كيف نعالج تباعد بعض القانون الوضعي عن الأخلاق التي دعا لها الدين، وتباعد بعض أحكام الشريعة عن حقوق الإنسان السائدة اليوم؟ هنالك سؤال حول جزئية من القوانين الوضعية خارج الشريعة وهو نفس السؤال الذي تواجهه الشريعة المقننه عندما تفقد بعدها الإيماني الاعتقادي لتصير قانوناً يحتكم إليه سائر الناس، كيف نعالج غياب البعد الإيماني التعبدي في تقنين الشريعة؟ كيف لنا أن نربط بين الشريعة المقننة والإعتقاد بعد أن تتحول إلى قانون يحتكم إليه الجميع؟ من أين لنا بالقضاة الربانيين والشرطة كاملة النزاهة والطهارة والمحامون كاملي الصدق في تحري الحق؟ من أين لنا بكل هؤلاْ لكي نطبق بهم شرع الله؟ نلاحظ أن هذا الربط بين الشريعة والقانون العام يكون ممكنناً فقط في الكليات بينما يصعب كثيراً في التفاصيل بسبب أن الكليات جامعة بينما التفاصيل خصوصية. لن يتحقق الربط الحقيقي بين الشريعة والواقع المتطور إلا بالجمع بين الشريعة والعقيدة (تصورات الايمان والانسان والوجود، بما في ذلك معاني الرحمة والرعاية وكرامة الانسان) وهو ما نسميه مشروع إكمال الكتاب بالحكمة حيث الكتاب هو الشريعة والحكمة تشمل العقيدة والأسس الإيمانية التي قامت عليها الشريعة والتي هي وجه من مقاصدها. وذلك عبر تحويل الحدود في تجريمها وفي عقوباتها إلى نطاق للتجريم ونطاق للحكم بدلاً من قطعية التجريم وقطعية الأحكام فيما أسميناه وأسماه آخرون بالحد الأدنى والحد الأعلى في الجريمة وفي عقوباتها وهو ما عرف بالتعزير. هل يصح أن نجعل التعزير هو الأصل عندما نقنن الشريعة بينما تكون قطعية الأحكام لمن أراد أن يتطهر أو من تكرر منه الجرم حتى صار عادته وصفته (أكثر من ثلاث مرات مثلاً). يقول الأستاذ جمال البنا في ذلك "من الإجتهاد المقبول عدم تطبيق حد السرقة على من يسرق أول مرة". ونحن هنا نتحدث عن مقاصد التجريم ومقاصد الأحكام وغاياتها وليس الأحكام في ذاتها لأن مقصود الشرع ليس دائماً الأحكام في ذاتها فقط وإنما كذلك الأهداف التي تحققها. من السهل ملاحظة ذلك في تتبع نزول الشريعة الموسوية والمحاولة الإصلاحية التي قام بها السيد المسيح. يخبرنا تسلسل اليهودية والمسيحية بأن السماء ليست معنية بالدرجة الأولى بنوعية الأحكام بقدر ما هي معنية بالنتيجة والثمرة، ذلك لأن فلسفة الشريعة تهدف إلى خلق الإنسان الحقيقي الذي ضاع نموذجه بخروج الإنسان من الجنة. الغاية الكبرى من الدين هي تنظيم علاقة البشر بالله وردِّها لمسارها الصحيح لكي تستقيم علاقتهم مع بعضهم البعض ثم تستقيم علاقتهم بالطبيعة. وعندها تتحق الجنة والتي هي نموذج الخلق التام المسمى في مستوى بالجنة وفي مستوى بالفردوس وفي مستوى آخر بالملكوت. "وفي الحق أن الدين سواء كان مسيحيةً أو إسلاماً إن لم يستوعب كل نشاط المجتمع ونشاط الأفراد ويتولى تنظيم كل طاقات الحياة الفردية والجماعية على رشد وعلى هدى فإنه ينصل من حياة الناس ويقل أثره ويخلي مكانه لأي فلسفة أخرى" (الاستاذ محمود محمد طه). تقنين الشريعة الاسلامية (2) تقنين الشريعة هو نقل لأحكام الدين خصوصاً في العلاقات والمعاملات من عالم الدين إلى عالم السياسة والدولة وأمور الدنيا. تقنين الشريعة هو تحويل أحكام الشريعة والإيمان إلى قانون عام يحتكم إليه جميع الناس مسلم وغير مسلم. ولكن السؤال المهم هو متى إفترقت أحكام الشريعة عن الأحكام العامة. من الواضح أن الشريعة روحاً وحكماً كانت تحكم أحكام القضاة عبر تاريخ الإسلام. وعملياً سعى الفقهاء لتوسيع ثوب الشريعة بالإجتهاد بشتى أنواعه لكي تسع مستجدات الحياة. ظل الفقهاء عبر تاريخ الإسلام يمثلون السلطة التشريعية (المستمدة من سلطة النص المقدس) وذلك عبر الفتوى، وكذلك يمثلون القضائية. والتقنين من الممكن أن يحول كل القضاة إلى مشرعين مجتهدين. وقد اعتبر القضاء في دولة الإسلام من الوظائف الدينية، ويقول د. حسن الباشا: "ربما كان الإسم الرسمي للقاضي هو الحاكم". وبالفعل كانت المحكمة تسمى الحكومة. وقد عرف حكام إسرائيل الأولى بعد موسى بالقضاة ومنهم صمويل وشمسون. وهم يعادلون حكم الخلفاء الراشدين فقد كانوا مشرعين (سلطة الأنبياء) وحكام وأئمة في الدين. تحديث وسيلة للتوفيق بين العقائد والسلطة مسألة مهمة ولكنها لا تتحقق عبر اطروحات الدولة الدينية او الدين السياسي التي تملأ الساحة اليوم. والفشل في تحقيق مثل هذا التوافق والتماهي يعود لغياب الفهم الصحيح للعقيدة والفهم الصحيح عن الله. والفهم الصحيح يأتي بالعلم والذي هو فوق العقيدة أو إن شئت قلت ان العقيدة حلقة بين العلم (الحقيقة) والشريعة. لن يتأتى هذا الفهم السليم إلا بظهور نوع جديد من البشر الذي جمع بين الكمالات السماوية الربانية والارضية الدنيوية، وهو أمر توافرت له الأسباب في زمننا هذا من إنتشار للتعليم والمعرفة، ورقي في الضمير الإنساني يجعل من السهل على الناس الفهم عن السماء بطريقة أكثر وضوحاً وجلاء، وتوافر الناس لتحصيل علوم الدنيا قد قطع شوطا بعيدا. لقد كان الأنبياء كل في زمانه صورة من تلك الصور، ولن تكتمل الصورة إلا بزيادة أعداد الذين تخلقوا بأخلاق النبوة. وحتى ذلك اليوم لا نملك إلا أن نميز بين حكم الله وحكم الناس. ويعود هذا الوضع الغريب الذي يعيشه البشر للصراع بين الروح والجسد وبين المقدس والدنيوي بسبب أن الجسد والدنيا يسيطر عليهما وعي مناقض وهو ما يعرف بالوعي الشيطاني في المفهوم الديني. فحتى يعود الأمر كله بيد الله نبقى على وضعنا هذا في التمييز بين الدين والدنيا. والتمييز لا نقصد به تعطيل أحكام الدين ومجافاة الأخلاق والقيم. هنالك درجات للأحكام بين أحكام مجملة وأحكام مفصلة، وكلها تقوم على الحكمة المجملة والحكمة المفصلة والأحكام المجملة والمفصلة. وهذا يؤيده قول الدكتور عبد الكبير: "القرءان أتى بثلاثة أنواع من الأحكام: الأحكام الإعتقادية الأحكام الأخلاقية الأحكام العملية [email protected].com