في يوم من العام 1971، والذي ربما كان في أواخره، وصلتْ الأخت طيبة محمد الحسن؛ بت جيراننا بالسوكي حي الدريسة، قادمة من مدينة عطبرة حيث تقيم ويعمل زوجها بالسكة الحديد ، وصلتْ طيبة ضُحى ذلك اليوم، بقطار مشترك بورتسودان،في زيارة لبيت أمها وأبيها وأخوانها: أولاد وبنات عمي محمد الحسن وداعة الله وخالتي زينب بت حاج طه. وهي لا شك جاءت بالدرجة الأولى أو الثانية سكندو، في اسوأ تقدير، وبتصريحٍ صادرٍ من رئاسة هيئة سكك حديد السودان. فرحنا لقدومها فرَحين : فرحٌ لفرح أهلها ، وفرحٌ لأنها قادمة ومعها أخبار أختي التومة الحمرا التي تزوَّجت ورحلت حديثاً مع زوجها - إبن عمي - جعفر عثمان ، الذي يعمل هو الآخر خرَّاطاً بورش المرَّمة برئاسة سكك حديد السودان بعطبرة ويسكن حي الدِّاخلة ، وجود طيبة بعطبرة، بل وبحي الداخلة ، كان أكبرُ خافضٍ لقلق أمي وأخواتي على معاناة التومة-المُتوَهَّمة- من الغربة وهي بعدُ عروس . ذهب ناس بيتنا للسلام على طيبة، وحمدلة السلامة لبت حاج طه، والإطمئنان على صحة التومة وجعفر( أسامة لم يولد بعد) وعادوا مسرورين محمَّلين بالهدايا وكرتونة بها بعض خيرات عطبرة التي كانت ، في ذلك الوقت ،من مدن القارة الكبيرة ، بالإضافة لذلك كان هناك ما هو أهم من تلك الهدايا : خطاب مغلِّف في مظروفٍ أبيضٍ تمسك به أمي - الأمية التي لا تعلم الكتابَ إلا أمومةٌ ومحبة – بحرص من يمسك مقدَّس . تحلَّقنا حول أمي وسلوى؛ التي كانت الوحيدة القارئة فينا- فما كانت أحلام ولا كنتُ أنا ولا كان خالدٌ يقرأ- فضَّت سلوى المظروف وبدأت تقرأ بصوتٍ هدَّجه الشوق،فلكأنها ترتَّلُ قرآناً، حتى اعترتنا جميعاً، حين رأينا دموع أمي، حالة من الوجد ، كانت أمي تسمع- كأنها لا تسمع- وهي مسترسلة في دعواتها بصوتٍ خفيض ، في ذلك الجو المشحون كنا نوشك ، جميعنا، على الانخراط في البكاء مع أمي التي لوَّعها انفضاضُ سامر بناتها في زمنٍ لم تكن الأسفارُ فيه ، داخل القُطر، كثيرة؛ دع عنك خارجه ، فقد سبق رحول التومة إلى عطبرة؛ ان رُحِّلتْ علوية ، أختى الكبرى، إلى بيت زوجها بقرية فحل الشايقية بالجزيرة، ثمَّ رُحِّلت، بعدها، التومة الزرقا إلى بيت زوجها بالقضارف، عصام كان بعيد(!) في داخلية المدرسة بالدندر، لذا فقد جفَّت الحياةُ في البيت، مؤقتاً، حتى استدار الزمانُ دورةً سعيدةً؛جاء فيها اولادهن وبناتهنُّ ليبثوا في البيت حياةً ضاجةَ صخَّابة ما شافت الدريسةُ مثلها . بدأتْ سلوى تقرأ لأمي وتقرأ وتقرأ ،وبينما نحنُ نتنقَّل، بصوتِ سلوى ، مع كلمات وجمل وعبارات الخطاب المرسل من التومة؛ علمنا ، في آخره ، أنها قد أهدَّت لنا أغنية ستذاع في برنامج ما يطلبه المستمعون الذي يُبث صباح كل جمعة من إذاعة هنا أمدرمان ؛ ولم تترك التومة أية فرصة للمفاجأة فذكرتْ اسم الأغنية : يا نسمة كيف أخبار أهلنا وحيَّنا ، والمغني : عبد الرحمن بلَّاص ، وما كان ذلك ليقلِّل من شوقنا ولهفتنا ، فقد تعوَّدنا على متابعة ذلك البرنامج مع أهلنا، مذ كنا أصغر، بلهفةٍ وترقُّب وما كان تركيزنا محصوراً على الأغنية وحدها؛ بل على مُهدِي الأغنية والمُهداة إليهم؛ فلربما أهديَتْ لنا -أو لمن نعرف -أغنيةً تخفُّف من جائحة الشجن العام ، لذا فقد بدأنا بمتابعته ، هذه المرَّة ، بشوقٍ خاص وتوتِّر حميم حتى كانت الجمعة الثالثة حين بدأ البرنامج بشعاره الشهير الذي كان الناسُ يجارونه بلحن أغنيةٍ شعبيةٍ رائجة تقول كلماتها : سيد اللبن جاء يا نفيسة .. طالبني قرشين في المريسة . جلسنا في قلق وترقُّب نستمع حتى حانت اللحظة المنتظرة؛ حين قالت المذيعة محاسن سيف الدين بصوتها المميَّز: التومة عبد الملك بعطبرة تهدي الأغنية للوالدة آسيا آدم والأخوات والأخوان والأهل والجيران بالسوكي و... و...و .. ، بعدها لم نستبن ، من فرط الغبطة والوجد ، من كلامها شيئاً . الأغنية التي سمعناها لم تكن هي الأغنية التي طلبتها التومة وأخبرتنا بها في الخطاب، لكن لم يقلِّل ذلك من غبطتنا شيئاً ولم يقلِّل من سيل الدموع المنسكب من كل العيون . غنِّى زكي عبد الكريم يا حليلك يا بلدنا ، وفيما بعد فهمنا أنَّ معد البرنامج عادةً ما يقوم بالتقريب لأقرب أغنية مشابهة طلبتها أغلبية من الناس ، وقد كانت أغنية بلَّاص : يا نسمة كيف أخبار أهلنا وحيِّنا ، تشابه أغنية زكي : يا حليلك يا بلدنا؛ ولا تثريب . الآن وأنا في هذه الغربة الباردة اللزجة، على بعد بضعٍ وأربعين سنةً من ذلك اليوم ، حزينٌ مضعضعٌ بالأشوق : أشواق لأمي آسيا وأختى علوية وهنِّ- بإذن الله - على رفرفٍ خُضرٍضاحكاتٍ-كعادتهنَ- ومستبشرات، ولجعفر الذي في الجنَّات يُحبر ، أشواق للتومات ولسلوى؛أخواتي أمهاتي اللاتي حملن أمانة الأمومة والمحنَّة،أشواق لناس بيتنا،أشواق لأهلي، أشواق لناس حيَّنا؛ أشواقٌ أسآئل بها هذه النسمات الباردات مع السر عثمان الطيِّب وصوتُ محمد جبارة يفجِّر فيَّ الوجد والدموع ، وأنا كهل، بأكثر مما تفجَّرتْ وانا طفل : يا نسمة كيف أخبار أهلنا وحيِّنا ؟ أحكيلي عاد ما باقي طوُّلوا مننا ؟ .