بينما كنت أقود سيارتي متجهاً إلى الخرطوم يوم أمس "الإثنين"، فإذا بأحد أفراد شرطة المرور يوقفني عند منطقة "أبو حمامة"، ويطلب مني إبراز شهادة ترخيص العربة ففعلت. وعندما تفحّص الشهادة وجد أنها منتهية الصلاحية، فأخبرني أن القانون يمنحه الحق بحجز السيارة، لكنه سيكتفي بتحرير مخالفة لي، من باب تقدير الموقف، على أن أقوم بترخيص العربة بأعجل ما يمكن. احترمت تعامله هذا وأكبرت صنيعه، ولكنني تفاجأت بأنني لا أحمل معي أي مبلغ من المال، ولو جنيهاً واحداً، فأخبرته بذلك، ولكنه تمسك بعدم السماح لي بالانصراف. فأكبرت موقفه مرة أخرى. ولم أطلب منه ثانياً أن يسمح لي بالمغادرة. المهم أن هذا الأمر انتهى بأن ذهبنا إلى "حوش الحجز" في منطقة "أبو حمامة" جنوبي الخرطوم، تمهيداً لحجز العربة، إلى حين قيامي بترخيصها. وهناك شرعت في عدة اتصالات مع عدد من أصدقائي، علني أحصل على قيمة المخالفة المرورية، لتسديدها ومن ثم أخذ سيارتي، لكن كل محاولاتي انتهت بالفشل لأن أقرب أصدقائي ممن هاتفتهم طالباً مساعدتهم كان يبعد عني بعشرات الكيلومترات. طبعا حاولت الاستعانة بخدمة تحويل الرصيد فلم أنجح، لأن هاتفي لا يدعم هذه الخدمة. ولا أخفيكم أنني حاولت أن أقوم بتحويل الرصيد في هاتف أحد الشرطيين لكنه تحفظ بداعي صيانة سمعته. وفي غمرة ذلك كله استسلمت للأمر الواقع، وقمت بإكمال إجراءات حجز العربة. وفكرت في مغادرة "حوش الحجز"، للحصول على دابة توصلني إلى حيث مقر الصحيفة. وكان الخيار الوحيد المتاح أمامي هو أن أستقل عربة أمجاد، وأن أتصل على أحد الزملاء بالصحيفة لتجهيز قيمة أجرة العربة. ولكن، إذا برجل الشرطة الذي طبّق القانون في مواجهتي بصرامة شديدة داخل "حوش الحجز"، يقوم بمنحي خمسة جنيهات لكي أصل بها إلى مقر عملي، وذلك حينما تفطّن إلى أنني لا أملك حق المواصلات. طبعاً لن أستطيع أن أصوّر لكم أحساسي حينها ولو امتلكت قدرات أحذق الروائيين، فقد كان الموقف أكبر من كل تصوراتي. ذلك أن رجل المرور أخبرني – عندما رأى استغرابي - بأنه يملك حق التصرف في ماله الخاص، ولا يملك تفويضاً يسمح له باستثناء أحد أمام القانون. ولا أخفيكم أنني أحسست بحالة من الزهو وأنا أسمع لذلك الرجل الفريد، الذي عرفت من خلال تطبيق "تروكولر" في هاتفي الجوال أن اسمه "أبوذر الحاج حسن"، وذلك بعدما حصلت على هاتفه لاستفساره عن خطوات الترخيص أو أسأله إذا طرأ أي طارئ. وقطعا لن أنسى صورته وهو يطلب من أحد زملائه وأظن أن اسمه (أحمد) – وللأمانة هو لا يقل عن أبي ذر بشاشة وطيب خاطر – أن يزيد الخمسة جنيهات بما يستطيع، فإذا به يعتذر بأسف شديد بأنه لا يملك أي مبلغ من المال. نعم فعل أبو ذر ورفيقه هذا، بينما أنا غارق في تأملاتي واندهاشتي لتصرفهما الجميل.. وأنا أسأل نفسي، أترى لا يزال في السودان نماذج بمثل هذا النقاء وهذه الروعة..! رجل ينتظرك لكي تتصرف وتحصل على قيمة المخالفة من باب المرونة في التعامل، وحينما تعجز يطبق عليك القانون بصرامة، ثم يأتي ويكرم وفادتك برفق. صحيح أنه كان بمقدوري الوصول إلى مقر عملي دون عناء، وذلك بأن أستقل عربة أجرة، ولكن صنيع أبي ذر وزميله كان جميلاً ورائعاً، ذلك أن قيمة الجنيهات الخمسة أكبر من العد والحصر في نظري، مع أنني – ولله الحمد والمنة - على سعة من الرحمن وفضل منه عظيم. وهنا لا أملك سوى أن أسجل إعجابي وانبهاري بهذا السلوك الشرطي المحترم، ولا أملك سوى أن أضعه بين يدي من بيده تطويره. وأعني العقيد الدكتور حسن التجاني، مدير إعلام شرطة ولاية الخرطوم، الرجل الذي يقصده الصحافيون فيجدون من التعامل بالقانون ما هو أكبر من كل التصورات الحسنة. وعلى طريقة الفسباكة لا أملك إلا أن نرسل "تاق" إلى:- مدير شرطة ولاية الخرطوم اللواء حقوقي إبراهيم عثمان عبد الرحيم. مدير الإدارة العام للمرور اللواء خالد بن الوليد. مدير إدارة المرور بولاية الخرطوم اللواء صلاح مهدي. الصيحة