قدم أحد ولاة الولايات وزراء حكومته الجديدة بألقاب علمية رفيعة، كان قد أتى ببعض حامليها من مؤسسات أكاديمية يعملون بها، وآخرون حملوها أثناء ممارستهم للعمل للعام، أو شغلهم لوظائفهم الدستورية. فأعجب ذلك والياً آخر مجاورا لهذه الولاية، فقرر أن ينهج هذا النهج في اختيار حكومة يشغلها حاملو شهادات عليا، وألقاب علمية مهمة...ومن هنا بدأت حمى الحصول على شهادات الماجستير والدكتوراه وما فوقها حتى إذا قدم الوزير أو المسؤول أمام حشد من الناس يقدم بهذا اللقب (المفترى عليه) لا لإنجاز أنجزه ولا خدمة قدمها لمواطنيه. ومن ثم فتحت الجامعات أبوابها على مصراعيها لتقديم مثل هذه الخدمات، حتى التبس الأمر على وسائل الإعلام، فما يظهر أحد المسؤولين في إحدى القنوات الفضائية (السودانية) إلا وجاء اسمه مسبوقاً بلقب، أو يقدمه مقدم البرامج بأي لقب (دكتور أو بروف) حتى وإن لم يكن حاملاً لهذا اللقب، لأن أصحاب هذه الألقاب يتبرمون أيما تبرم عندما لا تقدمهم بما حازوا عليه من ألقاب، يظن بعضهم أنه تعب وعانى وبذل جهداً مقدراً لنيلها. ولم يقتصر الأمر على هؤلاء الدستوريين فقط، بل تعداه إلى مؤسسات أخرى أكثر أهمية مثل القضائية والشرطة والجيش التي تدافع منسوبوها إلى الجامعات المتكاثرة لنيل هذه الشهادات، وقد أبدى أحد المحامين ملاحظة طريفة قال فيها، أن مهمتهم مع القضاة صارت عسيرة بعض أن وضع كل قاض حرف (د) أمام اسمه في مكتبه... حسناً، لا أحد يقلل من أهمية فتح الجامعات من أجل المعرفة والتحصيل العلمي والأكاديمي، لا أحد يفعل ذلك. لكن الكثيرين يعلمون تمام العلم ويدركون تمام الإدراك أن الجامعات السودانية المتكاثرة، والتي يملك (الخاصة منها) وزراء ومسؤولون كبار ما هي إلا شركات استثمارية، فقد أحيلت مؤسسات التعليم العام والعالي إلى شركات خاصة خاضعة لمعايير الربح والخسارة، لا لمعايير العلم والمعرفة والتقدم والازدهار. والجميع يدركون كذلك، أن خدمة الناس لا تحتاج إلى ألقاب علمية ولا تحتاج إلى كثير معرفة في الأصل، وحتى إن كان المسؤول ذا شهادات علمية رفيعة، فهي لا تهم المواطن في شيء بقدر ما يهمه التفاني في العمل وتقديم الخدمات، ونكران الذات. وهناك قول مأثور لمارتن لوثر كنج يقول: (ليس بمقدور كل إنسان أن يكون مشهوراً، ولكن بمقدور كل إنسان أن يكون رائعاً، لأن الروعة تكمن في خدمة الناس). فليس بالضرورة أن تقرأ جمهورية (افلاطون)، ولا أن تعرف نسبية (انشتاين)، لكي تخدم الناس. ملس زناوي ملهم الأثيوبيين ترك مقاعد الدراسة والتحق برفاقه الثوار الذين جعلوا من اثيوبيا الدولة البائسة الفقيرة ذات الكثافة السكانية العالية، من أكثر الدول الإفريقية استقراراً وازدهاراً. و جاكوب زوما من أروع مناضلي ثورة السود في جنوب افريقيا لم ينل حظاً من التعليم (المدرسي النظامي) لكن حزبه (حزب المؤتمر) قدمه للرئاسة في البلد الديمقراطي المتقدم علمياً ومادياً، لأن (زوما) قائداً حقيقياً وحكيماً... ولأن الحزب يعلم أن القيادة تحتاج إلى رجل حكيم يحمل هم الوطن والمواطنين، فيما جعل أصحاب الفكر وشهادات الدكتوراه والفلاسفة والاقتصاديين والنطاسين من السودان دولة بئيسة مليئة بالفساد والمحسوبية...لأن هذه النخب لا تعي خدمة الناس بقدر وعيها بخدمة نفسها ومجدها الشخصي. [email protected]