(بفعل السياسات الزراعية التي اتخذت في بداية العقد الأخير من القرن المنصرم انخفضت مساحات القطن مقابل التوسع في زراعة الغلال بالإضافة لسياسة حل المؤسسات الزراعية الكبرى، النيلين الأزرق والأبيض، طوكر، جبال النوبة، القاش والزيداب مع الظروف الاقتصادية الحرجة التي سادت وقتئذ والتي أفرزت تضخما جامحا أدى لارتفاع تكلفة الإنتاج عموما والقطن خاصة ورفع الدولة يدها عن التمويل الزراعي وأخيرا استخراج البترول وبذلك أهملت الزراعة تماما. كل هذه العوامل أدت لانخفاض إنتاج القطن في السودان بمقدار 70 % مما أفقدنا شريحتنا المألوفة في السوق العالمي وخاصة في سوق الأقطان الفائقة الطول والطويلة التي كنا ننتج منها حوالي نصف مليون بالة لسوق اليابان، إيطاليا، ألمانيا وغيرها وقد تحولوا الآن لشراء أقطان البيما الأمريكية والإسرائيلية والبروفية (طويلة التيلة) ومن الصعب إعادتهم ثانية لأقطان البركات السودانية. بانخفاض إنتاج القطن فقدنا عائدا مقدرا من العملات الصعبة كما أدى إلى انهيار صناعة الغزل والنسيج والزيوت وفقدت الماشية علف الطلق والكسب خلال موسم الجفاف). أشرنا بالأمس إلى دعوة كبار خبراء الزراعة من أمثال البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله وبروفيسور قنيف وغيرهما من العلماء الذين زاروا مناطق الإنتاج بسمسم جنوبالقضارف رفقة السيد وجدي ميرغني للوقوف على تجربة الشركة الأفريقية الزراعية في تطوير المحاصيل النقدية.. أشرنا لدعوتهم لضرورة مراجعة السياسات الزراعية بما يحقق الريادة للقطاع الزراعي ويضعها في مكانها الطبيعي في مقدمة قاطرة الاقتصاد.. وما أوردناه أعلاه هو جزء يسير من ورقة علمية أعدها السيد وجدي ميرغني وعرضها أمام أولئك الخبراء بحضور النائب الأول لرئيس الجمهورية ومرافقيه من التنفيذيين وعلى رأسهم وزيرا الزراعة والمالية.. ولم نقف على ردود أفعالهم عليها رغم وجودنا (اثنان من رؤساء التحرير وشخصي) قرب قاعة الاجتماع.. وليس بداخلها لتقديرات تخص المراسم كما علمنا.. وقد علمنا لاحقا أن النائب الأول قد وجه بتطوير ورقة وجدي وعرضها في ورشة عمل تنعقد بالخرطوم.. وليت وزارة الزراعة تتابع الأمر بما يستحق من اهتمام..! الشاهد أن ورقة وجدي ميرغني تعكس مدى خطل السياسات ومدى الضرر الذي لحق بالقطاع الزراعي بفعل اجتهادات غير مدروسة.. وخطوات وإجراءات عجلى ومتسرعة.. لم يكن لها حظ من الدراسة والتمحيص.. بل ولا حتى حسن التقدير.. على سبيل المثال فقط.. لا الحصر.. فالورقة تكشف أن التراجع في زراعة القطن.. لم تقف نتائجه الكارثية عند القطن فقط.. بل امتدت لتشمل معها صناعة الغزل والنسيج والزيوت والأعلاف.. إلخ.. هذا علاوة على الأسواق العالمية الضخمة التي خسرها السودان.. غير أنه وفي المقابل فإن تجربة وجدي ميرغني العملية في سمسم وغيرها من مناطق الإنتاج الزراعي في السودان.. تؤكد أن كل الذي حصل يمكن تجاوزه.. وكل الخراب يمكن إصلاحه.. وكل ما فقد يمكن استعادته.. فقط المطلوب.. الإرادة السياسية الغلابة.. والعزيمة.. وقناعة الدولة في أن لا بديل للزراعة إلا الزراعة.. وأن تتحول كل أذرع الدولة الأخرى لخدمة الزراعة وليس العكس.. والواقع على الأرض هناك يؤكد أن ما أنجزه وجدي ميرغني لوحده.. والعديدون غيره.. وهم يشكون لطوب الأرض.. من إهمال الدولة.. ومن عدم رعايتها للقطاع الزراعي.. يمكن أن يحققوا أضعاف أضعافه إن وجدوا رعاية من الدولة.. وتدخلها الحميد.. بالسياسات الرشيدة والتوجيهات السديدة والتمويل الميسر.. والقوانين الحامية.. لا التدخل الخبيث بفرض الرسوم والمكوس والجبايات والضرائب..! تجربة الشركة الزراعية الأفريقية في إعادة الاعتبار لمحاصيل نقدية كالقطن وزهرة الشمس والذرة والذرة الشامية وفول الصويا.. بميكنة الحقول.. ثم بتطوير المحصول.. ثم إنشاء الصناعات التحويلية المتنوعة.. ثم تسويقها بفتح أسواق عالمية جديدة.. تستحق أن تقف عندها الدولة لأنها بساطة تقول.. الإصلاح ممكن.. وإعادة الحصان إلى أمام العربة ممكن جدا..! اليوم التالي