العيب ليس في الديمقراطية وإنما في غياب الديمقراطيين. الديقراطية لن تخلق التغيير، لكنها تخلق الظرف المواتي للتغيير. الفرق كبير وشاسع بين الحكم العسكري والمدني، لكن السودان في طفولة التي لا تنتهي، وتجاربه "الديمقراطية" قصيرة الأجل، والحلقة المفقودة في مجتمعنا هي غياب الطبقة الوسطي المستنيرة التي توازن بين الديمقراطية والتنمية.. ليست مصادفة، أن يبقى عبّود في السلطة 6 سنوات، بينما تبقى مايو 16 سنة، فتتبعتها الرادِفة حتى تاريخه ... حتى إذا جاءتنا آزِفة أُخرى، مكثت فينا بزيادة عشرة سنوات..! هل هي مصادفة، أن تتوق قوى التغيير إلى الحكم المدني فتستعيده، ثم تردد نفس الاكتوبريات، عندما تفتقده..؟ ليس ممكناً تمجيد دكتاتورية بأنها أقل بشاعة من الأخرى، لكن من الممكن تقييم طبيعة كل نظام، فتبقى الفروقات بين نظام إنقلابي وآخر، محض فروقات، وليست مآثر.. كان الفريق عبّود له الرحمة عسكريا مهنياً، بينما صنع نظام مايو الإتحاد الاشتراكي كغطاء مدني وواجِهة سياسية لنظام شمولي.. ثم طال الظلام في التجربة التالية إثر إختراق كيان صغير للقوي التقليدية، فتعسكرت البلاد وتم تحطيم القوي الحديثة ونقاباتها تحت غطاء المقدس، ومورست الشعوذة السياسية ممزوجة بالقمع. الفرق بين الطفرات الثلاث، أن الأول كان إنقلاباً غير مؤدلج حتى رحيله، أما الثاني فقد أردف الأدلجة وراء ظهره. ثم جاء الثالث بأيدلوجيا التبرير ليفعل بها مايشاء، حتى اذا أعيته الحيلة قسّم السودان إلى دولتين، وأرهقته بقايا النجوع. عند تقييم تجربة عبود، ينبغي أولاً النظر إلى أنه: إفترع الحلقة الشريرة. هو من علّم صبية العسكر الانقلابات. هو من بدأ سياسة الأسلمة والتعريب وتبني الحل العسكري في الجنوب. عبود إنقلابي مافي كلام، وموالٍ للطائفية مافي كلام، لكن برضو كان إنسان طيِّب.. عندما ثار السودانيون في وجهه ، لمْلَمْ عَفشو طوّالي.. لا خير في الإنقلاب عسكري، وان جاء بالمن والسلوي. لقد ارتكب نظام نوفمبر، جريمة إغراق حلفا. باع الأرض والتراث والتاريخ.. ارتكبت مايو العديد من الجرائم، آخرها كان التستر علي مجاعة 1984م، أما أهل الرادِفة، فقد فاقت جرائمهم الأولين والاخرين. لم يستوعب السودانيون خطل المهدية، ففجعهم التاريخ باعادة الدرس في الإنقاذ. لم يتأمّلوا أكتوبر، فركبتهم الطائفية وهي أسوأ من الانقلاب. عساكر نوفمبر كانوا أولاد ناس، وقصة عبّود بعد تنازله عن السلطة، في سوق الخضار معروفة.. عبود تنازل لعبد الناصر عن حلفا، فكانت عطاء من لايملك لمن لا يستحق... من مآثره أنه جاء الى السلطة بدعوة "كريمة" من كيان حزب الأُمّة، وغادرها بطلب "كريم" من الشعب كله. من حسناته أيضاً، أنه كان عسكرياً منذ لحظة ظهوره في القصر وحتى دخوله القبر. طاف عبّود أغلب مناطق السودان البعيدة، وزرف على حلفا بعض الدموع، وأعطى أهلها بعض التعويضات، وتسلّم المعونة وبنى بها الكوبري والشارع. رغم ديكتاتوريته ودكتاتوريتهم، إلا أنهم كانوا اولاد ناس.. لم يكتنزوا، ولم تحللّوا. عبّود لم يتكسب من المنصب. أتى إليه فريقا وغادره فريقا، ولم يضف إلى نفسه كلمة "أول"، رغم أنه الانقلابي الأول والأنظف، مقارنة بالانقلابات التي وقعت في بلادنا. كان بيته هو نفس بيته، عندما كان ضابطاً. في عهده، كان طعام الغني والمسكين متقارباً، وكان وهو الرئيس يعيش بمستوى أقل من جيرانه الاطباء. كان يُستقبل بحفاوة.. استُقبِل إستقبال الملوك في بريطانيا وأمريكا وروسيا، رغم أنه رئيس غير ديمقراطي. لقد ترك عبّود، خزينة الدولة ممتلئة فافرغها الذين جاءوا من بعده. المأثرة الكبري لعبّود أنّه حقن دماء السودانيين، وغادر السلطة طائعاً لإرادة الناس، ولم يفعل مثل بشار الأسد..! أنظر ماذا يفعل بشّار الأسد في سوريا.. "بشّار"، أحرق البلد لأجل أن يبقى حاكماً فوق الرّماد..! اخر لحظة