‹إن أقبلت نام وإن أدبرت نام› مَثَل عربي اليوم كنت حاضراً في الساحة الخضراء لملاقاة بعض الأصدقاء والصديقات، وبينما كان البشير المطرود يتكلم كانت العوائل تفترش ‹السباتات› وتتبادل السمر وأطراف الحديث، و كان الشباب يلعبون الورق والليدو وكأنِّي بهم يكيدون النظام كيدا، و ثمت آخرين يمارسون المشي والجري في المضمار، وآخرين يتصفحون الكتب فرادىً وأشتاتا على العشب الأخضر وأمام معارض الكتب، يؤكد ما ذهبتُ إليه أنني ومن هم بصحبتي لم نتطرق إطلاقاً لما يجري في المنصة، فتقاسم الفن والرياضة وفضائح المشاهير ونستنا، وتضافرت جهودهم في إيجادِ حلٍّ لمشكلتي مع اللغة الإنجليزية، حتى أنّ صديقتي الجميلة سارا أخبرتني وكلها ثقة أنني في القريب العاجل وفي دولتنا الجديدة لن أنافس في أي وظيفة، وقد لا يكون لي مكانٌ في الدولة الفتية، ليست هذه هي القضية، ولكن تلك الثقة التي تحدثت بها لفتت إنتباهي، إذ أنها أضحت روحٌ تخللت مشاش غالبية من أعرفهم، ضحكنا وكأنَّ شيئاً لم يكن، لم يشغلني حديث المطرود بقدر ما شغلني انصراف الناس عنه، لم أسمع هذيانات رؤوس النظام وتكبيراتهم وتهليلاتهم كالعادة، لم يرقص البشير فليس ثمة من يراقصهم، بدا شاحباً كظيما من أثر الطردة، ربما أدركوا أنّ هذه الشعارات الفارغة لم تعد ذات جدوى لحشد الناس ولا حتى استفزازهم، فقد كان الناسُ يمارسون أنشطتهم بعادية وتلقائية كأي يومٍ من أيام الساحة، لم أسرد هذا الكلام للتقليل من شأن المطرود ونظامه فهو قليلٌ عليل بالضرورة، ولكن لأبين أنّ النظام لم يعد يمتلك تلك القدرة على الحشد والتجييش التي عُرفت عنه، أذكر أننا وفي أيام الجامعة عندما يتم حشدنا لإحدى خطابات البشير الجماهيرية كانوا يوفرون لنا الحافلات والوجبات، بل وأحياناً كروت شحن الهواتف السيارة، ربما بلغت حالة العجز الإقتصادي بالنظام مبلغاً أعجزه عن رشوةِ الجماهير بساندويتشات ‹البيض والطعمية› و سداد تكاليف الحافلات. لقد شهِدَ النظام مُمَثلاً في البشير بأمِّ عينه حجم جماهيريته المزعومة، كان الدخول مجانياً بدون تذكرة دخول كما درجت العادة، لم يحجم الناس بل كانوا كثيرين، ولكنهم جرحوا كبرياء النظام ب‹سَفْهِهِم› إياه. أجزم أنهم صعقوا من لا مبالات الناس بهم، وربما كان الأمر أخف وطأةً في حالِ لو هتف الناس ضدهم في الساحة، إذ أنّ ذلك سيجعل خيار وصفهم بالمخربين أو العملاء متاحاً، بل ربما مارسوا القمع الغليظ تذرُّعاً بتدبير محاولة اغتيال فاشلة لمندسين بين الجماهير، ولكن الناس فوتوا عليهم أي فرصة لصناعة حدث من لا شيء ومعركة في غير معترك، لا شيء يؤلم أكثر من عدم الإكتراث واللا مبالاة، إن الصفعة التي تلقاها النظام اليوم لا تقل عن العصيان، بل هي أشد وطأةً ونكالا، إذ أنّها صفعةٌ في العلن ولا يمكن تفنيدها وإنكارها، أعتقد أنّ النظام يتهاوى لوحده، وما هذه إلا ترنحاته الأخيرة قبل السقوط الأبدي .. _________ وأتعب مَن نَاداكَ من لا تجيبهُ وأغيظ مَن عاداكَ من لا تشاكلُ