السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللغة .. تلك الطاقة الهائلة المجهولة ! كيف تصنع اللغة "الوج
نشر في الراكوبة يوم 15 - 11 - 2014


اللغة .. تلك الطاقة الهائلة المجهولة !
كيف تصنع اللغة "الوجود المغاير" ؟؟
عبد الماجد عبد الرحمن
(الكون روحٌ جمد).
(لا تقل ماذا قدم لي وطني , بل قل ماذا يمكنني أن أقدم لوطني).
( دمرناهم ولم نهزمهم ).
1
مدخل
تناصاً مع أليكس كاريل (الإنسان.. ذلك المجهول 1935) وجوليا كرستيفا (اللغة.. ذلك المجهول 1991) , نقف هنا في محطة تأمل قصيرة لتلك الطاقة الهائلة واللا محدودة التى ندعوها (اللغة). لفرط ما ألفناها , نعدها شيئاً عادياً , هامشياً- كونها معنا دائماً ونستخدمها على مدار اللحظة. لكن الحقيقة, إنها من أعقد الظواهر الإنسانية والكونية على الإطلاق .
اللغة , تيكم الملكة والطاقة الإنسانية الهائلة .. ذلكم الشيء الواسع الجميل الغريب أُحتص بها الانسان دون سائر الكائنات, على كثرة نظم الاتصال الأخرى الطبيعية والصناعية. اللغة.. ظل الإنسان غارقا فيها .. مستعملا إياها يوميا مذ بدأ يعي وجوده على هذا الكوكب .. يتواصل بها مع من حوله .. يحفظ به شعره وتراثه وقيمه وآدابه وعلومه وحكاياته القديمة .. يتنقل بها من جيل إلى جيل , حتى قبل اكتشاف الكتابة ( والتي عمرها لا يتجاوز الخمسة آلاف عام ). عبر اللغة سجل الإنسان ملحمته على الأرض . كتب أفكاره ومعارفه وأخبار حروبه وصراعاته التي لا تنتهي. دوّن أحزانه وأفراحه وأشواقه وأحلامه.. نشوة انتصاراته وتاريخ هزائمه. وبواسطتها عرف تاريخه على الأرض . جاءته الملاحم القديمة : الأوديسا والإلياذة للشاعر اليوناني الكفيف هومر الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد, الكوميديا الإلهية ((Divine Comedy للشاعر للايطالي دانتي(1265-1321 م) الملاحم الهندية القديمة وملحمة الانجليز الخالدة (بيولف Beowulf ). عبرها وصلتنا أشعار العرب وأيامهم ومعلقاتهم العظيمة. عبرها جاءتنا الأديان والمعتقدات الشرقية, ورودنا, عن طريقها, فكر العرب والمسلمين وفقههم وفلسفتهم وعلومهم ونقدهم ونثرهم الجميل وترجماتهم وعطاؤهم الحضاري الكبير في زمانٍ مضى وأشواقهم الجهيضة للنهضة. هل يمكننا تصور الوضع المتميّز " للرواية' " في عصرنا الحديث هذا , من غير "الإمكان" الهائل للغة ؟
اللغة هي نقطة التقاء اللغوي والرياضي والمهندس والفيلسوف والتربوي والفيزيائي والشاعر والطبيب والروائي وعالم الكمبيوتر والجغرافي والفقيه وعالم الأحياء . الكل يقرأ ويكتب وينشر أبحاثه بها وقد ينشغل بقضاياها المعقدة.
و لك أن تتصور العالم من دون لغة , كيف سيبدو إذا؟؟!
2
ما أصل اللغة ؟؟
حيّر هذا السؤال علماء اللغة وكافة المشتغلين بها منذ قرون . وهو, مع كونه سؤالاً منتجا وشديد الإغواء , لم يصل اللغويون إلي إجابة شافية مانعة عنه حتى الآن. ثمة نظريات عدة تجاهد لتفسير أصل هذا الكائن العجيب الذي نسميه " اللغة". أبرزها أربع نظريات :
1. نظرية تقول أن اللغة خلقت هكذا مكتملة مع الإنسان . وهذه النظرية تجد- لدى البعض - سنداً من الكتب المقدسة : في القرآن الكريم ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين),(البقرة 31). وورد في سفر التكوين ما يشير إلي أن الله قد خلق آدم وطلب منه تسمية كافة الحيوانات والنباتات التي كانت في الجنة . وورد في الإنجيل ( في البدء كان الكلمة...الخ) ( يوحنا 1) . والنص الأخير يشير أيضاً إلى المسيح عليه السلام إذ يصفه القرآن الكريم بأنه (كلمة الله ) : ( ... إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول الذي هو كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ... ) ( النساء , 171 ) . وثمة من اللغويين من يرى أن "الأصل الإلهي " للغة ليس ينفي أن تكون قد تطورت عبر آلاف أو ملايين السنين (هذا الرأي يشابه كلام العقاد في كتابه "الانسان في القرآن" عن كيفية التعامل الديني السليم مع القضايا العلمية المعقدة "كالتطورية", مثلاً) .
كما أن معرفة أصل اللغة كانت دائما مهوىً لفضول طائفة من الملوك القدماء . وتذكر بعض الروايات التاريخية أن أحد الفراعنة والملك جيمس الرابع والملك فردريك الثاني , أجروا عدداً من التجارب في محاولة لاكتشاف " اللغة الأولي ".
2 . نظرية تقول إن اللغة نشأت حينما حاول الإنسان الأول تقليد أصوات الطبيعة
حوله.
3. نظرية تقول بنشوء اللغة من الصيحات و الآهات والأصوات التي طلعت من الإنسان البدائي وهو يكدح في الغابات والصحارى والحقول. وضمن هذا الإطار , يعتقد أن اللغة والشعر نشآ سوياً من خلال الأصوات الجماعية المنغمة التي كان الناس يصدرونها وهم يعملون جميعاً .
4. نظرية تزعم أن اللغة نشأت أساسا من الإشارات الشفوية التي , في مرحلة ما , استبدل الناس بها الإشارات الجسدية التي كانوا – قبلاً- يتواصلون بها .
ومن العلماء من يعتقد أن اللغات نشأت من أصل لغوي واحد وتفرعت من بعد ذلك ألسنة شتى. ويسمى هذا بفرضية الأصل الواحد Monogenesis Hypothesis)). ولا توجد أية أدلة كافية – وإن كانت ثمة اعتقادات كثيرة - يمكن من خلالها استنتاج أن لغة بعينها انحدرت منها جميع اللغات , وعلى مدار التاريخ كان هنالك تداخل وتشابك وتحاور بين اللغات . ويعتقد بعض اللغويين أن اللغة نشأت قبل فترة تقع بين أربعين ألف سنة إلي (2) مليون سنة.
عربياً, اختلف فقهاء اللغة العرب القدماء وانقسموا إلي فريقين كبيرين: فريقٌ يرى أن اللغة (توقيف) وفريقٌ يقول إنها (اصطلاح). التوقيفيون (يمثلهم بن فارس) يرون أنها خلقت مكتملة ويهمشون دور الإنسان والمجتمع في تطورها- وان كان منهم من يرى أن ذلك لا يعني بالضرورة, أن تكون اللغة قد نزلت هكذا جملة واحدة. والاصطلاحيون (يمثلهم ابن جنّي صاحب "الخصائص" ) يغلبون دور الإنسان والبيئة والمجتمع في نشوئها وتطورها. اللغويات الحديثة الحديثة أهملت عامدة سؤال (الأصل) وركزت على الجانب السينكروني- المحايث (اللغة كظاهرة موجودة الآن بيننا ). لكن جورج يوول كرس باباً صغيراً في كتابه (دراسة اللغة) حول سؤال الأصل مورداً أربع نظريات-اتجاهات(هي التي تمت مناقشتها أعلاه) يمكن أيضا إدراجها- بتجوزٍ ما- فيما يسميه العرب (التوقيف)و(الاصطلاح). والأرجح, في حال تماهينا مع هذا الجدال القديم, فإن اللغة توقيفٌ واصطلاح معاً, مما ينسجم مع قولنا أنها بينية عقلية واجتماعية في آن.
وفي كافة الأحوال, يبقى أصل اللغة متعباً ومرهقاً وشائكاً و يلفه غموض كثيف ولا توجد أدلة علمية كافية حوله . وهذا ما حدا بجمعية اللغويات الباريسية في العام 1886 أن توقف الجدل حوله عادّةً إياه سؤالاً بلا إجابة !
3
اللغة تفاعل ونظام وإبداع
لا يتفق علماء اللغة- قديماً وحديثاً- حول تعريف محدد للظاهرة اللغوية وقد أورد اللغوي البريطاني المعاصر جون ليونز طائفة من التعريفات في كتابه (اللغة واللغويات Language and Linguistics). ومع تعدد زوايا النظر, يمكن التقاط مفاتيح مشتركة. ومن ذلك مفهوم النظام( System) والتواصل ( Communication) , والفطرية ( Innateness) و الفكر والوظائف الاجتماعية والنفسية والإبداع والإبداعية( Creativity) وغيرها. واستخدام اللغة بفاعلية لا يشمل فقط (القول), ولكن أيضا وربما أهم من ذلك ( عدم القول)- كما كشف علم تحليل الخطاب. فالنص الجيد والخطبة الجيدة هي أيضاً التي تقول ولا تقول . هي التي لا تقول حينما تود أن تقول.
اللغويات الحديثة لا تنشغل كثيراً بالسؤال عن أصل اللغة , بقدر ما تشغلها أسئلة مثل : كيف تعمل اللغة ؟ ما أسس ومكانزمات النظام اللغوي ؟ كيف يتسنى للإنسان تعلم اللغة؟ ما هي طبيعة وماكنزمات الاستخدام اللغوي, ما العلاقة بين النظام اللغوي والنظام الاجتماعي ؟ , ما هو الارتباط بين اللغة والعقل ( هذا السؤال شغل , على التدقيق , عالم اللغة والفيلسوف الأمريكي المعاصر " نعوم تشو مسكي ), الذي ورد عنه الكلام كثيراً في هذا الباب وفي غيره من الأبواب؛ وما هو شكل العلاقة بين اللغة والفكر وطبيعتها ؟؟( فرضية العالميين سابر وورف Spair-Whorf hypothesis التي تزعم أن اللغة هي التي تشكل وتكيّف طريقة التفكير والإدراك وليس العكس كما في نظر بعض اللغويين مثل ر. أي. هدسون Hudsom, فالكلمات حسب هذه الفرضية ليست فحسب مواعين للمعاني والأفكار, بل هي ذاتها تلك المعاني والأفكار ! ومن الأسئلة الأخرى التي تشغل بال علماء اللغة المعاصرين: كيف يعمل النص وكيف يشتغل الخطاب ؟ كيف يمكننا "وضعهما على المائدة" وتحليلهما بشكل أعمق وأوسع ؟ وكيف يمكن أن تساهم علوم اللغة في سبر أغوار الأدب وكشف ملامحه الظاهرة والكمينة ؟
4
الإبداعية خاصية كامنة في اللغة
ثمة تعريفات عدة للغة حاولها علماء اللغة قديماً وحديثاً, كما قلنا مشيرين إلى التلخيص الذي ورد في كتاب جون ليونز. ومما يكادون يتفقون عليه من الخصائص والسمات المركزية: كونها نظاماً يحمل في جوفه عدة أنظمة – الصوتي والنحوي- التركيبي والدلالي والنظام اللغوي- الاجتماعي والنظام اللغوي- النفسي . فهي إذاً "نظام الأنظمة" (The System of Systems) , كما يذهب البعض . ومن سماتها المركزية أيضاً أنها تسمح بالإبداع و الإبداعيةCreativity) ) وأن الإبداعية كامنة فيها. ويرى اللغوي المعاصر تشو مسكي أن الإبداعية تتمظهر في قدرة الإنسان على إنتاج جمل ونصوص لا نهائية من قواعد وكلمات محدودة, كما مرت الإشارة هنا وهناك في هذا الكتاب. والي هذا المعنى أشار أبو عثمان الجاحظ (780- 869 م) حينما قال ( المعاني مبسوطة إلى غير غاية, وممتدة إلي غير نهاية , وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة محدودة ) , ( البيان والتبيين, ًص 56 – 57 ). وفي ذات الوقت اللغة فيها التكرار المبدع الذي يسمح بإدخال عبارات داخل عبارات وجمل داخل جمل ونصوصا داخل نصوص (مثل قصة داخل قصة), وتسمى هذه الخاصية بال (Recursion) أو "التعشيش اللغوي" ( Nesting). وأيضاً من العلماء الذين اهتموا بالإبداعية الكامنة في اللغة, رونالد كارتر في كتابه (اللغة والإبداع 2004( والذي لم ينقل للعربية بعد ( Language and Creativity: Art of Common Talk).
5
اللغة والاتصال/التواصل
وتعد سمة الاتصال (Communication), كما أسلفنا, من أبرز خصائص ومزايا اللغة . إذ تعد اللغة تعد أعقد وأنضج نظام اتصال يمارس , على الإطلاق. ولغات الكمبيوتر الصناعية , مهما بلغت وكيفما تعقدت , لا تعدل شيئا من قدرات اللغة الطبيعية الهائلة . بل كلما تطورت لغات الكمبيوتر اقتربت من اللغات الطبيعية أكثر فأكثر . وبرز خلال السنوات القليلة الماضية فرع جديد من اللغويات يسمى" باللغويات الحاسوبية " Computational Linguistics (CL) . وهذا فرع جديد جذاب يقع وسطاً بين العلوم اللغوية وعلوم الحاسب ويتداخل مع الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence) (AI )) وعلم النفس الإدراكي/المعرفي Cognitive) Psychology) . وتنشعب اللغويات الحاسوبية إلي فرعين : نظري وتطبيقي. الأخير يعنى بتحسين التفاعل اللغوي بين الإنسان وجهاز الكومبيوتر وتطوير سوفتوير الترجمة الآلية Machine Translation)) , على حين ينشغل الأول بإشكاليات " المعرفة اللغوية " وإنتاج نماذج وبرامج تحاكي القدرة اللغوية.
تعج أدبيات علم تحليل الخطاب وعلوم الاتصال اللغوي بعددٍ كبير من نظريات ونماذج الاتصال (Models of Communication). النماذج القديمة, كمنوذج أرسطو The Aristotle Model)), كانت بسيطة وآحادية الوجهة وتتمركز حول المتحدث أو الخطيب أو مرسل الرسالة. لكن نظريات الاتصال تقدمت كثيراً عبر العصور , فظهرت نماذج حديثة عملت على توسيع الاهتمام بالعوامل الأخرى الشريكة في العملية الاتصالية كمتلقي الرسالة والرسالة نفسها وطريقتها والسياق والاستجابة للفعل الاتصالي, أو يعرف بالتغذية الراجعة (Feedback). ومن ذلك, نموذج جاكوبسون الاتصالي السداسي الذي صمم في الستينات (يتكون من ستة عناصر: السياق Context- الرسالة Message- المرسل Sender- المتلقي Receiver- قناة الاتصال Channel- الشفرة Code(الكود) ), وهو نموذج تم استخدامه في التحليل الأدبي والجمالي بشكل واسع بسبب تضمينه للوظيفة الشعرية أو الأدبية للغة ( Poetic Function). وكل واحد من هذه العناصر الستة تقابله وظيفة اتصالية أو تواصلية محددة. ومن ذلك أيضاً نموذج ديل هايمسز (Dell Hymes) الذي أنتج في السبعينات والمعروف بالاسم التاجي ( S-P-E-A-K-I-N-G)؛ كل حرف يرمز إلى عنصرٍ معين, وقد كان النموذج يتكون في الأصل من ستة عشر عنصراً , تم اختصارها لاحقاً إلى ثمانية عناصر, ثم تضمينها في (أكرونيم) "ترخيمة" أو "لفظة أوائلية" ( Acronym), وهي كلمة مشتقة من الحروف الأوائل لمجموعة كلمات من قبيل الاختصار (يسمى أيضا "بالاسم التاجي" أو "النحت الهجائي")
( S= Setting/Scene; P= Participants; E= Ends; A= Acts Sequence; K= key; I= Instrumentalities; N= Norms ; G= Genre) ). ثم ظهرت في السنوات الأخيرة نماذج أكثر تطوراً وأكثر فاعلية في وصف وتمثيل العملية الاتصالية/التواصلية, يمكن اعتبارها نماذج (ما بعد حديثة). تميزت الأخيرة هذه, بكونها أدركت مدى التعقيد الهائل للعملية الاتصالية/التواصلية, وكونها ليس متعددة الجوانب فحسب, بل متحركة وديناميكية ومتغيرة وذات حساسية عالية جداً لطبيعة السياق ( Context-sensitive), الذي هو الآخر أعتبر أكثر تعقيداً مما تصورت النماذج السابقة.
6
اللغة مادة لإعادة تركيب العالم
ما هذا الشعور القوي الذي يهاجمك بعد قراءة قصيدة رائعة , أو رواية جميلة أو بعد سماع خطبة مفلقة أو مقال جميل أو محاضرة دسمة ؟؟ ألا نشعر وكأننا نفهم العالم لأول مرة أو كأننا ولدنا من جديد أو لكأن كافة الأشياء من حولنا تأخذ شكلها الصحيح من جديد ؟! هي اللغة إذا .. المادة السحرية الدائمة لإعادة تشكيل وتعريف وتركيب العالم . هي المادة التي يصنع منها الشعراء الزمن المغاير أو( الوجود المغاير ) بعبارة المبدع " المغاير" التجاني يوسف بشير (1910-1937) . إن عبارة التجاني , خلافا لما تصور التجاني نفسه , تجد تأيداً علمياً قوياً من تنظير عالم اللغويات ومحلل الخطاب الأدبي الحديث قاي كوك (محاضر بجامعة لندن ) . إذ يعتبر كوك في كتابه (الأدب والخطاب ) إن وظيفة الأدب المركزية تبقى هي تغيّر وتحديث الطرائق التي ينظر بها الناس إلي العالم ويحسونه . وهي في الواقع فكرة جذورها ترتد إلى النقد الإغريقي عندما غيّر أرسطو المفهوم الإفلاطوني لنظرية "التقليد" ( Imitation), إلى فهمٍ جديد يربطه بالإبداع والإبداعية, ومن ثم يعيد للشعر اعتباره بعد أن همشه وسفهه إفلاطون (راجع كتابه "فن الشعر Poetics ). وفي ذات الإطار, يرى دو بيورقاندي أن الأدب يقوم على مبدأين : البدائلية والسوبر- تماسك Super- coherence ) ) . فالأدب - عنده - يمنحنا (بدائل )عديدة لاستيعاب ومعالجة العالم, وفي الوقت ذاته يحاول النص الأدبي التعويض عن لا منطقيته ولا ترابطه وبعثرته للعالم الحقيقي ببنية للتماسك مغايرة تماماً وهي التي يسميها بنية السوبر- تماسك (Super-coherence) . وهذا , على التحديد , هو الذي جعل التجاني شديد الضجر من بعض نَقَدَة ذلك الزمان- وقد كانوا يعيبون شعره ويستغمضونه - وقال إنهم لا يفهمونه لأنهم يغرفون من بحر وهو يغرف من بحر مختلف جداً . ولقد كان التجاني محقا في هجومه على هؤلاء النقاد ناعياً " جمودهم أمام أرق المعاني وأعذب الألفاظ ... وهم بذلك إنما يدللون على جدب ذوقهم الشعري وإنهم أغلظ إحساساً وأجف عاطفة وأبلد شعوراً من أن تلامس هذه التعابير أرواحهم " ( التجاني يوسف بشير, مجلة الفجر 1/11/ 1934) . ولكن التجاني أخطأ حينما تصور أن المسألة" ذوقية" محضة لا دخل للنظر العلمي فيها , إذ تمكن علم اللغة الحديث- مثلما تفعل نظرية بنية "السوبر- تماسك " من كشف معالم الإطار النظري لهذا الغموض الذي يسمى أحياناً في النقد الحديث "بالغموض الديناميكي" Dynamic) Vagueness) .
الشعر واللغة تؤمان ملتصقان لا يمكن فصلهما بأي عملية ناجحة. فالتميّز الشعري أصلاً تميز لغوي. الشعر هو سعي لاهث مستمر لتركيب العالم بشكل مغاير. ومن أجل ذلك , لغة الشعر لا يمكن لها أن تكون تركيباً لغوياً عادياً أو ضعيفاً , إلا على حساب الجودة الشعرية . الشعر نحت لغوي من اللغة وفي اللغة وعلى جسد اللغة. ولهذا كان ولا يزال" المجاز" هو طوب القصائد واسمنت الشعراء, هو دم الشعر الذي يجري في القصائد.
7
التميّز والنجاح والأداء اللغوي
► التميز والنجاح في الحياة يعتمد في كثير من الحالات على تجويد مهارات اللغة والإبداع فيها. إن ثمة مهناً تقوم أساساً على اللغة (التدريس-المحاماة – المهن الكتابية والإعلامية كالصحافة والإذاعة والتلفزيون). يكاد ستحيل النجاح والتميز في هذه المهن دون تجويد اللغة. و قد صارت " مهارات اللغة والاتصال الفعال" من برامج التدريب الثابتة حول العالم لمختلف المهن. و تعتمد البرمجة اللغوية العصبية وبرامج تطوير الذات (self-development) التدريب على أساليب لغوية معينة لعلاج الخلل وتطوير الإمكانات الذاتية للأشخاص في آنٍ واحد.
► هنا عرض سريع جداً ومتنوع لشخصيات ناجحة ومتميزة (خارج إطار الكتابة الجمالية-الإبداعية). ونسبة كبيرة من هذا التميّز ترتد لأدائهم اللغوي العالي وقدراتهم على استخدام اللغة بفاعلية وإبداع:
في المجال السياسي : عالمياً تميز تشرشل وديجول إبان الحرب العالمية الثانية بقدرات لغوية مبدعة ومائزة – حتى أن بعض عباراتهم وجملهم لا تزال تحوم في الكلام والكتابة وتقتبس هنا وهناك حول العالم - تشرشل: الديمقراطية هي أحسن النظم السيئة أو هي أسوأ نظام سياسي, فقط اذا استثنينا جميع النظم الأخرى (Democracy is the worst form of government except all other forms that have been tried from time to time)؛ في السياسة لا توجد صداقة دائمة أو عداوة دائمة , فقط مصالح دائمة ؛ خطبته الأشهر إبان الحرب العالمية الثانية والتى تبدأ ب "سنحاربهم على السواحل We will fight them on the beaches"؛ إن إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات العقل؛ في الحرب لا يمكن أن تقتل غير مرة واحدة, لكن في السياسة يمكن أن تقتل مرات عدة. وحينما كان مراسلاً صحفياً شاباً يغطي معركة كرري السودانية(1898) لإحدى الجرائد الإنجليزية قال قولته الشهيرة التي لشعبنا أن يزهو بها ضمن مآثره الغالية : دمرناهم ولم نهزمهم We destroyed them, but we did not defeat them) ). وفي عام 2012 أصدر الكاتب إدوراد قرين كتيباً صغيراً ماتعاً جمع فيها أشهر حكم تشرشل وعباراته الساخرة بعنوان ( A Little Bit of Churchill Wit). وفي أمريكا : ابتدع مارتن لوثر كينج ومالكوم إكس نموذج القيادة من أسفل إلي أعلى bottom-up)) وتميزا بقدرات لغوية وخطابية مبدعة (تبدأ حياتنا في الأفول اليوم الذي نتوقف فيه عن قول الحق), و هناك بالطبع خطبة كنج الشهيرة (لديّ حلم I Have a Dream ). وكذلك جون كندي (وعبارته الشهيرة: لا تقل ماذا قدم لي وطني ؟ ولكن قل ماذا يمكنني أن أقدم لوطني). ويتجلى هذا الإرث اللغوي في أوباما .. هذا المبدع في فنون الكلام والخطابة وقد كتب عنه أيضاً أستاذنا بشرى الفاضل والكاتبة ذات الأداء اللغوي الماتع هي الأخرى والذي يجوس عميقاً - لمياء شمت (راجع مقالاتهما في أرشيف "الرأي العام" عن الأداء اللغوي الباهر لباراك أوباما, وتوجد بالطبع كتابات عنه كثيرة في أمريكا وعلى المستوى العالمي).
8
الأداء اللغوي المتميّز لشخصيات سياسية ورياضية متفوقة
► وطنياً, ثمة شخصيات (من غير حصر) لا يمكن الفصل بين تميزها السياسي وأدائها اللغوي العالي : المحجوب تألق في السياسة والمحاماة بسبب مهاراته الكبيرة في اللغة . فهو محامي فارد وشخصية برلمانية بامتياز . من ميزاته في الخطابة استخدام الضغط النبري ( Stresses) على الجمل والعبارات بجانب التنغيم و الإنشاء الأدبي(راجع كتابات أحمد سليمان المحامي عنه وهو قد تدرّب على المحاماة في مكتب المحجوب). ومنهم أيضاً , مبارك زروق وعبد الخالق محجوب وحسين الهندي والترابي ومهدي إبراهيم وغازي صلاح الدين وآخرون كثر من جميع الزوايا والاتجاهات الفكرية والسياسية (مهدي بارع لكنه أنزع إلى البلاغة التقليدية القديمة والترابي يستثمر قدراته الصوتية العالية ويحرص على تجويد النطق ونحت المفردات و تفعيل لغة الجسد). أما الصادق المهدي فهو حالة لغوية متميزة. فعلى غير ما يعتقد الكثيرون في أنه يميل إلى الإطناب ووفرة الكلام (جزء من هذا يدخل بالطبع في باب التنميط (Stereotyping , فهو لافت جداً بقدرته على الإيجاز والتلخيص الجيّد ( Summarisation)- خاصة حين يريد ذلك في الكتابة, إذ أن القدرة على التلخيص الجيّد من المهارات الصعبة . والمهدي جيّد في وصف الواقع والأحداث السياسية وتقدميها مكبسلة و بمسحة تصويرية وجمالية إلى الصحافة والجمهور. وهو أيضا بارع في القدرة على التحليل السياسي -خاصة حين تفصله من الوقائع مسافة زمنية ليست قصيرة . المهدي ظاهرة لغوية جديرة بالدرس والتحليل. قال عنه الطيب صالح أنه قد أوتي ما لا يتاح للكثيرين (من سماحة طبع وتوقد ذهن وفصاحة لسان- راجع "المختارات") وقال عنه الصحفي والكاتب فتحي الضو أنه يمتاز "بالذكاء الحاد", رغم أن كلام كل من الطيب صالح والضو قد جاء في سياق نقدٍ عام للرجل وسياساته, لكنهما لم يجدا بداً من الإشادة بقدرات المهدي اللغوية والسياسية العالية. ويتميز كل من الصادق والترابي وعبد الله علي إبراهيم بالقدرة على التشكيل والنحت المفرداتي . وللسيد الصادق وعلى عثمان وعصام البشير وصلاح جلال طلاقة انسيابية مميزة في الكلام (fluency). وللراحل جون قرنق قدرات خطابية رائعة وعالية تستفيد من طاقة لا تنفد في التفكه والظرف والاستظراف وليس من شك في أن ذكاءه اللغوي كان كبيراً جداً.
► الخاتم عدلان كان مائزاً ومجيداً في الخطابة السياسية. وكان يجيد لغة التحريض السياسي, وحين يحاضر كانت تأخذ مفرداته وصياغاته منحى التصعيد الفكري-الفلسفي الهاديء المتأمل العميق Heightening)) . والحاج وراق انطلق أساساً من قدراته المذهلة على التحليل والجدل كمتحدث ماهر في أركان النقاش في جامعة الخرطوم( كان بعض الطلاب يتركون محاضراتهم ويأتون للاستمتاع بحلقاته وقدراته المبهرة على مزج التحليل السجالي العميق بالفكاهة والظرف الطبيعي). وجزءٌ عريض من سحر الجمهوريين كان يأتي من مهاراتهم الكبيرة في الحوار والجدل و امتلاك طاقة منطقية-لغوية فكرية لا تنضب . وكان هذا التميّز اللغوي, ضمن جوانب أخرى, يمدهم في الجامعات برافدٍ لا ينقطع من الأصدقاء و المجندين الجدد ( برع من خطبائهم دالي والقراي والنور حمد) . وكان عبد الله الطيب ومحمد المهدي المجذوب, وهما لغويان جبلةً ودربة, كانا شديدي الإعجاب بالأداء اللغوي المدهش للأستاذ محمود محمد طه (ويظهر هذا في قصائد المجذوب الباكرة عن محمود وفي رثاء عبد الله الطيب له في قصيدة "حزنٌ ومصاب"). تأمل معي عبارة الأستاذ محمود (الكون روحٌ جمد). هل هذا فكرٌ أم شعر ؟؟ هو إن شئت الاثنان معاً (حياة الفكر وحياة الشعور كما يفضل أن يسميها الأستاذ نفسه ). وهذه العبارة – الكون روحٌ جمد- فيها تكثيف وتركيز وبراعة تصوير, ويمكن اعتبارها بالفعل (قصيدة بامتياز) !
9
اللغة والتعليق الرياضي
► وللتمييز والذكاء اللغوي دورٌ في الخطاب الرياضي الفعّال. المعلق التونسي البديع عصام الشوالي نال بفضل أدائه اللغوي العالي جائزة أفضل معلق رياضي عربي أربع مراتٍ على الأقل. والشوالي نموذج جيّد لإبداعية التعليق الرياضي. وتميزه يأتي أصلاً من قدراته اللغوية الكبيرة في التعليق على المباريات. المباراة عنده تاتي كأنها رواية أو فلم شائق أو قصيدة جميلة .. تصير كأنها قطعة درامية مثيرة . فالشوالي يضيف مسحة جمالية-أدبية للغة التعليق الرياضي. والتعليق الرياضي تطور كثيراً , ففي الماضي (أيام شمو عندنا في السودان) كان المعلّقون يستخدمون الفعل الماضي في وصف المباريات (مرر , عكس , شات, جاب قون), ويستخدم المعلقون اليوم المضارع السردي ( narrative present) بغرض "التسبيك", ولصب مزيدٍ من الإثارة والحيوية على المباريات. وفيما يسمى بالفلاش-فيكشن ( fiction- flash) في السرد الجديد وهو قريب نسب "بقصيدة النثر" , يفضل كثير من الكتاب استخدام المضارع السردي (راجع المقالات الخاصة بقصيدة النثر والكتابات السودانية الجديدة في موطنها في هذا الكتاب) . وفي الخطاب الرياضي السوداني الآن, لم يرتفع بعد أيٌ من المعلقين لمستوى الرشيد بدوي عبيد وحساسيته العالية. وفي التحليل يبرع محللون مثل الرشيد المهدية, وكذلك الدكتور كمال شداد (حين يحلل), بفضل قدرات كثيرة من بينها الأداء اللغوي الفعّال !
10
طرائف المجاز.. أبو تمام
► كان أبو تمام مجدداً في زمانه وأتى بطرائق جديدة في المجاز وأساليب غير معهودة في النحت اللغوي. ومن ذلك أنه صنع إشارات وعلاقات دلالية جديدة في القصائد. ووجه أبو تمام- كما يواجه شعراء القصيدة الجديدة اليوم - بتهمة "الغموض" والإتيان بأساليب مغايرة للجاهليين (راجع مقال "التناص والتلاص"). ويحكى في باب الاستظراف العربي , أن شخصاً من المهاجمين لأبي تمام أراد إحراجه لدى الخليفة , فسأله وهم في مجلس الخليفة أن يأتيه " بكأس مملوءة من ماء الملام" ( في إشارة إلى بيته: لا تسقني ماء الملام فإنني/ صبٌ قد استعذبت ماء بكائي), فرد أبو تمام أن ذلك ممكن شريطة أن يأتيه هو أولاً "بريشة من جناح الذل" (في إشارة إلى الآية الكريمة : وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة , وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً) .
► اللغة إذاً , طاقة مجهولة هائلة.. تعيش بيننا وفينا ومعنا ونملكها مجاناً . وإذا ما برعنا فيها ووظفناها جيداً وبفاعلية وتميّز وتبدّع , فإننا نحقق حينئذٍ نجاحاً بهيراً في مختلف المجالات. ويمكن اعتبار اللغة إحدى الطاقات المتجددة !
11
إحصاءات ومعلومات عامة سريعة عن اللغات في العالم:
يقدر علماء اللغة عدد لغات العالم اليوم بحوالي 6-7 آلاف لغة .
عدد كبير من هذه اللغات غير مكتوب – ليس له شكل كتابي محدد .
اللغات الرئيسة والمركزية في العالم تقع بين (8- 12) لغة , أبرزها :الانجليزية والفرنسية والألمانية والروسية والعربية و والبرتغالية والإسبانية والصينية واليابانية .
تعتبر اللغة الانجليزية هي الأوسع انتشاراً في العالم إذ يقدر عدد الذين يتحدثونها كلغة ثانية /أجنبية ب 400 مليون شخص حول العالم . وهي اللغة الرسمية أو شبه الرسمية لأكثر من 45 دولة في العالم, وأكثر من ثلثي البحوث العلمية في العالم تكتب بها . وتجري بها أكثر من نصف المعاملات التجارية في العالم. كما أن الإنجليزية اليوم هي لغة السياحة والطيران المدني الدولي .
أكبر اللغات من حيث عدد المتحدثين هي لغة" الماندرين" الصينية, وذلك بسبب كثرة السكان الصينيين الذين يتحدثونها .
أكبر دولة فيها تعدد لغوي هي الهند إذ يوجد بها ما يتجاوز ال 800 لغة .
ظاهرة التعدد اللغوي ( Multilingualism/Bilingualism) تتجه في عالم اليوم لتصبح القاعدة وليس الاستثناء, وقد تغيرت تبعاً لذلك كثير من سياسات الدول اللغوية, نحو مزيدٍ من الاعتراف والاحترام للغات المجموعات والقوميات المختلفة في حيزها الجغرافي في مجالات التعليم والثقافة والإعلام. وبات هناك ما يعرف بالحقوق اللغوية ( Language Rights) باعتبارها جزءاً من حقوق الإنسان.
الفرق بين اللغة واللهجة موضوع فيه جدل بين علماء اللغة. لكن يوجد معيار مهم يتفق عليه الكثيرون, هو أن ثمة تفاهماً متبادلاً بين اللهجات رغم الفروق الصوتية والتركيبية والدلالية والمفرداتية بينها , على حين لا يوجد مثل ذلك التفاهم المتبادل بين اللغات المختلفة.
هنالك لغات عديدة انقرضت بفعل عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية حضارية – مثل حوالي ألف لغة كانت موجودة في أمريكا عندما وصل إلي شواطئها كريستوفر كولومبس في القرن الخامس عشر الميلادي . ويعتبر علماء اللغة موت أي لغة بمثابة خسارة إنسانية عظيمة , لأن ذلك معناه موت ثقافة مميزة وتراث مميّز وآداب وفولكلور مميّز قد لا تتوفر مرة أخرى, وقد تضيع إلى الأبد .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.