"وما وسعني أرضي ولا سمائي وإنما وسعني قلبُ عبدي المؤمن". (حديث قدسي) "فأنا قلبي مأوى الضعفاء وأنا حبّي خبزٌ للمحرومين وللتعساء وأنا من كفّي ألواحٌ نجاةٍ وقوارب وأصابعها تمتد حبالاً للهاوي تمتد دروباً للهارب أبوابي ليس بها حرّاس يفتحها حبّي للناس لكلّ الناس". الشاعر السوداني صلاح أحمد إبراهيم الحديث القدسي في مقدمتي هذه إشارةٌ مباشرة قوية ومطلوبة، تطلب قوة الروح وحياة القلب حين يكون صالحاً، إليه تدخل الأعمال الصالحة ومنه للناس تأتي البشارات والتعاضد والتعاطف والأمل المفتوح في غير منّة.. بل هو كل شيء في اللحم والدم.. وفي كلمات الشاعر صلاح أحمد إبراهيم تلك الأبواب التي ليس لها حرّاس ويفتحها حبّه للناس، لكل الناس، وبين هذا وذاك يكون دخولي على عالم د.إشراقة مصطفى وأنا أخلع نعلي في أوديتها وعوالمها وأسرارها الباتعة ووجودها النافع وسهمها الفريد. ومنذ أن عرف الإنسان الكتابة تحولت حياته إلى تدوين آثاره.. هذه الآثار العميقة غائرة الجهد والفكر والإبداع الذي ترك أثره على مجمل تاريخ الإنسان الحديث.. حين جاءت الكتابة كانت بديلاً للشفاهية وخلقت تلك التحولاتِ النوعية في المعرفة والرسائل الفكرية.. لذلك نحتفي دائماً بالكتابة وبالذين يكتبون ومنهم إشراقة التي يلحق اسمها الآن بأسماء الذين أحدثوا الفرق في السياسة والفكر والأدب عبر التاريخ، والتي ما زالت لها "شِفرتها" الخاصة التي تصهل في عبارتها الحاشدة وهي التي تشردت في الأزقة لتعرف المدن والأنهار وكان لها ذلك بأكثر مما تتصور. في مطلع ستينات القرن الماضي نشأت إشراقة في مدينة "كوستي"، وكانت عيناها تبرقان عناداً وتطلّعاً وذكاءً يشير إلى أنها ستصبح في يومٍ ما ذات شأن لتعمل مع الكبار الذين ألهموها بالأدب والفن والفكر والشعر كما ألهموا البشرية في تلك الأوقات الصعبة لإعادة صوغ نظام العلاقات في هذا الوجود في زمانية مفتوحة على التحول المتواصل في ما يُعرف بالقدرة المسيطرة والوسيلة الكلمة لإعادة التعليم العاطفي. انطلقت إشراقة لا تلوي على شيء وكانت أشبه بمن يُقاد بحبل القدر السرّي نحو مصيره الموعود صوب الإبداع والتحقق وإكمال الذات.. ما كان ذلك ليتحقق إلا عبر معاقرة مشاوير الصبر وتحديد الأهداف والتعامل الصارم مع الوقت واحتمال الأذى من هنا وهناك مع محمولات الثقة الأصيلة الكامنة في النفس. ولا شك لديّ بأنها استطاعت أن ترتفع بمنزلة الكتابة إلى أفق ظلت البشرية تنشده على الدوام في خلق عالم أفضل. هل يعرفها الدانوب؟ انطلقت إشراقة، وفي انطلاقها كانت غير قابلة للارتداد حين قضت نصف العمر الأول في إنجاز كل ما من شأنه أن يقودها إلى المرافئ الجديدة يكثف الوعي والتجلّي.. والنصف الآخر ما زال يشهد ملحمة تحقيق الأحلام الكبرى، فكانت غواية الكتابة بحيث يقود كلّ ذلك إلى ملامسة العصر والجذر الإنساني.. خرجت إلى باحة التجربة الواسعة وبحبوحة الإنسانية حيثما كانت وأينما كانت وكيفما كانت.. وكان وما يزال هذا ميدانَها وساحةَ معاركها ومحبتها وإيمانها وهي تستلهم الكبار ذوي الحدوس الباهرة واللفتات الإنسانية العميقة من الأدباء والشعراء والمفكرين ورسُل المعرفة والنضال من أجل الإنسان.. وظلت تأخذ في طريقها كلّ هولاء مع أنفاس الورود والغناء والموسيقى والرقص ضمن طقسٍ جماليّ.. دائرة تتسع وتشير إلى العلاقة بين الإنسان والطبيعة وهي ما تنفك تفكّك "شِفرة" تلك العلاقة عبر القلم كدلالة على الكتابة وتقتات روحها من كل ذلك وترسل النتائج الباهرة في خطّ أفقي بين نيل أبيض في مدينتها الأسطورة "كوستي" ودانوب النمسا وجبال الألب. وهل يعرفها الدانوب؟ لقد استطاعت إشراقة أن تمسك بالمفاتيح الرئيسة للأسئلة الكبرى في الوجود، كما استطاعت أن تلقي القبض على الخوف من خلال سيرة حياة ما كان يمكن أن تنجو من أهوالها ونيرانها.. تجاوزت كل ذلك وأوقدت شموعها وسط الظلام وأبحرت في جراح الإنسانية وأبدت جسارة لا نظير لها في مقاومة القبح واختلال الموازين وهي تنظر إلى قضايا الهوية واللون والعنصرية والتمييز والحرية والعدل والهجرة والنزوح. بل أصبحت الخبيرةَ التي تقدم الاستشارات هنا وهناك حيث يواجه الإنسانُ ظلمَ أخيه الإنسان.. ولا عجب إن احتلّت كلماتُ المستشارة الألمانية "إنجيلا ميركل" عقلها وقلبها ودوّنتها في شكرٍ جزيل في سِفْرها هذا حين انحازت "ميركل" إلى الذين طرقوا أبواب ألمانيا طلباً للهجرة وقالت كلمتها المؤثرة: "سننجز ذلك امتثالاً لمهامّنا التاريخية". هل يعرفها الدانوب؟ أربعة وعشرون عاماً في النمسا وإشراقة ممسكة بالقضية في محبة نادرة.. أسئلة الوجود حاضرة.. والموت يهبُها الحياة.. وفعل الكتابة حريةٌ وانعتاق ومحبة.. الثقافة المادية والفلكلور والتراث رسائل فكرية وتأملات فلسفية وانحياز مطلق للجمال.. وهي تُصوّر كل ذلك في كتابات من النور وتكاد تسمع موسيقاها التصويرية من "ساكسفون" أغاني "البلوز" تتداخل مع الإيقاع الأشهر في السودان وفي حي الرديف في مدينة "كوستي"، إيقاع "التم تم" ومهرجاناتُ الرقص والغناء تلون المدينة بألوان المحبة والسلام.. وبين "كوستي" وفيينّا يعوي الحنين. اللغة تتحول إلى معادل لاستمرار الحياة، وقد بدت رحلة إشراقة مع اللغة الألمانية صخرةً في البدايات، انتهت بها إلى أن تصبح مترجمة للأدب والشعر من العربية والإنجليزية إلى الألمانية، وهي لا تنسى عثراتها الأولى مع هذا التحدي الفريد. هل يعرفها الدانوب؟ جراحاتها الخاصة وتلك الندوب البائنة ظلّت تزدهر وتتحول إلى بساتين من الورد وحقول من العطاء.. وبين الخاص والعام تنهض قضايا اجتراحات الهوية واللون والعنصرية، وكيف ازدهرت تلك الجراحات وينابيع المقاومة ونساء إفريقيا الشموس.. وتخْلُص إشراقة في كلمات قليلة وتقول: "الإبداع هو الطريق نحو الكونية والحكايات المكتوبة بأحبار حّمى الحنين للعدالة والمساواة". ويبقى الحنين إلى الوطن في مقارباتها العجيبة بين هدهدة القطارات في سهول النمسا وقطار نيالا في غرب السودان، وتستدعي الذاكرة تفاصيل الأسفار في السودان والأغنيات والحنين الدافق في غناء البنات. ولمّا كان الفقر عند إشراقة لا يمسّ غنى الروح، ظلت ذاكرتها المتخمة بالأوجاع حاضرة، ولكنها تُخضعها لفعل الكتابة الذي هو معادل للحب بكل معنى كلمة الحب. نجيب نور الدين إعلامي وصحفي وكاتب سوداني.