فى القرن الماضى إنتشر الفكر اليسارى بمفهومه العريض، وإزدادت بالضرورة الأزرع والآليات التى إعتمد عليها معتنقوه من منظمات وجبهات وهيئات، ولذلك كان صوت اليساريين هو الأعلى فى حركة الشارع والمجتمع ككل حتى لولم يتولى زعماؤه و مساندوه مقاليد الحكم. وقد عملت أزرع الفكر اليسارى وآلياته على زيادة الثقافة وتوسيع مواعينها مما أدى إلى زيادة حصيلة الوعى، ولذا كان من الطبيعى أن يسارع الكثيرون لرفع حصيلتهم الثقافية ، إما لمجاراة ذلك التيار أو لمجابهته . يمكن كذلك أن نصنف القرن السابق كإمتداد لحقبٍ ماضية من عصور التنوير ، خاصة بعد ظهور المذياع والتلفاز وتطور العمل الصحفى وظهور الرواية وبروز الحركة المسرحية بشكل أكبر ، وقد كان المساء أيضاً لا يبخل بفرد أجنحته ليحمل عليها الليالى الشعرية والندوات وماتنتجه السينما ، وبرزت كذلك رؤىً جديدة للكتابات الفكرية والنقدية. حاولت القوى الأخرى مجابهة ذلك المد اليسارى خوفاً من وصوله للسلطة عبر الطرق والوسائل الديمقراطية أو العسكرية، خاصة وأن هنالك عدة دول يتحكم الفكر اليسارى فى منظومتها الحاكمة مما يمكنها من تقديم الدعم للفئات المناصرة فى الدول الأخرى . ولذا ولم يكن أمام تلك القوى المضادة سوى طريقين ، الأول محاربة ذلك التيار عبر إستخدام ذات الأليات والوسائل، ورغم المحاولات المتكررة إلا أنها لم تصب نجاحاً يذكر فى هذا المضمار ، والثانى هو تصوير اليسار كمستعمر أخر ، وقد أتى لهدف وحيد، وهو دثر وتحطيم كل الموروثات والقيم التى نشات عليها الأمم والشعوب، هنا صادفهم كثير من الحظ ، وخصوصاً فى الدول العربية والإسلامية، وكذلك الدول التى لم يكن لها نصيب من حضاراتٍ سابقةٍ أو نهضةٍ إقتصادية. فى خصم ذلك المد والصراع كان للقائد السياسى ورؤساء وزعماء الكيانات الإجتماعية والثقافية والرياضية سمتٌ معين، وتجلت ركائزه فى (الثقافة وحسن السلوك والبعد عن التهاتر وما يخدش الأخلاق قدر الإمكان) ، بل وحتى فى مجال القيادات الدينية والمسؤلة عن المساجد والكنائس والمعابد، كان الناس يقدرون رمزية من يتولون أمرها دون إسفاف فى إنتقادهم . يمكننا أن نقول بإطمئنان أن ذلك كان هو الغالب الأعظم دون إهمالٍ للإستثناءات. دار الزمان ، وتغيرت الأوضاع ودنا لليمين العريض حصاده، إذ كان لابد لصوته أن يعلو فى ظل عمل دوؤب أوساط المجتمعات والكيانات ( إتحادات، جمعيات، لجان، روابط، أحياء ، أحزاب، مدارس، جامعات، أندية...الخ)، ولأن فكر اليمين العريض يستند على مبدأ (التسليم والإستسلام) ويكون وضع من يقودونه أقرب للقدسية، كان لابد من إستخدام وسائل التثقيف ، لا لنشر الوعى ، بل للعمل على نشر الجهل العريض ، فبغير الجهل والتجهيل لايمكن أن يحشدوا الجماهير ويجيشوا الجيوش. علو الصوت اليمينى لم يتجلى فى المنطقة العربية أو الإسلامية فقط، بل ظهر كذلك خلال السنوات الخمسة عشر السابقة فى الغرب كنتيجة حتمية لمجابهة الإرهاب ، وفى ظل هذه الحرب المقدسة كان لابد من أن تنتقل جرثومة الجهل للقطاعات المجتمعية والأجسام الدينية . نتج عن ذلك ظهور شكل جديد للقائد ، ديدنه الرعونة والإسفاف والإبتزال، وعادة ما تكون قراراته وليدة لحظة هياج أو إنفعال. وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً ، وعلى المستوى السياسى، نجد أن افريقيا قد شهدت نموذجاً للقائد السياسى الذى سيتصحب الرعونة معه قبل أربعين عاماً، إن لم تخنى الذاكرة إبتدأ هذا النموذج بالرئيس اليوغندى الأسبق (آيدى أو ، عيدى امين) وبضرورة الحال لم يكن مُعمَر القذافى هو (الأخير)! فيما يخص القيادات المجتمعية وليس السياسية، نجد أن مصر كان لها قصب السبق فى إنتاج النموذج الموجود حالياً، كانت البداية الحقيقة بعد العام 1975، وهو ما يعرف بعهد الإنفتاح. يومها ترك السادات مصر بأيادى اليمين المتطرف والرجعى والتقليدى (سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً) .تزامن ذلك مع بداية الإغتراب إلى المملكة العربية السعودية وعودة البعض منها بتغير فى الشكل والمخبر، نساءً ورجالاً. ولذلك يعتبر - على سبيل المثال لا الحصر- أن بعض المؤثرين مجتمعياً فى الوقت الحالى أمثال السادة (توفيق عكاشة- عمرو أديب – مرتضى منصور- سعد الصغير – محمد سعد – السبكى إلخ... )هم أبناء شرعيين لسيادة اليمين بكل طوائفه على المجتمع المصرى، ولأن مصر قدوة للعالم العربى والإسلامى ، وبمثلما كانت منارة ثقافية وعلمية وأدبية وسياسية، كان لابد من أن يتأثر الآخرون بالغث من المنتوج المضاد، وأول المستوردين لذلك النمط الجديد كان هو السودان بحكم القرب والجيرة، ولأن الظروف السياسية خلال الثلاثين عاماً السابقة، ساعدت على ذلك ، بالإضافة إلى العوامل السابقة، فقد لعبت العولمة، (ممثلة فى الإنترنت والوسائط المشتغلة عليه) دوراً بارزاً فى أن يكون لمثل هذه النماذج شبيهاً فى الغرب ، وسرعان ما بدأت رحلة الهبوط . ترتب على هذا الأمر أن تم إنتخاب رئيسٍ لأكبر دول العالم يقول عددٌ مقدر من الناس أنه على ذات الشاكلة، ولأننى كما قلت سلفاً أن الإنحطاط يعد بمثابة الأمراض المعدية فسنجد فى القريب العاجل أن هذا النموذج قد تم الإحتذاء به فى معظم الدول الغربية، وقد ضرب بجذوره أيضاً فى كل كياناتها المجتمعية. وبعد أن يكمل اليمين دورته الحياتية، سينتهى الإنحطاط ، لنبدأ مرحلة أخرى وعصراً آخراً من عصور التنوير. فكل دورٍ إذا ما تمَّ ينقلب. محمود ،،،،،،، محمود دفع الله الشيخ / المحامى [email protected]