حق الناس. ثلاث ساعات مضت من الموعد المضروب لتسليم الثلج .. وعبد الجليل يحاول إلجام قلقه .. مهمهماً: الله يكفينا شَرَ العوارض وشَرَ أولاد الحرام. قبل مدخل حلة كوكو بأمتار قلائل.. لم يلحظ عبد الجليل شرطي المرور المنتصب في وسط الطريق .. حتى أيقظته صافرته الداوية .... جَنِّب يا حاج.. (يا ولدي أنا شايل ..تلج ..والشمس حارّة... وتأخرت على ناسو ....) (ما شغلي يا حاج.... أدينا رخصتك ورخصة العربية .... ) حكَّ عبد الجليل رأسه .. أدخل يده في جيبه الخالي .. تماماً .... (عندّك حاجة .. خارج نفسك .. ..ما عندّك انتظر الضابط.. انت كلك مخالفات....)؟! أطبق عبد الجليل يديه على رأسه، ينظر حائراً.. إلى العرق المُتَصَبِب من الثلج بغزارة. [email protected]