السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(رواية "تعيسة": محاولة لقراءة إدراكية Cognitive Approach)
نشر في الراكوبة يوم 22 - 11 - 2016


صمتت المعجزات وكفت عن الظهور,
وفاقت الأرضُ السماء,
الآن أخذت الأرضُ مكان السماء,
الأرضُ فوق السماء
هذا ما يمكن اعتباره فعلاً
معجزة المعجزات.
(أمبرتو إيكو, من رواية, اسم الواردة, ترجمة أحمد الصمعي)
" إن طبيعة "ملكة العقل/التفكير الإنساني"( Human Capacity), كما يسميها بعض الباحثين في الوقت الراهن, تبقى سراً عظيماً... غير أنه مهما تكن هذه الطبيعة, فإن الملكة اللغوية الإنسانية( Faculty of Language) تبقى عنصراً أساسياً ومحورياً فيها" (تشومسكي, من كتابه "اللغة والعقل").
طاقة تعيسة.. واللاوعي الجديد
* (تعيسة) رواية بشرى الفاضل الأحدث(من حيث تاريخ النشر وليس من حيث تاريخ الكتابة, إذ ظل يشتغل عليها منذ العام 1980 ولم تخرج إلا في 2015), تكاد تبذل نفسها بسخاء للقراءة الأدبية الإدراكية. وضمن الدراسات الإدراكية الأدبية Cognitive Literary Studies- تبذل نفسها ربما بسخاءٍ أكبر لقراءة عبر ديناميات اللاوعي الجديدNew Unconscious – وهو باردايم جديد ضمن نقد القرن الحادي والعشرين- يُعنى أساساَ بسد فجوات اللاوعي في صيغته الفرويدية القديمة السائدة في دراسات التحليل النفسي. هذا اللاوعي الجديد يعمل من أجل تجسير الهوة بين الوعي واللاوعي عبر الكشف الجديد عن مستوى التعقد الكبير الهائل لفكرة الوعي ذاتها(من تجليات ذلك اللغة الغريبة الغامضة التي ينطق بها بعض شخصيات الرواية !!)؛ والوعي من الموضوعات القديمة-الجديدة التي يتجدد الاهتمام البحثي بها باستمرار خلال الثلاثة عقود الماضية (منذ تحديداً ما عرف بعقد الدماغ The Brain Decade بين 1990-2000). النص يبدو أكثر جلاءً وقوةً وحركةً من خلال هذه العدسة الإدراكية أو الإدراكية-الاجتماعية ( Socio-cognitive)). فسعيدة-التعيسة بطلة الرواية ومحورها الرئيس, شخصية ذات تصميم فائق الجمال والدقة والحرفية كما أشار الأستاذ عيسى الحلو, وتعتمد بشكل حاسم على حاستي الشم واللمس (حاستان في واحدة). وهي تشغل عمليات معالجة وعيويّة شديدة التركيز والتعقيد داخل دهاليز "كمبيوتر دماغها" العجيب.. وتنتج تالياً قدراتٍ دقيقة, وسلوكاً كثيف التعقيد وشعوراً فادح الإنسانية والهفهفة والخضرة والجمال والوهج والسمو في آن.
* سعيدة التعيسة.. عمياء صماء بكماء تماماً..وتستعيض عن ذلك النقص الباهر, بطاقة حب هائلة لا حد لها في دواخلها.. تتوسلها عبر الشم واللمس والذوق فحسب, لكن بطاقة شعورية وإدراكية وتخيلية فائقة. فنقرأ, مثلاً, حين ذهب عبد البين لخطبتها:
"في تلك اللحظة أحس بكهرباء يد تعيسة وشاهد كيف أن وجهها اربّد للمرة الثانية بانفعال جديد. فأدرك أن اللمس عندها يعمل بأكثر من غيره من الحواس وما درى أن لتعيسة حاسة أخرى أقوى هي حاسة الشم. فهي تعرف أمها من رائحتها ولمسها في آن والآن بعد أن أقترب منها عبد البيّن ولمسها سطرت تعيسة في دماغها معلومات عن الوافد الجديد للمرة الثانية بواسطة اللمس والشم معاَ. حاستان في واحدة." (ص. 107). وبعد زواجها من بيّن, تضيف سعيدة حاستين جديدتين عبر خبراتها الجديدة(زيارتها للحقول) مع بيّن (هذا الكائن الجديد), وهنا تبدو لنا تعيسة أنه بذلك قد أضحت حواسها خمساً متحدةَ في واحدة. فسعيدة, تتبدى لنا, من ناحية بعيدة جداً عن هذا العالم المغموس في القبح (فطريتها الشديدة), ومن ناحية أخرى, تبدو قريبة جداً من منبع الأشياء الصافي الأول؛ حتى لكأنها تجسد صفاء الإنسان الأول وبراعة النقطة الأولى والمكان الأول, ربما قبل واقعة الهبوط الأرضي وميلاد الشر, كما في اللاهوت الإبراهيمي.
* سعيدة, هائلة الخضرة والحب والزمن والطاقة والخيال والجمالين الداخلي والخارجي, لهي تجسيد نبّاض الحيوية لتعقد العلاقة بين الأنا والآخر, وهو أمر شائك في الدراسات النفسية والفلسفية والاجتماعية, ولكن الرواية تمنح هذه العلاقة بعدا خصاً ومادةً خاماً جديدة. ويتضح من خلال الرواية وعبر علاقات شخوصها, حاجة الجميع للأنا والآخر معاً(كما لو كانت تجسد مقولة الطيب صالح "أنا أحب أن انتمى للآخرين على علّاتهم"), وهو, على أية حال, أمرٌ ألمحت له الرواية منذ تناصاتها التمهيدية الإطارية لأولى (عتباتها): اقتباسات الكاتب من أمل دنقل(ها أنت يا زرقاء وحيدة عمياء)؛ وهلين كيلر (قول هيلين كيلر"السير مع صديق في الظلام, أفضل من المشي وحيداً تحت دائرة الضوء", وفي الوقت ذاته تقول كيلر "ما ابحث عنه ليس موجودا هناك بعيداً, بل هو في داخلي")؛ وتشيخوف (الحب, الصداقة, والاحترام لا توحد الناس بقدر ما توحدهم كراهيتهم المشتركة لشيء ما)؛ ودستوفيسكي (هناك صداقات غريبة: صديقان يكونان على وشك أن يأكلا بعضهما البعض, ويعيشان بهذه الكيفية طوال حياتهما, ولكنهما مع ذلك لا يستطيعان الفراق). هذه العتبات مجتمعة مقروءة بوصفها نصا واحداً منفصلاً ومتصلاً معاً بجسد الرواية ومناخاتها, لتؤكد الإشارة للدلالة المعقدة بين الأنا والآخر, أحد أهم اشتغالات الرواية.
حميمية تعيسة.. وخصائص دونالد ماس لبطل القرن الحادي والعشرين
وعلى نحو ذي صلة, فسعيدة التعيسة محور النص, تتحقق فيها بشكل جيّد خصائص البطل الجديد في سرد القرن الحادي والعشرين كما حددها دونالد ماس ( Donald Mass).. في كتابه (السرد الفعاّل: كتابة السرد في القرن الحادي والعشرين), إذ ينبغي أن تكون- حسب ماس- شخصيةً نحس تجاهها "بحميمية شديدة" ونتخذها لنا- بوصفنا قارئين- شيئا شخصياَ جداَ. وفوق هذا, تكون هذه الشخصية-حسب ماس- ذات تفاعل خلاّق ومستمر مع الشخصيات الأخرى داخل الرواية- ما يسمى بال antagonists)). يظهر الكاتب, في رواية "تعيسة" قدرة فائقة, ليس فحسب على صناعة الشخوص (على الأخص التصميم الجمالي المهير لشخصية "تعيسة") , وتفاعل هذه الشخوص في ما بينها وإبراز إنسانيتهم الظاهرة والدفينة, ولكن على التخلص منهم كذلك, في الوقت والمكان المناسبين وبالطريقة المناسبة (سعيد- بخيت- الراجين الله..الشيخ حسن بن سعيد الكبير مؤسس واحة السعن القديم, راجين, الطفلة بدرية التي كانت أول من مات في قرية السعن القديم...الخ).
طاقة اللغة.. تكنيك الفجوات.. "ترجمة" سعيدة وبيّن
* من حيث الشكل الروائي, يمارس الكاتب بعض تكنيكاته القديمة..تلكم التهكمية البلورية والفنتزة .. والنحت اللغوي الفجواتي ( language gaps). والأخيرة كنا تناولناها في دراسة سابقة.. (مجلة جامعة السودان)..إذ يصنع الكاتب عباراتٍ وجملاَ داخلية كاملة لتعيسة وعبد البين غامضة, لكنها تقع ضمن الممكنات اللغوية.. مع غيابها في الواقع المتعين. وهي عبارات تأخذ شكل الحلم والرؤيا ( dream speech) وتشبه لغة الشطح الديني "القلوسوليليا"Glossolalia)) (يسميها بعض رهبان المسيحية "لغة السماء" أو "لغة الروح", وتسمى في عامية السودان "بالترجمة", وينطق بها "الدراويش" في حلقات الذكر الصوفي حينما يشتد بهم الوجد الروحي, ويأخذ منهم الشوق إلى الكمالات العليا كل مأخذ). تشير الدراسات إلى أن ممارسة هذا النوع من الكلام الديني المبهم قديم جداً, يعود إلى الإغريق وإلى الحضارات القديمة التي قبلهم, ولكن بحثه لم يبدأ بشكل علمي إلا حديثاً جداً, تحديداً مع ويليام سمارن ((Samarin في جامعة تورونتو في العام 1972 عندما قام بتسجيل كمٍ هائلٍ(corpus) من هذا الكلام الغامض, وحاول تحليله وتفسيره على ضوء علم اللغة الحديث. لا مجال للتوسع في القلوسوليا هنا, ولكن ثمة ظاهرة أخرى شبيهة بها أو مرتبطة بها تسمى "بالزينوقلوسيا" Xenoglossia)), والأخيرة أن يتكلم الشخص فجأة بلغة لم يتعلمها أبداً أو يدرسها من قبل(لا توجد دلائل علمية كافية على الممارسة الأخيرة حتى الآن), في حين تكون الأولى مبنية على أصوات ومقاطع اللغة أو اللغات التي يعلمها و يتحدثها الشخص مسبقاً, وقد يعلم معنى ما يقوله وقد لا يعلمه. ما نفضله هو معاينة هذا النوع من الكلام الرمزي في إطار الفجوات اللغوية, بالإضافة لإمكان المعنى ( Meaning Potential), عند هاليدي( Halliday), عوضاً عن علم الإشارات/السيموطيقا وما استجد فيها من بحث.
هذه اللغة الخاصة والمتكونة من نظام إشارات متكامل منحوت بهندسة بارعة من الفجوات والممكنات اللغوية, يمكن القول أنها توظف داخل نص "تعيسة" لخدمة أهداف عديدة, أبرزها:
1. تنطوي هذه اللغة على تمرد قوي, على المنظومة الدلالية الجامدة للمفردة أو العبارة اللغوية, وذلك عبر توسعة المظلة العلاماتية-السيموطيقية للغة وتحفيز القارئ لإنتاج دلالات جديدة لها.
2. تمنح فضاءاً جديداً لحركة العلامات والعلامات المضادة, وتأسس, من بعد, لشراكات جديدة لصناعة المعنى بين الكاتب والقارئ ومقامات النص المتنوعة.
3. تفكيك النظام الدلالي السائد للغة, ينطوي على رغبة عارمة في تفكيك البناء السلطوي القائم الكامن في هذه اللغة, وبالتالي التطلع لنظام وعلاقات سلطة جديدة وبديلة, أكثر رحابة وإنسانية وأكثراستيعاباً للآخر.
4. محاولات الخلق اللغوي الخاص المرهقة جداً هذه, توحي في تجرديها المعرفي-الإدراكي الأعلى, بمسعى ما لاستعادة نشأة اللغة, وبالتالي نشأة الطبيعة الإنسانية ذاتها (Human Nature), أو هي تشير إلى القدرة أو الكفاءة أو ملكة العقل الإنساني (Human Intellectual Capacity), حسبما يرى تشومسكي(راجع كتابه: اللغة والعقل). فسعيدة بفقدانها السطحي الفاجع للغة, توحي, عميقاً, لنفسها وللآخرين الذين يتصلون معها كعبد البين وراجين وغيرهما, بفرصة جديدة لإعادة صناعة نظام اللغة الخفي. وخلال هذا الخلق اللغوي الفجواتي الخاص جداً, وفي مواضع أخرى عدة, نرى ملامح لتداخل الوعي اللاوعي, في صوغٍ يجعلهما أقرب للبنية الواحدة, تماماً كبنية تعيسة ذاتها المتحدة بشكل نادر مع ذاتها, داخلياً وخارجياً.
هنا.. بعض تجليات هذه اللغة (الترجمة أو القلوسوليليا) في الرواية:
كلام تعيسة الذي يأتي في الأحلام غالبا للدرديري وعبد البيّن:
في الليل جاءت تعيسة لدرديري في أحلامه. وقفت قبالة سريره وبدت له كأنها كائن غامض من كوكب آخر من زمان آخر وقالت متسائلة كأنها تسخر منه:
يا درديري..يادردر..يا در..(سِح تَلسيم نَجف تُل فُل ؟ سِح تَلسيم نَجف فُل بُن؟ سَجِيم الزاف سَجَف تَنُونُو).
ففهم طيفور كلامها ورد قائلا:
- (لاب كون جِي نَجَف نُو نُو).. يا سعيدة يا سعيدة.
فمضت تعيسة تقول له:
(سِح تلسيم نجف بُلبُل؟ كتيم الدَّاو سَخِيم نوفَل. بل لاح سَاح تلسيم؟ بل فاح سَاح تَلسيم).
وفي موضع آخر, تخاطب تعيسة أمها راجين كأنما تريد أن تناشدها الذهاب بها للحقول:
- تومبل دوس...تومبل دوس...تومبل دوس...
وتارة وهى تغنى حزينة لدى وداع أمها لها قبل أن تغادر الكوخ "أغنية كونية بلا صوت تقول"..وهى تكررها
"ثلاثمائة ألف مرة. وفي كل مرة تنبلج في تلافيف دماغها الجبار نغمة جديدة"
وِع وِع وِع
وِع وِغ وِغ
ثم بعد زواجها من عبد البيّن تناجيه في المنام بلغتها الرمزية الخاصة:
(تراب رابو تراب رابو. بالون جات أرا كُل كُل. بُن دُن فُول تَبَاجيها. ترابورابو. فالوم دِيس سجل كُل كُل تَبَاجيها؟ يا مَردَاحى بيونى؟).
وذات مرة تجيء سعيدة إلى عبد البين في المنام بعد زواجهما وقد شعر بسعادة بالغة, وهى تقول:
(تَيم نِيلو كي فيل تَي جُم جُم بيّوني؟).
* يلاحظ في هذه "الترجمة", (أو "الهكهكة", كما تسمى في بعض أماكن السودان), سواء من سعيدة أو الدرديري أو بيّن أو غيرهما من شخوص الرواية, أنها عبارة عن أصوات ومقاطع syllables)) عربية تتجمع في شكل وحدات متسقة تركيبياً, لكن بلا معنًى ظاهر معروف. هذه المقاطع يعاد ترتيبها بحيث تخالف النظام السائد من الكلام العادي, وإن لم تخالف نظام اللغة الأصيل الممكن. والتفسير لهذه القلوسوليليا أو "الترجمة" السعيدية-التعيسية, يمكن أن يكون كما اشرنا في النقاط السابقة, سعياً ما للإنعتاق والحرية (على المستوى الفردي والجماعي معاً), من قيود الواقع و"شناكل" السلطة الثقيلة وأغلالها, للتحليق بعيداً في فضاءٍ طليق.. فضاءٍ أفسح من العالم كله في مخيلة الناطقين بها, وأعرض من الخيال وأزرق من زرقة البحر ذاتها في ذهن تعيسة(هذا الفضاء يرمز له أحياناً بشكل خاص بخضرة الحقول, وعبقها النادر حين تستنشقه سعيدة بطاقة شمها اللا محدودة في مساءات "السعن القديم").
جدل 'السعن القديم 'والعاصمة
* تناقش الرواية من حيث تيماتها وعبر تمثيلها السردي جملة من الإشكالات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية في السودان. ومن ذلك, الفشل المتوالي للنخب السودانية في بلوغ أهداف البناء الوطني الكامل, بعد الاستقلال, وانجاز التنمية والحداثة المستدامتين, وفي الفجوة بين النخب والجماهير وطبيعة العلاقة المعقدة بينهم...الخ.
فواحة "السعن القديم", التي تبدو لنا, في جمال عزلتها, كإلهة روبرت قريفز(Graves) البيضاء(قصيدته White Goddess ), أختاً للسراب والصدى, هي(مسرح الجزء الأعرض من أحداث الرواية ). قرية يتم استقطاعها من القرن التاسع عشر 1879 وتستمر بحالها تماماً كما هي حتى عام 1983 (ولهذا التاريخ دلالته) .. تخلق لنفسها هناك في عزلتها الظافرة عالماَ خاصاً جميلاً في كثير من نواحيه..إذ تنتهي بالفعل فيه منغصات جمّة. فالعنصرية, وغيرها من مظاهر التحيز الاجتماعي والتي كانت جزءاً من نظام ثقافة سعيد وبخيت في مجتمعهم القديم قبل التسفار التائه في الصحراء, تتلاشى تماما..بزواج عائلتيهم(سعيد و"عبده" السابق بخيت بحكم الضرورة التي فرضها الواقع الجديد).. وتسمو هذه القرية التائهة المستقطعة من القرن التاسع عشر, بذلك حتى على العاصمة الغارقة في عنصريتها وتحيزاتها الاجتماعية والطبقية, رغم مظاهر المدنية فيها. بيد أن الواحة الجميلة تمارس, بدورها, تمييزاً(واعياً وغير واعي) ضد سعيدة التعيسة..ومن جديد تنقذها العاصمة عبر الثلاثي الدرديري وطيفور.. وعبد البيّن. فثمة, على مستوى التمثيل الاجتماعي للنص, تقابلاتٍ وتقاطعاتٍ وجدليات عديدة وكثيفة بين التقليد والحداثة وتشابكاتهما المعقدة في الرواية. و تتجلى المقابلة مرة أخرى, حين يتم ترحيل أهل "السعن القديم" إلى العاصمة بعد اكتشافهم من قبل السلطات (يسميهم إعلام العاصمة "بأهل الكهف"), فثمة تبادل عميق للعزلة, لا يخلو من مفارقة بين المكانين: السعن القديم والخرطوم. والواقع, أن هذه التقاطعات والجدليات بين التقليد والحداثة, هي مما شغل الرواية السودانية بشكل أبرز, منذ روايات الطيب صالح, ولا زالت تتجدد في الرواية السودانية, لأن الواقع النزاعي هذا ما زال موجوداً.
النهاية.. وأفق التوقعات
تعيسة لا تنتهي تراجيدية كما قد يتوقع كثير من القراء..ولكنها تنتهي بحل مشكلة سعيدة نهائيا في إحدى الدول الأسكندنافية..برعاية تامة من بعض المنظمات المشتغلة بإعانة ذوى الاحتياجات الخاصة.. في نظري كانت النهائية ستكون أجمل وأنسب لو أنها انتهت أكثر تراجيدية. الخاتمة تخالف أفق توقعات القارئ horizons of expectations..حسب نظرية الألماني هانس روبرت جوس ( (Hans Robert Juss وعلى أية حال, قد لا يكون هذا معيبا في كل الأحوال.. بل ربما ممدوحاً أحيانا,غير أننا نشعر أن خط النهاية التراجيدية كان هو الأنسب لهذه الرواية.
خاتمة
هنا محاولة لقراءة رواية بشرى الفاضل الأحدث "تعيسة", من حيث تاريخ نشرها( 2015-2016), تحاول الاستفادة من منهج الدراسات الإدراكية الأدبية ( Cognitive Literary Studies). وهو منهجٌ جديد بدأ ينمو في الغرب, بشكل أبرز, خلال الألفية جديدة, وصارت تنمو فيه وحوله أدبيات, منطلقة من مراكز الدراسات والعلوم الإدراكية ( Cognitive Science), وأقسام اللغات والأدب والترجمة في الجامعات الغربية, لكنه لا يكاد يعرف بعد في جامعاتنا ومراكزنا وممارساتنا النقدية الغالبة. و"تعيسة", تبقى رواية مفتوحة للقراءة من عدة زوايا وعبر مناهج وأدوات عدة, ولكنّا نرى أنها تعطى نفسها بسخاء اكبر للنظر والتناول الإدراكي. ركزت القراءة على الهندسة الجمالية والفنية المعقدة لشخصية "تعيسة/سعيدة", وعلى اللغة الغامضة الخاصة في الرواية (عبر نظرية الفجوات اللغوية), مشبهة إياها بال( القلوسوليليا), أو لغة الشطح الديني/الصوفي ( Glossolalia), ومحاولة إيجاد تحليل إدراكي-اجتماعي- سيموطيقي لها, آملين أن يفتح ذلك قريباً نافذة لقراءات أخرى منتجة للرواية. وإيجازاً, يمكن القول أن القراءة سعت للكشف, عن ثلاث طاقات كبيرة في الرواية: طاقة العجز الجسدي (متجلية في جمال تعيسة الهائل وقدراتها الإدراكية الدقيقة) وطاقة اللغة (متمظهرة في الطاقة الشارية الضخمة "للقلوسوليا/ الترجمة" المستخدمة في الرواية) وطاقة المكان( متجلية في الإمكان الضخم لقرية "واحة السعن القديم", صانعة من عزلتها وتيهها وسط الصحراء, مادة عظيمة للحياة والحركة والفعل والمعنى).
ناقد وأكاديمي سوداني مقيم بالسعودية
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.