السجال الذى دار فى الأيام الماضيات حول الشهادات العليا لوزير العدل المرشح ابوبكر طاشت كثير من سهامه و الضحية فى هذه الحالة أولا و أخيرا هى الشعب السودانى. الجدل نسى أو تناسى الطريقة التى تم بها إختيار مسؤولى حكومة الوفاق الوطنى و هى طريقة الترضيات و لا بأس بها إن كانت سترسى دعائم الإستقرار السياسى إلى أن ينصلح حال البلاد و العباد و أصلا ليس لدينا خيار آخر فى الوقت الراهن , وكذلك عددهم المهول و الذى يعادل وزراء ثلاث دول عظمى بدون مبالغة, لكن الأستاذ أبوبكر هو شخص واحد فقط و ماذا عن مؤهلات الباقين ؟ قضية أبوبكر كشفتها الصدفة المحضة قطعا وواضح أن الطريقة التى أختير بها هؤلاء هى السمعة العامة و ليست هناك آلية محددة لفحص قدراتهم و مؤهلاتهم. فى الأساس كانت تكفى الاستاذ أبوبكر شهادة البكالريوس فلا يعقل أن يكون وزير العدل غير ملم بخفايا القوانين و تعقيداتها و لكنه وقع ضحية ثقافة القوة التى سادت الاوساط الحزبية و خصوصا الحركة الإسلاموية التى أعلت من شأن السلطة(الجيش و المليشيات) و المال و التعليم و جعلت همها منذ أمد بعيد تجيير هذه العوامل لصالحها و عملت على تجنيد التلاميذ النجباء منذ نعومة أظفارهم و السيطرة على دوائر الخريجين, مما جعل الرجل يلهث وراء الشهادات العليا. الإدارى الناجح ليس بالضرورة أن يكون أكاديميا ناجحا و الأكاديمى الناجح ليس بالضرورة إداريا ناجحا و الأمثلة كثيرة ففى جامعة الخرطوم مثلا كان هناك مدراء للجامعة فى قمة العطاء الأكاديميى و لكنهم فشلوا كإداريين. من الواضح فعلا أن النجاح الدراسي لا يعني بالضرورة نجاحا في الحياة.. و السؤال هو: لماذا؟ الرأي الشائع هو إلقاء اللائمة علي النظام التعليمي نفسه.. و أنه لا يواكب الأنظمة التعليمية في العالم المتحضر. إلا أن هذه الظاهرة عالمية و ليست حكرا على مجتمعاتنا العربية فقط.. فتوماس أديسون (من أعظم المخترعين في التاريخ) لم يتلق تعليما رسميا إلا لثلاثة شهور فقط.. و ستيف جوبز (مؤسس شركة أبل) لم يكمل تعليمه الجامعي وكذلك بيل جيتس و مايكل زكربرج (مؤسس فيسبوك) و غيرهم كثير. فما الشكلة إذن؟ أجرى توماس ج ستانلي (مؤلف كتاب سيكولوجية المليونير) لقاءات مع عشرات الأثرياء ليعرف كيف كانوا أيام المدرسة،، فلاحظ أنهم كانوا يبذلون وسعهم أيام الدراسة إلا أنهم لم يكونوا طلبة متفوقين.. فالتعليم مفيد لأنه أمدهم ببعض القدرة على التفكير و البحث و استرجاع المعلومات.. إلا أنه ليس كافيا وحده لنجاحهم. كما أن نتائجهم في اختبارات الذكاء (الذي يقيس قدرات التفكير المنطقي و الذاكرة و التخيل الفراغي و اللغة...الخ) لم تكن نتائج مبهرة بل كانت عادية كأي شخص آخر. يستنتج الباحثون أن هناك عوامل أخرى تجعل الإنسان ناجحا، بجانب التفوق الدراسي و الذكاء.. يمكن أن نذكر منها التالي: 1-الذكاء الإجتماعى يقول عالم النفس روبرت ستينبرج أن اختبارات الذكاء المعتادة لا تكفي لتقدير القابلية للنجاح في الحياة العملية..هناك "ذكاءات" أخرى ينبغي وضعها في الحسبان، منها الذكاء الاجتماعي. فلو نظرت لأي شخص ناجح في أي مجال، ستجد عنده قدر من الذكاء في التعامل مع الناس و بناء علاقات قوية مع من يعمل معهم... كما أن العلاقات الشخصية شديدة الأهمية للارتقاء المهني.. قد يبدو هذا الكلام غير احترافي إلا أنها الطبيعة البشرية.. فلو كنت -مثلا- صاحب شركة و أردت أن تعين شخصا كأمين خزانة.. هل ستعين شخصا أمامك سيرته الذاتية، أم ستميل قليلا نحو من يرشحه لك أخوك و هو يقول عنه: "أنا أثق فيه" ؟ العلاقات الشخصية تفتح لك الكثير من الأبواب كما تلاحظ.. ففرصتك في الحصول علي وظيفة في شركة يملكها صديقك، أكبر من فرصتك في شركة لا يعرفك أحد فيها! لا يمكنك أن تنجح لو لم تكن لديك علاقات جيدة مع من يساعدونك على هذا.. و هي مهارة لا نتعلمها في المدرسة كما تلاحظ. 2-الذكاء العاطفى يقول الدكتور أحمد عكاشة أن من الذي يتمتعون بهذا التنوع من الذكاء، الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.. لأنه كان قادرا على فهم مشاعر الجماهير و مخاطبتهم على هذا الأساس. الذكاء العاطفي هو القدرة علي فهم مشاعرك و مشاعر الآخرين و التعامل معها.. فالمدير -مثلا- يحتاج إلى القدرة على إدارة الأفراد و تحفيزهم.. و هذا يتطلب قدرا من إدراك مشاعرهم ليعرف متي يستخدم العصا و متى يستخدم الجزرة. بعض الناس لا يستطيعون "مراعاة مشاعر الآخرين" لأنهم ببساطة لا يدركونها... تقول دراسة طريفة أن المراهق ليست عنده القدرة علي تحديد مشاعر الآخرين من تعبيرات وجوههم كالشخص الناضج، لذلك تكون علاقاتهم متوترة مع من يتعاملون معهم.. هذا نوع من الذكاء العاطفي. حين يكون الإنسان ذكيا أو متفوقا دراسيا، فهذا لا يعني أنه -بالضرورة- قادر على التعامل مع مشاعره الداخلية و مشاعر الآخرين.. هذه مهارة ينبغي اكتسابها و تطويرها كي يستطيع الإنسان تحقيق أهداف أكبر.. فالطبيب قد يكون متفوقا في مجاله لكنه عاجز عن إدارة الأفراد في عيادته أو تكوين علاقة جيدة مع مرضاه، فتفشل عيادته. 3-القدرة على مواصلة التعلم و التكيف يقول ستينبرج أن الذين يتمتعون بمعدلات ذكاء عالية يميلون لألا يعتمدوا على الآخرين في اتخاذ قراراتهم.. لثقتهم في أنفسهم و قدرتهم على التفكير.. و هذا يوقعهم في كثير من الأخطاء و يسبب القصور في عملية اتخاذ القرار الصحيح. الحياة ليست كالاختبارات الدراسية.. لا توجد إجابة صحيحة و أخرى خاطئة فهناك إجابات إبداعية تخلقها أنت بنفسك..لا توجد إجابات نموذجية أو قوالب ثابتة عليك الالتزام بها كي تنجح.. لذلك ينبغي ألا يعتمد الإنسان علي المعارف الموجودة عنده فقط كي يقرر ما هو الأنسب.. بل عليه أن يطور هذه الأدوات باستمرار و أن يستوعب المتغيرات التي تحدث في الحياة.. فلو أحضرنا عبقريا كابن سينا أو الخوارزمي لعصرنا هذا و أجلسناه أمام كمبيوتر، سيكون مستواهما أقل من طفل صغير.. لأن العصر الحديث يحتاج إلي مهارات جديدة للتعامل مع متغيرات لم تكن موجودة في الماضي. الذكاء ليس كافيا للنجاح بل عليك أن تستمر في تطوير أدواتك. مهارات الحياة الدراسة مهمة لأنها تعطينا المعارف الأساسية و الثقافة العامة كي نفهم العالم من حولنا.. و الذكاء مهم لتحصيل كمية أكبر من المعلومات و استيعابها و الربط بينها لتكوين تصور متقدم للحياة.. لكن النجاح في الحياة يحتاج أيضا لمهارات لا تتوقف عند الذكاء أو التحصيل الدراسي.. فعلى الإنسان أن يسعى لتطوير نفسه باستمرار لا أن يرضى عن نفسه معتبرا أنه وصل لقمة العبقرية و أنه لا يحتاج لتطوير أي مهارة جديدة ، لأنه لو اعتقد هذا فالخطوة الحتمية التالية هي الانحدار. و تلك مشكلة أخرى يعانيها بعض من وصلوا عندنا لمرحلة الدكتوراة و البروفسور.. يظنون أن العالم توقف عندهم و أنهم لا يحتاجون لمزيد من التعلم..أما فى الدول المتقدمة علميا فإنك لم تتطور علميا فستوضع فى المتحف بل أن اصحاب الرخص مثل الأطباء و المهندسين و القانونيين عليهم الجلوس كل عدة سنوات لامتحان يثبت مواكبتهم للمتغيرات فإن فشلوا فيه يمكنهم الإحتفاظ بشهادتهم الجامعية لكن لا رخصة لهم لمزاولة العمل. لقد دبجت كثير من المقالات فى و صف مقدرات الرجل القانونية و لغته الإنجليزية و نشاطه فى جلسات الحوار فإذا اضيف لكل هذا شهادة االبكالريوس التى يحملها فكل هذا كاف و لكن....التزوير و الغش جرائم يعاقب عليها القانون فكيف يقوم بإرتكابها من يجدر به أن يكافحها!!! و ختاما فإن نظام التعليم لدينا و المبنى على الفشخرة و تخريج مئات ألوف من حاملى الشهادات العليا أو دونها لينضموا إلى صفوف العاطلين أو مصاصى دماء الشعب الذين يريدون المناصب فى دولة نصف سكانها من الفقراء –هو نظام فاشل و غير مبنى على الواقع أو حاجة التنمية و حرى بنا ان ننظر فى واقعنا و تجارب الشعوب الأخري فى هذا المجال, اضف إلى ذلك أنه نظام ظالم أنشأه أناس درسوا مجانا ثم تنكروا لكل هذا و جعلوا التعليم الجيد حكرا على من لديهم مال!!!! قبل فترة تابعت برنامجا فى التلفزيون السودانى فوجدت المذيع يتحدث إلى حامل دكتوراة-البرنامج كان بادئا فلم أعرف فيم كانت شهادة الدكتوراة خاصته و لكنه كان يلبس جلبابا و عمامة و يتحدث عن قصة النملة مع سليمان و توقف عند جملة (لا يحطمنكم سليمان و جنوده) و أوضح بأن كلمة التحطيم هنا هى بليغة لأن العلم الحديث أثبت ان بنية النمل الخارجية معظمها مكون من مادة السليكا و هى مادة الزجاج –لذا فإن التحطيم هو أسلم تعبير و هذا صحيح و ليته سكت, واصل الدكتور و قال شيئا عجيبا هو أنه هناك ملاحظة مهمة هى أن الغراب عندما يشكو من هشاشة العظام فإنه يتدحرج فى عش النمل ,فغرت فاهى و أنا أتهم نفسى بالجهل و تتجاذبنى تساؤلات كثيرة؟ كيف عرف الملاحظون أن الغراب لديه هشاشة عظام؟ مادخل السيليكون بعشاشة العظام التى تنجم عن قلة الكالسيوم؟ كيف تنتقل المادة المرغوبة من النمل لعظام الغراب عبر الريش الكثيف و الجلد؟ نسب لنبينا الكريم قوله (اللهم إنى أعوذ بك من علم لا ينفع)!!!!!! صلاح فيصل/باحث وكاتب مستقل [email protected]